نزعة التمرّد في الحركات الأدبية النسائية

نعيم تلحوق

ماذا يعني أن نبحث عن أديبات رائدات للكلام عنهن؟ المشكلة ليست في البحث بل في الفعل المعرفي لقضايا الإنسان أينما كان وكيفما حلّ وبأي اتجاه ذهب، سواء كان عرقاً أو لوناً أو جنساً…

 إن المناداة »بأدب المرأة« يؤكد على انقسام الأدب تصنيفاً ونوعاً وجنساً، وهذا ما لا تحمله الثقافة التي تتسم بعناصر أساسية ثلاثة: العطاء، المحبة، الاحترام.. وهذا ما يؤكد دور المرأة المثقفة كما دور الرجل المثقف… أما الكتابة فهي أيضاً تلتزم شروطاً ثلاثة لتصبح: الهوية، المكان، الرؤيا… وبهذه المثالثتين، يصبح الأدب والثقافة ملتصقَيْن في جوهر العمل الإنساني. والمحكّ الرئيسي لبُنية المجتمعات الحيّة المحفّزة على وحدة الدور الإنساني على صعيد الجنس البشري… فالمرأة والرجل حصانان لعربة الحياة في معركة الوجود، وحين تكبُر مفاهيم المرأة باتجاه الحياة والوجود، يصغُر خوفها من الآخر الذي فيها، وكذلك الرجل المثقف.. لتصبح معركة الاثنين معاً هي حول الأفكار لا الأجناس والأعراق والألوان…

 تنشأ الكتابة عند المرأة لهدف كشف هويتها المضمرة، وليس بالضرورة أن يكون كشفاً جماعياً، وإنما تصريحا حقيقيا عن فداحة الذات المبهرة، التي تحمل تعباً أو هماً أو مكنوناً غير جاهز الولادة كما طبيعتها… أي أن الكتابة لديها تخرج من العاق لديها بهدف التحرر من ربقة الحروف والكلمات التي لم يقلها الصمت… وهي تعبير إرادي عن ضياع هوية أو حق أو ظلم تتكبده النفس البشرية بغية إطلاقها في المتون أو إسماعها لآخر أيّاً يكن هذا الآخر… فالكتابة هاجس المحتاج للدفاع عن حق مسلوب سواء كان هذا الحق فكرياً أو أدبياً أو جسدياً…

لقد تعددت الآراء »بالأدب النسائي« أو »النسوية« أو أدب الفئة أو الجنس، وآراء كثيرة تباينت قلَّلَّت من شأن المرأة باعتبارها مخلوقاً حيَّاً وُلد من ضلع أعوج… وقد بُنيت هذه الآراء على أساس غير صحي لتبيان الفروقات بين الهامش والمركز، ولحل هذه المشكلة علينا تفادي الوقوع في التراتبية التي تسجن الإبداع وتقلّل من شأن الخالق، فالإختلاف ليس جوهرياً هنا، وإنما هو شكلي أو تقني، ولكي يتجه الخلاف إختلافاً علينا تبيان العمل الفني كسمة قيمة لا سمة فرق…

 لا يوجد أدب ملتحٍ وآخر بعباءة، أو لأدب بشعر قصير وآخر طويل، ليست للخصوصية الخَلقية الجنسية أي آثار على الثقافة والأدب، لأن هذا المصطلح يشكل نظرة تصنيفية على أساس جنسي، وهو ما لا ينسجم مع طبيعة الأدب نفسه، ويسعى إلى خلق هامشية تقليلية مقابل مركزية مفترضة…

 إن الحركات الإعلامية والأدبية النسائية التي قامت على مدار قرن كامل أحدثت إنقلاباً جذرياً في الرؤيا والمسار حول المرأة وقضاياها حيث فرضت نفسها على الحياة العامة مع أو دون الشريك الآخر…

وإذا كان اعتبار الشرق حالة مختلفة عن الغرب فهذا مردّه إلى وجود مقدس ناتج عن مفاهيم مركزية فُسِّرتْ خطأ من بعض رجال الدين كاعتبار المرأة هامشاً في مركز، فهذا بالتأكيد لا تحكمه آلية العقل المدني الطامح إلى جعل المرأة شريكة تُبعِدُ التصنيف وتلغيه، القياس هنا هو الدور المناط بكل منهما على صعيد الإبتكار والخلق، ولا أظن أن قانوناً علمياً يحمي الرجل دون المرأة سيما في حالة التعبير عن الرأي والمشاركة في الحياة الثقافية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية وحق تقرير المصير…

 إذاً، نجحت إلى حد ما الحركات النسائية على أنواعها في بناء نزعة التمرد في الحياة العامة سيما الثقافية منها، إما فردياً أو جماعياً، في خلق مناخ تثويري تطويري للذهن التخليقي، والوعي الإنساني على صعيد بنية الأجيال وخلق المناخات حتى باتت الثورات والحروب محكاً أساسياً لمشاركة المرأة في التحرير وأصبحت الكاتبة جزءاً شريكاً في المطالبة بالحرية والمساواة والتقدم إلى جانب الرجل…

 وقد برز على مدى أكثر من قرنٍ كامل أديبات وصحافيات في لبنان والعالم العربي شكّلن مساحة ارتواء للفكر التحديثي وتمّ انتقادهنَّ من العقل الذكَري والأنثوي معاً، إن لم يكن من المرأة نفسها، حيث اشتدَّ انتقاد المرأة للمرأة في العمل الأدبي والثقافي والإعلامي أكثر من الرجل.. وهذا يدلّ على ثقافة الموروث الذي شدّد على ذكورية العقل البشري كجنس، لكنه لم ينتبه أن الذكورية عقل امرأة أخذت لعب دورين أساسيين في الحياة، حين يغيب نصفها الآخر.. لأن حركة الحياة تستمد رؤيتها من وعي الإنسان لها سواء كان ذكراً أم أنثى؟! وكذلك السلطة التي هي أنثى بالمعنى البلاغي، يستمدّ الرجل أنوثته من الجزء الكامن فيه أنثوياً، ليدرك طريقة التعامل مع الآخر.. هذا يعني أن دلالة الوعي الثقافي تتشكّل ليس حين يقمع الرجل المرأة، بل حين يقمع الرجل الرجل، والمرأة المرأة.. الاختلاف هنا سمة قيمة لا سمة فرق أو نوع أو جنس…

البحث دائماً يكون بالبحث عن الاشراقات في الأدب وما يتركه من أثر في المعنى على الحياة والكون والفن.. لذا، فالأدب والابداع والابتكار شأن فردي بحت ولا علاقة للجماعة به، انطلاقاً من كون الأدب منارة لا مرآة، إضافة إلى عوامل بيئية واجتماعية واقتصادية وحياتية تنمو قرب حركة الخلق. فالإبداع تمرّد ذاتي على حركة الجمع الموروثة، وهو جديد بالتأكيد، وكل أدب مقلّد هو أدب مكرور لا ينتج خلقاً.. فالماضي فيه معلوم، أما الكتابة الإبداعية فوظيفتها كشف الغيب واستبصار حركة الغد المجهول.. وإلآ أصبح الأدب ماكينة مصممة لصُنع صنف واحد من الأشياء…

نختزل القراءة لنقول في المشهد:

حين أسست المغربية فاطمة الفهري أول جامعة في العالم 859 م أسمتها جامعة القرويين في المغرب وعلّمت فيها شتى أنواع العلوم والفنون من )طب ونحو، وفلك، وفيزياء، ورياضيات، وتاريخ وجغرافيا، وعلوم طبيعية ولغات أجنبية وموسيقى وفقه لاهوتي وإسلامي( كانت من ناحية تبني مسجداً على حسابها لتدرأ خطر السلطة التي كانت ترفض فكرة العلم للمرأة والرجل.. فوضعت ما ورثته عن أبيها هي وأختها لصالح العلم والابتكار وهذا يعتبر امتيازاً لحركة المعنى الإنساني…

وحين لم يكن العلم بمقدوره الوصول إلى الرجال قبل النساء في فترة مليئة بالأحداث على امتداد حربين عالميتين من عام 1914 إلى عام 1951 كتبت اللبنانية عنبرة سلام الخالدي بحثاً عن سكينة بنت الحسين واعتبرتها رائدة للوعي النسائي والأدب الرفيع، وشاركت في تأسيس جمعية النهضة النسائية لتشجيع المصنوعات الوطنية بجانب رفيقاتها سلمى صائغ، نجلاء الكفوري، إبتهاج قدورة، إفلين بسترس وغيرهن.. وترجمت »الأوديسة« و»الالياذة« من الانكليزية إلى العربية، فأُطلق عليها لقب زعيمة النهضة الأدبية في نساء العرب…

إن تجليات الكتابة عند المرأة بدأت من فكرة التحرر والإحتجاج والرفض لكل ما هو قائم خارجياً في مواجهة الإستعمار وداخلياً في التحرر من »الضلع الأعوج« فجاءت الكتابة نوعاً من البوح أو الكشف عن الجسد الأنثوي وانشغالاته والتحرر من جملة الإكراهات المجتمعية وبالتحديد سلطة العقل الأبوي أو الذكري ومن ثم التحرر من اكراهات المكان للتخلص من الرتابة والسفر عبر الحلم وضرب سلطة الفضاء الأرضي…

وفي السياسة نجحت راوية عطية دخول أول برلمان عربي في مصر، حيث كانت ضابطة في الجيش المصري ودرّبت 4000 إمرأة على التمريض والاسعافات الأولية.. وكذلك فعلت الأديبة كوليت خوري في سوريا.. والسعودية حياة سندي العالمة والباحثة صاحبة مشروع »التشخيص للجميع«، تقنية حديثة تمّ تطويرها في »جورج وايتسايد« بجامعة هارفرد، والعراقية زينب صليبي الكاتبة وصانعة الأفلام وناشطة في مجال حقوق الإنسان، واللبنانية نظيرة زين الدين التي دعت إلى السفور والتمرّد على الحجاب في كتابها »السفور والحجاب« ونادت بفصل الدين عن العلم وهي إبنة مذهب التوحيد فلسفة وصوفية.. وكان زوجها رئيس محكمة استئنافية لم يستطع ردعها رغم الضغط عليها من بيئتها ومجتمعها ونظرتها للمرأة لأن تكفّ عن التأليف وإلقاء المحاضرات… نظيرة لاقت استهجاناً من النساء أكثر من الرجال…

 ويبقى السؤال ؛ هل العلاقة بين الرجال والنساء تقوم على فلسفة الإختلاف بين الجنسين بيولوجياً وعقلياً… فنياً وثقافياً؟؟ أم أن التصوّر الأفلاطوني عبر نظرية تفوق عنصر على آخر بحسب الطبيعة القدراتية أو التفكير حسب ديكارت.؟؟

هذه الأسئلة تردنا في معرض كلامنا عن اللبنانية زينب فواز الشاعرة والمؤرخة بنت تبنين في جبل عامل، التي شغلت الحياة الثقافية والأدبية في مصر خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث سبقت في إبداعها الأديب محمد حسين هيكل وناقشت قاسم أمين بدعوته لتحرير المرأة، وكانت من اللواتي تجرّأن على الكتابة الأدبية ولم يكن يعرف ذلك عن النساء عندئذ، باستثناء عائشة التيمورية وزينب فواز والتي كانت كتابتها تدعو للنهوض بالمرأة والمجتمع عن طريق العمل والمعرفة، كما دعت إلى تعليم المرأة، وممّا ألّفته كتابان: »حسن العواقب« 1899، و»الملك قورش« 1905…

 وكذلك الأمر هند نوفل التي أسست أول مجلة نسائية علمية وتاريخية وفكاهة أدبية صدرت في دنيا العرب بإسم شقيقتها ساره وهي »الفتاة« في الاسكندرية عام 1892، عبر تعريب اللغة الغربية، والدفاع عن حق المرأة المسلوب، ودعوتها إلى وعيها لمشاكلها وحقوقها ولغتها ورأيها في أمور تخصّها…

أما النظرة الدونية للمرأة مما يُدخل أدبها في المهمّش واللامفكر فيه، ما يفسر هامشية الأدب النسوي والغموض الذي يكتنف الفارق بينه وبين الأدب الذكوري، فقد أسسّت عليه الأديبة عفيفة صعب صاحبة مجلة »الخدر« 1919، والتي برهنت أن المرأة لا تقل احتراما عن الرجل في معرض حادثة جلية حصلت بينها وبين أبو معشر الفلكي الشاعر الزجلي الشيخ نايف تلحوق في مكان ضيق دينياً، حين تجرأت عليه وهو شاعر منظور في عائلته وبلدته وكان يرتاده العلماء والبحاثة والشعراء، فحين دخلت ذكورته إلى أحد المآتم لتعزية النساء، فلم تقف أية إمرأة في مجلس العزاء، )كما هي التقاليد المتوارثة( فعزّت عليه نفسه وغضب، فوقف على باب التعزية قبل خروجه وأردف بيتين زجليين قال فيهما:

آدم خلق بالأول / هوّي وواقف بيبوّل

وحوّا شالا من ضلعو/ ولتصير متلو بتطّول..

هنا انتفضت عفيفة صعب من مكان النساء وأردفته بيتين من الشعر الزجلي ردّاً على ما قاله :

يا شيخ علينا الجاني / وإنت لألنا الحاني،

ما منحب الوقفة كتير / أفضل نبقى عالتاني…

واختتم المأتم بجلسة من الضحك والتهريج…

إن خروج امرأة من فكرة الأنوثة إلى فكرة المرأة بكل ما تعنيه هذه الكلمة هو تحرير الرجل عينه من النظرة الشبقية لها كونها أداة للمتعة ومتنفساً للشهوة، أو كونها سلعة للإستغلال، وبالتالي خروجها من التشيؤ إلى الخَلق، فتكون حينئذ نظرة الرجل مساوية لنظرته لحقوقه الفكرية والمجتمعية والإنسانية طالما الكتابة فعلٌ سافرُ وكشفٌ للداخل… إن طرح الأدب النسائي هو تكريس للعزلة والتهميش، وقد آن الآوان لنضع حداً لمسألة الفصل وتحديد مقاييس خاصة مقاربة علاقة المرأة بالكتابة أدباً وصحافة…

وبما إن الإبداع حالة خاصة، فالتمرّد نزعة شخصية أيضاً، لا يفرّق بين رجل وامرأة، خاصة في الأدب، من هنا نرى أن المشكلة تكمن ليس في العرق أو الجنس أو اللون، بل في قيمة العمل الفني والمعنى الذي وُضع لأجله.. وهذا لا يكون إلا بالتمرّد القائم على كشف الذات والآخر فينا أولاً، سواء كنّا في السلطة أو خارجها.. وسواء كنا رجالاً أو نساءً، في الأدب لا فرق بينهما…