إشكالية موقع دراسات المستقبلات في البنيان المعرفي الإنساني

أ. د. مازن الرمضاني*

يؤكد، المفكر العربي فؤاد زكريا، أن الشروط، التي تُعّد »… مقياسا نقيس به علمية أي نوع من التفكير، الذي يقوم به الإنسان، تكمن اساسا في توافر ثلاثة منها : موضوع، ومنهج، وغاية«.

ويفيد واقع دراسات المستقبلات أنها، ومنذ البداية، قد تأسست على ثلاثية هذه الشروط الموضوعية، وهو الآمرالذي يلغي القول المتسرع إن هذه الدراسات هي »… أقرب إلى النزهة الفكرية )أو( نوع من الرجم بالغيب«.

فأما عن الموضوع، فتجدر الإشارة إلى أن العلوم الصرفة والتطبيقية، وكذلك حقول المعرفة الإنسانية والإجتماعية تنصرف إلى البحث في مواضيع ذات مضامين أما كلية أوجزئية ذات علاقة وطيدة بها.

و كحقل معرفي، لا تختلف دراسات المستقبلات عن سواها. فهي الآخرى تقترن بموضوع محدَد لا يتباين الرأي بشأن مضمونه، وأن يتم التعبيرعنه بصياغات لغوية متعددة. فمثلا قال المستقبلي الامريكي، إدوارد كورنيش : »إننا عندما… نتحدث عن المستقبل )فأننا( نعني )به( مستقبل شىء ما، )أو( موضوع ما، )أو( وضع ما كما سيكون في فترة زمنية أتية«.

وتماهيا مع عمومية هذه الرؤية، يؤكد مثلا ماجد فخري، أنّ موضوع دراسات المستقبل يتمحور حول الإنشغال بالوجود الممكن. وبه يقصد »… الكائن الذي لم يوجد بعد ولكنه قابل للوجود في الزمان )الآتي(… بحكم قاعدة سيلان الزمان وأندفاعه«.

ونرى أن هذا الفهم لطبيعة موضوع دراسات المستقبلات يجد تبريره الموضوعي في أنّ هذه الدراسات تنفرد عن سواها بسؤال محدَد، هو: كيف يمكن، أو يحتمل، أو ينبغي أن يكون المستقبل؟. وهذا السؤال هو الذي يجعل من هذه الدراسات، دراسات تطبيقية/ عملية ترمي إلى إستشراف مستقبلات أحد المواضيع، الذي قد يكون كلانيا/شاملا، كمستقبل النظام السياسي الدولي أو العالمي في زمان قادم )س(، أو أحد نظمه الفرعية، كمستقبل الوطن العربي أو الاتحاد الاوربي مثلا حتى عام محدد، أو قد يكون هذا الموضوع قطاعيا/جزئيا، ومثاله مستقبل احدى الدول أو بعض جوانب واقعها: الاقتصادي أو الإجتماعي أو سياستها الخارجية حيال أحدى الدول أو مجموعة منها… الخ في زمان قادم.

وكما أن المواضيع، التي تنصرف دراسات المستقبلات إلى إستشراف مستقبلاتها، تمتد على مساحة واسعة تشمل حتى جزئيات الجزء في أحيان، ومنٌ ثٌم يَصعب حصرها، كذلك تختلف أفاقها الزمانية، هي الاخرى، من موضوع إلى أخر. فهذه الآفاق تمتد من المستقبل المباشر مرورا بالقريب والمتوسط صعودا إلى البعيد وغير المنظور.

وأما عن المنهج، فغني عن القول إن أي دراسة لا تكتسب خاصيتها العلمية، إلا بالتطبيق السليم لمقاربة منهجية محددة، أو لعدة مقاربات متكاملة.

 وكما هو الحال مع علوم وحقول معرفية أخرى، كذلك هو الحال أيضا مع دراسات المستقبلات. فقد أفضت مساهمات مستقبليين ينتشرون عبر العالم، فضلا عن أن أتجاه هذه الدراسات إلى التكامل المنهجي مع علوم وحقول معرفية أخرى، إلى أن تتميز بثراء منهجي ساعدت مخرجاته على دعم مصداقية هذه الدراسات بعنصر فاعل مهم ومضاف.

وفي ضوء تطورها المنهجي عبر الزمان، يؤكد المستقبلي الامريكي ويندل بلِ، أنٌ دراسات المستقبلات »… أضحت تقترن بثراء منهجي أتاح لها إنجازغايتها بجهد أيسر ومخرجات أدق بالمقارنة مع واقعها خلال زمان بداية إنطلاقتها«.

ونرى أن مخرجات ثلاثة مداخل أساسية قد افضت إلى هذا الثراء المنهجي: فأما عن المدخل الاول فهو الإنتشار العالمي لهذه الدراسات والذي جعلها تضحي ظاهرة عالمية. إن هذا الواقع لم يؤد إلى مجرد إنتشار المستقبليين في العالم وبخلفيات ثقافية ورؤى فكرية وأهتمامات علمية و/أو عملية متعددة فحسب، وإنما أيضا إلى أنّ تشهد هذه الدراسات في عدد من الدول الآسيوية، ولاسيما تلك المتقدمة منها وكذلك السائرة في طريق النمو، إنطلاقة مفتوحة تدعمها إستجابة رسمية واسعة.

فإضافة إلى أن هناك قائمة طويلة من هذه الدول التي ذهبت إلى التخطيط رسميا لمستقبلها في أزمنة لاحقة متباينة ومثالها الصين في عام 2050، والهند في عام 2020، وماليزيا في عام 2020، تميزت أيضا جامعات بعض هذه الدول الآسيوية بتقديمها أفضل البرامج الاكاديمية ذات العلاقة بدراسات المستقبلات كجامعات فو جونج في تايوان وكيرالا في الهند.

وأما عن المدخل الثاني، فمفاده أنٌ إنطلاق دراسات المستقبلات من أنماط مختلفة من التفكير أفضت إلى الآخذ بمقاربات منهجية تستوي ومضامين هذه الانماط، وبمخرجات أدت إلى إغناء هذه المقاربات وترصين مخرجاتها. وسنتناول هذه المقاربات في مقال لاحق.

وأما عن المدخل الثالث، فلقد دفعت الحاجة إلى العمل المشترك بين مستقبليين، تتميز ثقافاتهم بالتنوع وتجاربهم بالتباين، إلى دعم الإستفادة المتبادلة من بعض. ولم يؤد العمل المشترك بين المستقبليين، سواء على المستوى الثنائي أو الجماعي، إلى مجرد تقليص فجوة العزلة الثقافية والمنهجية السابقة في ما بينهم فحسب، وإنما سهل كذلك الاخذ بالتكامل المنهجي بين مقارباتهم الكمية أوالكيفية المستخدمة في دراساتهم، وبمخرجات دعمت رصانة دراسات المستقبلات بعنصر مهم مضاف.

وأما عن الغاية، فدراسات المستقبلات تُعبرعن جهد علمي يسعى إلى تحقيق غاية مباشرة محددة ذات علاقة بالموضوع الذي تنصرف كٌل منها إلى إستشراف مشاهد مستقبله. ومع أنّ مخرجات الغاية المباشرة لهذه الدراسات تفضي بالضرورة إلى تحقيق غايات أخرى مهمة ولكن غير مباشرة، سنكتفي بالتناول السريع للغاية المباشرة لدراسات المستقبلات.

لقد أفضى تطور هذه الدراسات عبر الزمان إلى تطور مماثل ومهم في نوعية غايتها المباشرة. ففي البدء ذهب مستقبليون إلى الاخذ بفكرة أنّ المستقبل يُعّد أمتدادا إليا لمعطيات زمان ماضي المستقبل. وجراء ذلك تم توظيف مقاربة التنبوء لإستكشاف الصورة التي سيقترن بها المستقبل. وقد عُد هذا الإستكشاف، في وقته، بمثابة الغاية النهائية لكل دراسة مستقبلية. ومن هنا جاء إستخدام كلمة بدالة المفرد للتعبيرعن هذه الغاية. )The Future( المستقبل

إن شبه التحول في رؤية العديد من المستقبليين، من واحدة تميزت بإنغلاقها وحتميتها إلى أخرى اقترنت بإنفتاحها وتعدد إحتمالاتها المشروطة، دفع إلى الاخذ بمقاربة مختلفة رمت إلى إستشراف المشاهد المتعددة والبديلة للمستقبل. ومن هنا يستخدم كثيرمن المستقبليين كلمة المستقبل بدالة الجمع، أي مستقبلات على غايات دراساتهم. ويفيد هذا الإستخدام بإتجاه عالمي. للدلالة)Futures(

ونحن، وأنٌ نتفق مع هذا الاتجاه العالمي، إلا إننا نرى أنٌ الغاية المباشرة لدراسات المستقبلات تتجاوز مجرد إستشراف المشاهد البديلة للمستقبل، إلى توظيف مخرجات هذا الإستشراف سبيلا لصناعة المستقبل. ولان هذه الصناعة هي الغاية النهائية لدراسات المستقبلات، يضحي الاخذ بمقاربة الإستشراف بمثابة السبيل العلمي لتحقيق هذه الغاية. وبهذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أنٌ الدراسة المستقبلية، عندما لا تتطلع، سواء بصورة مباشرة أوغير مباشرة، إلى تسهيل الإستعداد المبكر للمستقبل للتحكم فيه أو للمشاركة في صناعته، فأنها تفقد جدواها وهويتها في أن.

وجراء ذلك تتميز العلاقة بين الإستشراف وصناعة المستقبل بتداخلها. ويعبرعن هذا التداخل، المستقبلي الامريكي توماس لومباردو، الذي يؤكد : »أن خير وسيلة لإستشراف المستقبل تكمن في صناعته، وأن خير وسيلة لصناعة المستقبل تكمن في إستشرافه«.

وعلى الرغم من أنٌ دراسات المستقبلات تتوافرعلى الشروط أعلاه، والتي تفضي عليها السمة العلمية، بيد أنٌ هذه السمة لم تحل دون إستمرار الجدل بين المستقبليين حول موقع هذه الدراسات في البنيان المعرفي الإنساني. فهذا الجدل أفضى عبر الزمان إلى رؤى تباينت بين من أدركها علما، وأخر صنٌفها فنا، وثالث أعتبرها امتدادا للدراسات البينية؟

ونرى أنّ السمة العلمية التي تتميز بها دراسات المستقبلات، والتي تدعم تباينها عن الانماط الاخرى للتفكير الإنساني في المستقبل كالتفكير الديني، والفلسفي، والخيالي العلمي، إلا أن هذه السمة لا ترتقي بدراسات المستقبلات إلى مستوى العلم، وبالمعنى المتعارف عليه.

فالعلم، وكما يؤكد قاموس أوكسفورد، هو: »… كلّ نشاط فكري وعملي يتضمّن الدراسة النظامية لحقيقة ما عبرإستخدام الملاحظة والافتراض، والتجريب، والبرهنة إستنادا إلى معطيات يمكن التحقق منها وأثباتها«.

ونرى أن عدم إرتقاء دراسات المستقبلات إلى مستوى مفهوم العلم، يُرد إلى أنّ جّل عناصرهذا المفهوم لا تنسحب عليها. وذلك لسببين في الاقل : أولهما إنٌ إهتماماتها تنصرف، في العموم، إلى دراسة مستقبلات مواضيع أجتماعية سياسية تتميزمتغيراتها بالتنوع والدينامية والتعقيد وهوالامرالذي لا يتيح إخضاع مضامين هذه الدراسة للقياس و/أو البرهنة، ولا يجعل كذلك من عملية التحقق التجريبي من مخرجات هذه الدراسات ممكنا.

وثانيهما، أنٌ دراسات المستقبلات تعاني من مخرجات إشكاليات متعددة لا تساعد على سحب مفهوم العلم عليها ولاسيما تلك الإشكالية التي تفيد أنٌ المستقبل هو زمان لم يحن بعد، وأنٌ نوعية المعلومات المتوافرة عنه في الحاضر على الرغم من مخرجات الثورة المعلوماتية، لازالت لا تساعد على الإحاطة الشاملة والدقيقة به، مثلما تُحيط دراسات الماضي و/أوالحاضر بمواضيع أهتماماتها.

وفي ضوئه يتكرر القول أنٌ دراسات المستقبلات لاتنصرف إلى دراسة المستقبل، بالمعنى الذي تقترن به كلمة الدراسة، وأنما تعمد إلى تقديم أفكارعن المشاهد الممكنة و/أوالمحتملة و/أو المرغوب فيها للمستقبل عبر الإستعانة بمقاربات منهجية علمية محددة.

لذا، يذهب العديد من المستقبليين، ومنذ الستينيات من القرن الماضي في الاقل، إلى رفض تبني مفهوم »علم المستقبل« Futurology، الذي كان المؤرخ والمستقبلي الالماني الاصل أوسيب فلختهايم Ossip Flechtheim قد أبتكره في عام 1943 وأعاد تسويقه في عام 1965.

فمثلا قال المستقبلي الهولندي فرد بولاك Fred Polak : »… إن المستقبل مجهول… فكيف نرسي علما على المجهول«. وبدوره، أكد المستقبلي الفرنسي برتران دو جوفنيل )Bertrand de Jouvenal ( »… إنٌ المستقبل ليس عالم اليقين، بل عالم الإحتمالات، )ولان(… المستقبل ليس محددا يقينيا، فكيف يكون موضوع علم من العلوم«.. ومن هنا جاء مؤلفه المهم يحمل عنوان : فن الرجم بالغيب، والصادر في باريس عام 1963.

وعربيا، يؤكد، مثلا، المستقبلي العربي المهدي المنجره، أنٌ دراسات المستقبلات ليست بعلم حتى وإنٌ إستعانت بمقاربات منهجية من حقول معرفية متعددة. أما زكي الميلاد، فقد رأى أنٌ هذه الدراسات لا تدخل »… ضمن دائرة الوجوب أو الإمتناع وإنما في دائرة الإمكان«.  وبهذا الصدد، يقول المستقبلي العربي، محمد ابراهيم منصور: أن »… تسمية علم المستقبل تسمية مبالغ فيها، )سيما وانها( توحي بأن المستقبلية تدرك بوضوح غايتها وقادرة على بلوغ نتائج مضمونة حقا، وهوأمرمخالف للحقيقة«.

 ومثلما ذهبت جمعية مستقبل العالم الامريكية، في نهاية الستينيات من القرن الماضي، إلى فض الإختلاف بين المستقبليين حول تسمية التطبيقات العملية للتفكير الإنساني العلمي في المستقبل، كذلك عمدت إلى تحديد موقع دراسات المستقبلات ضمن البنيان المعرفي الإنساني. فتأكيدها أنّها محصلة لمساهمات حقول معرفية متعددة : علمية وفلسفية وفنية دفعها إلى تصنيف هذه الدراسات ضمن تلك الدراسات المسماة بالبينية )Interdisciplanery(، الناجمة عن التفاعل الإبداعي بين مجموعة من حقول معرفية متعددة.

 ويرى، المستقبلي العربي ضياء الدين زاهر أنٌ هذا التصنيف مرده قناعة مؤداها« … أنٌ دراسة المستقبل لا يتسنى لها أنٌ تصبح متكاملة إلا إذا نظرنا إلى هذا المستقبل من خلال عدسات مختلفة التخصصات… فالدراسات الجادة للمستقبل تتكامل فيها أشكال من المعارف والمناهج… (وتكون( محملة بأكثر من تخصص علمي. فوضع سيناريوهات لمستقبل العلم والتكنولوجيا في عام 2025 مثلا، لا يتم من دون أنٌ نضع في الإعتبار)العوامل المؤثرة في تشكيل( النسق الاجتماعي الاقتصادي الحضاري… إذ أن جميع هذه العوامل تتبادل التأثير والتأثر«..

 إن تصنيف دراسات المستقبلات كدراسات بينية، وأن يضفي عليها سمة مهمة مضافة، إلا أنه قد يفضي إلى حسم إستمرارالجدل حول موقعها في البنيان المعرفي الإنساني، سيما وأن العديد من المستقبليين يرون أن إطلاق تسمية متعدية، أو عابرة، التخصصٌات على دراسات المستقبلات هي التسمية الاكثر ملائمة ودقة لوصف هذه الدراسات.

وعلى الرغم من شبه الإتفاق بين المستقبليين على عدم تصنيف دراسات المستقبلات كعلم، يُلاحظ أنً كثيرا من الباحثين العرب في موضوع المستقبل لازال يعمد إلى إضفاء سمة العلم على هذه الدراسات.

فإضافة إلى أن بعضهم يجعل من كلمة علم لصيقة بعناوين مؤلفاتهم أو بحوثهم أو مقالاتهم ذات المضمون المستقبلي كالقول مثلا بعلم المستقبل، أوعلم الدراسات المستقبلية أو علم حساب المستقبل أو علم تخطيط المستقبل… الخ، ينطلق بعضهم الاخرمن هذه الكلمة لتحديد مَفهومه لدراسات المستقبلات أو يؤكٌدون عليها. فمثلا يرى، وليد عبد الحي، أنها : »العلم الذي يرصد التغيير في ظاهرة معينة ويسعى لتحديد الإحتمالات المختلفة لتطورها في المستقبل.. «.. ويذهب، طارق عمر، إلى القول : »… لم يعٌد ثَمة حرج في الإشارة إلى هذا الميدان )الدراسات المستقبلية( بإعتباره علما من العلوم الاجتماعية هوعلم المستقبليات«.

 *استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات