قِراءة في ديوان: »أُقشِّر لك الفرح«، للشاعر عماد بدران

الكلمة أُنثى  لذا فهي خصبة، لا تنفك تُعطي الحياة، وزاد الشاعر كلماته.

نسرين الرجب_لبنان.

إنّ الشاعر هو من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يُعدّدها و يُحصي أشكالها وألوانها،  كما يقول عباس محمود العقّاد، فالشعر هو محاولة لتحرير الكلام من عاديته، هو الشعور العميق الذي لا تطاله إلّا أصابع مُرهفة وعقول أعياها الظمأ في البحث عن المعنى فالتجأت لغياهب القلب.

 من هنا  ليس مهمة الشاعر أن يجد شبهًا يُعلّق عليه أثقال معانيه، بل مهمته أن يدُل على الشيء بعينه أن يُمسكه بيده ويدعونا لتأمل حقيقته، والشاعر عماد بدران في ديوانه لا يبتدع كلامًا ما قاله أحد من الشعراء ولكنه يبتدع سياقًا رقراقًا قد يغترُ المُتلقّي بسهولته، وفي محاولة لتقليده قد يخدش هشاشة الكلمة ولا يُفلح إلّا من تزكّى، وزكاة الشعر ابتداع الجمال.

أوّل الوصول الوقوف على العتبات

الديوان من تقديم الشاعرهاني نديم، ومُهدى إلى المرأة الأولى وهي الأم، الحب هو الوفاء ووفاء الشاعر يتبدى أغنية في هذا الإهداء، ويتألف من 75  قصيدة هي عبارة عن نصوص نثريّة تميل للقصر في أغلبها .

لوحة الغلاف هي بمثابة الإطلالة الأولى التي قد تَصيب وقد تَخيبُ أحيانًا في تحقيق انسجام مع  عوالم الكتاب ، في ديوان أقشّر لك الفرح نقع على  تجاذب وتماثل معنوي جميل بين اللوحة والعنوان ومحتوى الكتاب، اللوحة للفنانة التشكيليّة جنان خليل،  تنضج أمام الرائي لوحة كُلما نظرت إليها زالت قشرة من غمامة اللون الوردي وضربات الريشة الصاخبة لتشف النظر عن ملامح امرأة ، شجرة مورقة وجه طفلة، وقد تنفتح الرؤية عن ملامح خفيّة، لعلّه الحب في طفولته الأولى زهري، يضرب للحُمرة الضاجة بشتّى معاني الجمال.

جاء العنوان جملة فعليّة، قشَرَ يَقشُر ويَقشِّر قَشْرًا، قَشَرَ الشيءَ : نَزَعَ عنه قِشْرَته، فعل يوحي بدلالته دلالة التحبّب وهو فعل مضارع يُفيد الاستمراريّة  في الصورة والمعنى،  من خلال صياغته تصاغ  الصورة الحسيّة واللحظة الجماليّة، فالشاعر يُقشّر الفرح لمن يُحب تركيب مجازيّ في استعارته ، وشاعريّ حد الإدهاش  في صورته الفنيّة.

2- صدق الشعراء لو عشِقوا

 في البدء كانت الكلمة، الكلمة أنثى  لذا فهي خصبة، لا تنفك تُعطي الحياة، وزاد الشاعر كلماته.  في ديوان »أقشّر لك الفرح«*، يتّخذ الشاعر من الكلمة يقينًا وسفرًا، فنقع على نصوص  ذات رؤيا شعريّة مُغرِقة في الحُب، يحضر معجم الحب بخصوبته حيّا يستدعي كل دلالة الأمل543723_10151349482590286_532987781_n_7520f والانوجاد، فنجد تكرارًا لبعض الكلمات كـ المطر، الصباح، عينيك، غيمة، العمر، وغيرها من مفردات، فمفردة الصباح قد تكرّرت  في العديد من نصوص الديوان ، منها قصيدة  بعنوان »صباح« ، »لك أنت أتبرج مع الصباح«  »لك وحدك أرتّل الصباح: أحبك«، وغيرها من الجمل الشعريّة التي تتّخذ من الصباح دلالة مركزيّة لها : »صوتك الصباحي الباكر«، وفي نص يقول: »صباح الخير خبأت لك قبلة«، فالصباح هذا المقطع الزمني الذي به تبتدئ يومياتنا يبدو مغايرًا وأكثر من مجرد كونه زمنا، يقيم له العاشق احتفاليّة خاصة لأنه يعطيه فرصة لارتشاف صورة الحبيبة  وسماع صوتها،  »يزورني الصباح كل يوم/ أرتشف صورتك«، »صوتك الصباحي زاد النهار من قهوتي«، كالصباح أراوغ الحروف، لا أجد أجمل من لوحة أحبك وأحبك«،  فللصباح فراشاته هو الأمل المتجدد عندما يصبح للعطر معناه »أطلق فراشات صباحي مسحورة بعطرك«.

 الحب يمنح الأشياء دلالتها ، لذا فليس جِذافًا أن يقول الشاعر عندما يعشق ما يقول، مادام صادق الشعور، هذا الصدق العفوي الذي لا يرتجي التكلّف في صياغة العبارة، »كوني لي كي أتساقط مطرًا أتناثر تفاصيل عشب..«، فالكلمة في الشعر هي امتلاء المعنى،  والشاعر في ديوانه يُشبع صوت القصيدة بكلمات قليلة  ففي نص بعنوان »ترميم« يقول: »قبلة  ترمّمني،/ كل ما سأحلم به هذه الليلة، أيتها البعيدة« فبين العاشق الحالم والحبيبة البعيدة  هناك قبلة تؤدي دور الفعل رمّم ، إعادة بناء ما تحطّم ما أيبسه البعد، عبر تحرير الكلمة من مرجعيتها  كما حرّر الفعل رمّم من ماديته ليمنحه طاقة الصوت والكلمة،  وفي نص بعنوان  نغمات: »يا امرأة/ كتبت لها قصائدي / أين أنت؟ متى تطلعين / من نغمات حروفي/ كي ألقاكِ« تظهر صورة المرأة المُتخيّلة التي  موّه بها الشعراء عن حقيقة كونهم يكتبون لامرأة حقيقيّة ومتواجدة في الحيز الزماني والمكاني حيثُما هم، ربما لإيمانهم بأنّ ما يكتبون عنها اليوم قد لا تكون ما هي عليه غدًا، ربما  اذا »عيناك شواطئ أمان/ يا بحرك/ أغوص ولا أرتوي« فقد يهزم البحر أمانه، ولأن الحب مغامرة  كما كل التجارب »أن تحيا في هذا الكون مغامرة/ مخاطرة/ أن تكتب في الحب/ مغامرة/ ولأني أحبك أجازف بالعمر/ أكثر وأكثر«.

 قد يحدث أن نجدنا نلاحق طيف امرأة تحيا بين صفحات هذا الديوان، والشاعر يقشّر لها الفرح ونحن نترقّب ما آل إليه حالهما »وحدنا في هذا العالم/ لا أرى أحدا غيرك/ أنت/ هل ترين غيري؟«  اختلاق الفرادة وإحلال العالم في شخص محبوب واحد، هو العالم كله،  ولكن ماذا لو ».. لما بلغت المواسم أدماني الفراق«، كما يقول في نص بعنوان »غيمة« تكمن المفارقة الجماليّة في مخالفة التوقع، أن يبلغ الحبيب موسم القطاف فيدميه الفراق، الفراق اللامتوقع ، استعمال الكلام يولد ايقاع  معنوي  قد يتخذ من الصمت وسيميائيّة البياض وجهته، فالطابع الغالب على النصوص قصرها حيث تتناثر الكلمات على الصفحة البيضاء وتترك للصمت حيزًا قد يملأه تردد الصدى، ما يرميه الصوت في نهر تأملاتنا ويغيب في دوائر.« لا تكره أبطالك حين تسمع صدى أصواتهم/ تذكر أنك أحببتهم يوما«.

يبدأ الكتاب بنص »صباح« وينتهي بـ»وصيّة«، التي تحيل إلى معجم الموت، وهذه الوصيّة هي حلم بالرحيل مبتسمًا  وحبيبته معه، فهل الواقع كان مخيبًا حتى يرتجي الشاعر الحلم وصيّة لتكون حبيبته معه؟!  هل نحن أمام دورة الحياة التي تبدأ بالولادة  وتنتهي بالموت ؟؟ أم أنه الحب أشبه بالولادة والموت؟؟

يهتم الشاعر لاستخدام الكلام  على مقاس تجربة الحب التي نجدها في نصوص الديوان ، يمنح اللغة خصوبتها ويحررها من آليتها وأنيتها ، على الرغم من أنّ اللّغة المستخدمة  قريبة من الأفهام وسهلة الإدراك، إلّا أنّه في  استخدامها السياقي   يلجأ للغرابة   للإدهاش، حيث  الكلمة تمتلك  قيمتها في خرق الإلفة ورفع الكِلفة وهذا ما يولد الانفعال الجمالي. يلجأ الشعر إلى إعادة شحننا بالاستمراريّة  وهنا ليس المهم ما هو الشيء عليه بل بما قد يصير إليه، بما قد تصيره الغيمة، أو يعنيه المطر، وبما قد تحمله العرّافة من اعترافات تلفت فيها خيال العاشق الذي أعيته الأحزان كما في قصيدة »العرّافة«، وبما تنقله لنا حكاية العاشق مع محبوبته التي تردد اسم محبوبها لتشفى من حمّى الرجال كما في قصيدة »أقشّر لك الفرح« حيث يبرز التوازي بين حالتي العاشق ومعشوقته، فتبدأ القصيدة بكاف التشبيه »كطفلة«، التشبيه في بساطته الأولى  يُخفّف وجه الشبه عن المُشبّه به، ويبرز حقلين دلالييْن لمجموع من الأفعال المتعلّقة بالعاشق والمحبوبَة  ، الأفعال  المتعلّة بالمحبوبة يغلِب عليها طابع التلقّي والتدّلُل وهي أفعال مُتفاعلة أكثر من كونها فعّالة؛ الخوف، الضحك، العد  : »تتعلقين، تخافين، تعدّين، ترددين، لتشفي، تضحكين تخطرين، تهمسين، » الأفعال المتعلّقة بالعاشق  تدل على العطاء والاستمراريّة  وهي أكثر فعاليّة: »أتعلق، أكتب، أقشر، أطعمك«، ويختتم بفعل دعوة يجمعهُما معًا : »أمسِك يدي لتهرب الأشباح/ ونفرفط الحب عن شجرة الفرح«.

 فالأدب يمنح الأشياء أبعادًا تفوق المحدود، ما هو عادي قد يدخل الأدب في تفاصيله اللامحدودة، ليُعيد تشكيل معناه، ويصوغ الجمال من اللامتوقّع.

*صادر عن دار الحداثة بيروت في طبعته الأولى 2013.