رحيل معبودة الجماهير.. شاديه

زهرة الغناء ووردة الطرب وريحانة النغم

رحلت شادية.. كما ترحل الزهور من على أغصانها، والورود من أفنانها، في عمر مهما طال فهو طرفة من عين ولمحة من زمن. رحلت البسمة الشفافة في ليالينا الحزينة، والنسمة الرقيقة في أجوائنا الساخنة. رحلت كما ترحل الطيور من أعشاشها، وترحل السنوات من عمرها، ويزهد الزمن من ساعاته. ولم يبق منها الا ما بقي من كل الذين احببناهم، وكان لهم وجود وسحر لايقاوم وبقاءا لم ولن يفنى فهو عزاؤنا وسلوانا.

رحلت شادية وان كانت قد تركت من ورائها تراثا يحمل كامل عطرها. يتنوع على اسماعنا كما تنوعت ويتدفق على عيوننا كما تدفقت في موهبة ذات ثراء وغنى حتى في المجال الواحد، فهي كمطربة لم يقتصر أداؤها على اللون العاطفي، بل تمدد وانتشر على ألوان مختلفة، فهي كما غنت للحب شدت للوطن، وكما بثت أشواقها للأبن وللطفل فقد ناجت وأنشدت وأبدعت في أعمالها الدينية. شادية صفحة زاخرة من الأعمال التي كان عمادها الأساسي موهبة الصوت، وصفحة أخرى لاتقل أهمية في أدائها، وعمادها الأصيل القدرة على الأداء في فن التشخيص أو

شادية مرحلة الحجاب
شادية
مرحلة الحجاب

التمثيل. هي فنانة مقتدرة، لاحدود لموهبتها الغزيرة، فهي تفيض موهبة وعطاء كما يفيض النهر بمائه فتخضر الأرض ويثمر الشجر. هي كيان بشري يقطر حسا، وينفث دفئا ويعتصر تعبيرا، ويكتمل أداء وفنا.

رحلت شادية خفيفة الظل والروح، التي كانت تملأ الشاشة بالحيوية اللافتة، من خلال صدق التمثيل، ورهافة الحس وتعبر عن كل ذلك من خلال الأداء الرفيع. كثيرون وعلى الأخص من النقاد، قالوا انها فنانة كل الأدوار، الكوميدي كما في فيلم )مراتي مدير عام( وتراجيدي كما في فيلم )المرأة المجهولة( أما الأفلام الغنائية فقد كانت هي ملعبها الذي تشكلت من خلاله. اسمها الحقيقي )فاطمة احمد كمال شاكر( وكان والدها مهندسا زراعيا، واسم الدلع داخل الأسرة )فتوش( ولدت في 8 فبراير عام 1931 ورحلت يوم 28 نوفمبر عام 2017 عن عممر يناهز 86 عاما.

البدايات الفنيه

حين اكتشف والدها موهبتها الغنائية قدمها للمخرج )أحمد بدرخان( وكان يقوم باخراج فيلم )أزهار وأشواك( بطولة)مديحة يسري( ولكن المخرج وجدها صغيرة السن فاكتفى باستخدام صوتها كمطربة في أغاني الفيلم، وعرفها المخرج )حلمي رفلة( وكان يقوم باخراج فيلم )العقل زينة( وهو من انتاج شركة المطرب )محمد فوزي( في اول انتاج لها فاختارها لبطولة الفيلم عام 1947، وأطلق عليها اسم )شادية( فقد كان يعرض على شاشة السينما في تلك السنة فيلم )شادية الوادي( بطولة ليلى مراد ويوسف وهبي ، ثم بدأت مسيرتها الفنية الناجحة، وكان ثاني أفلامها )حمامة السلام( مع كمال الشناوي، وبنجاح الفيلم تم اختيارهما معا لبطولة العديد من الأفلام، ويذكر ان لشادية أختا كانت تحترف الفن أيضا غناء وتمثيلا )عفاف شاكر(، وكانت من جانب آخر أولى زوجات كمال الشناوي. رغم تعدد الأدوار التي قامت بها شادية، وتعدد الفنانين الذين شاركوها البطولة الا أن مسيرتها عرفت منهم بعض الفنانين الذين قدمت معهم أعمالا متعددة بما يشبه )الدويتو أو الثنائي( منهم كمال الشناوي، ولهما دويتو غنائي شهير معا هو )سوق على مهلك( في فيلم )بشرة خير(، وكان النجاح الذي صادفته افلامهما سببا في تكرار الجمع بينهما، ويقول كمال الشناوي )كان نجاح أفلامي مع شادية سببا في تحقيق ايرادات خيالية حصدها المنتجون، ويستطرد ايرادات بنت عمارات وحصلت على أراض( بل ان كمال الشناوي حين اقدم على الأنتاج، وقدم فيلم )وداعا في الفجر( كان حريصا ان تكون البطلة أمامه الفنانة شادية ، ولها أغنية شهيرة في هذا الفيلم )دور عليه دور، ياللي عينك شايفاه وبرضه بتدور(.

شادية.. بطلة متميزة لأفلام الطرب

رغم ان ليلى مراد أول سيندريلا للشاشة العربية، مثلت العديد من الأفلام الغنائية الا أنها لم تمثل سوى مع ثلاثة مطربين فقط كان الأول هو )محمدعبد الوهاب( في أول افلامها )يحيا الحب( والثاني كان )ابراهيم حموده( في فيلم )شهداء الغرام( والثالث كان )محمد فوزي( في فيلمين هما )المجنونة وورد الغرام، ولكن شادية كان عطاؤها أكثر، ربما لأن مسيرتها الفنية كانت أطول، فتعدد ظهورها مع مطربين، وأيضا قبلت بالمخاطرة بظهورها وهي فنانة شهيرة ذات موقع وقدم في عالم الغناء والتمثيل مع وجوه جديدة تظهر لأول مرة على شاشة السينما، ومنها الوجه الجديد المطرب عبدالحليم حافظ في أول أفلامه )لحن الوفاء( ولهما أغنيات شهيرة في ذلك الفيلم )تعالي أقولك واوبريت لحن الوفاء(، والوجه الجديد الثاني كان المطرب )كمال حسني( في أول وآخر أفلامه )ربيع الحب( ولهما أغنية شهيرة وسط أحداثه وهي )لو سلمتك قلبي

شادية في دور الأم
شادية في دور الأم

وأديت لك مفتاحه( فقد اعتزل الفن بعد ذلك وعاد الى وظيفته الأولى محاسبا في احد البنوك، ويبدو أن عبدالحليم حافظ قد حفظ لها ذلك الموقف في مساندتها له في بدايته فاختارها لبطولة فيلمين معه بعد ذلك هما )دليله( وأشهر ثنائية لها معه في هذا الفيلم )أحنا كنا فين عمرك اطول من عمري( وفيلم )معبودة الجماهير( وأشهر ثنائية فيه أغنية )حاجة غريبه(، وكانت شادية وصباح هما المطربتان اللتان مثلتا أمام عبدالحليم، وان كان للأسف لم يجمع الفيلم أي ثنائية غنائية له مع صباح. تقول شادية عن عبدالحليم حافظ : حين سمعت صوته أول مرة أطربني فهو صوت جديد في نبرته، كما ان هناك لمسة حزن أو شجن تغلف تلك النبرة، وهي بدورها أعطت للصوت جمالا مضافا، وان كنت تصورته في خيالي صوتا لرجل طويل وعريض، وسألت عنه الملحن كمال الطويل مبدية اعجابي بصوته، وفي احدى المرات كنت في معهد الموسيقى العربية والتقيت كمال الطويل ووقفت اتحدث معه وفجأة قال لي : انظري لقد حضر من كنت تسألين عنه عبدالحليم حافظ، فالتفت فوجدت شابا نحيلا مختلفا تماما عما تصورته، وبعد ان تعارفنا وتحدثنا وجدته شخصية غنية في خصالها. مثلت شادية مع محمد فوزي عدة أفلام بعد فيلمها الأول )العقل في أجازة( فقد مثلت أفلام )الروح والجسد، والزوجة السابعة، صاحبة الملاليم، وبنات حواء( كما مثلت مع المطرب الكبير فريد الأطرش فيلمين هما )ودعت حبك(وهو فيلم حزين، ولذلك لم يسجل نجاحا كبيرا فالبطل يموت في نهايته وهو من اخراج يوسف شاهين وأشهر اغانيه )وحداني حاعيش كده وحداني(لفريد واغنية )يا مجربين الهوى( لشادية، وفيلم )انت حبيبي( وهو فيلم غنائي مرح من اخراج يوسف شاهين ايضا وفي الفيلم دويتو ضاحك بين فريد وشادية )ياسلام على حبي وحبك وعد ومكتوبلي أحبك(. كما قامت بالتمثيل والغناء مع المطرب والملحن )منير مراد( في فيلم )أنا وحبيبي( وفي هذا الفيلم أغنية شهيرة باسم )يادبلة الخطوبة عقبالنا كلنا ونبني طوبة طوبة في عش حبنا(. كان اختيار شادية في تلك الأفلام وغيرها باعتبارها أولا مطربة وثانيا ممثلة، وذلك قبل ان تدخل مرحلة جديدة من مشوارها الفني كانت فيها ممثلة ومطربة، ثم مرحلة لاحقة كانت فيها ممثلة فقط دون أن تغني في الفيلم، مع استمرار صوتها يقدم الكثير من الروائع الغنائية ولكن خارج الشاشة الفضية، نذكر منها أغنية )غاب القمر يابن عمي يااللا روحني دا النسمة آخر الليلة بتفوت وتجرحني، ويااسمراني اللون حبيبي يااسمراني، واتعودت عليك ياحبيبي، وياهمس الحب يا أحلى كلام، ثم في الأطار الوطني قدمت )يا بنت بلدي ريسنا قال قومي وجاهدي ويا الرجال، وسينا رجعت لينا ومصر اليوم في عيد، كما شدت برائعتها ياحبيبتي يامصر( وغير ذلك من الأغاني الى أن وصلت الى مرحلة جديدة من الأداء الديني، ومنها مقطوعة أو أنشودة )خد بايدي(.

شادية.. الممثلة المقتدرة

شادية واحدة من أعمدة السينما العربية، ليس فقط لبداياتها المبكرة، وطول مشوارها الفني ولكن لثراء تجربتها، وان كانت قد اكتسبت شهرة خاصة في اطار شخصية )البنت الدلوعة( الا انها عرفت معنى التطور في الداء والشخصية، والمعاناة، ولعل الدور الأول الذي برزت فيه شخصيتها كممثلة من ذوات الاداء الرفيع، كانت مع المخرج )محمود ذو الفقار( الذي أسند لها دور البطولة في فيلم )المرأة المجهولة(، وفي هذا الفيلم مثلت دور الأم في مرحلة الكهولة التي ارتكبت جريمة القتل حتى تحافظ على مكانة ابنها وقد أصبح محاميا مرموقا، وقام بدور الأبن الفنان )شكري سرحان(، وتشاء الظروف أن يكون المحامي عنها هو نفس الأبن ودون أن يعرف انها أمه. تدور حركة الصراع في الفيلم وتختلط مشاعر الأمومة ورغبتها في ان ينجح المحامي الشاب في الظفر بحكم البراءة للمتهمة، حتى يفخر بالحكم كدليل المهنية لديه، وحرصها على كتمان السر في انها امه حتى تجنبه عارها وماضيها. سجلت شادية )المطربة الدلوعة( مهارة وحنكة في التعبير عن المشاعر المتضاربة. الفيلم عام 1959 وكان عمر شادية 29 عاما، ولكنها أدت الدور باقتدار وكفاءة عالية كانت حديث النقاد واعجاب الجمهور، وبذلك لم تتوار مكانتها كمطربة، ولكن صعدت اسهمها كممثلة متمكنة في أدائها وفي ملكاتها، وازدادت مساحات التقدير لها، وأصبحت الكفتان متعادلتين كمطربة لها جمهور وممثلة لها معجبون، وترتب على تلك المتتالية أن تولدت لديها الرغبة في الأقتحام، فقد بلغت بها الجرأة بعد ان نالت ذلك التقدير أن تقوم بالتمثيل فقط دون الغناء في افلام متعددة مثل )مراتي مدير عام والطريق واللص والكلاب وكرامة زوجتي(. يقول عنها الروائي الكبير نجيب محفوظ : عادة أؤكد أنني مسؤول عن رواياتي طالما هي منشورة، ولكن حين يتم اختيارها لكي تصبح فيلما أو مسرحية أو

تدخل مرحلة الممثلة أولا قبل المطربة فيلم المرأة المجهولة
تدخل مرحلة الممثلة أولا قبل المطربة
فيلم المرأة المجهولة

حلقات تلفزيونية، فانني لا أعد نفسي مسؤولا عن تفاصيلها فقد خضعت لمقاييس فنون أخرى لاعلاقة لي بها، وفي فن الأداء أقول كنت متخوفا في البداية حين تعطى الشخصية النسائية الأولى في الرواية للفنانة شادية باعتبارها مطربة وليست ممثلة، ولكني أشهد أنها قدمت شخصيات رواياتي سواء)زقاق المدق( أو )الطريق( أو )ميرامار( بقدر كبير من الكفاءة والأقتدار.

شادية.. موهبة تقتحم عالم المسرح

عرف المسرح فنانات كبيرات مثل فاطمة رشدي وامينة رزق وسميحة ايوب في النصوص التاريخية والدرامية، كما عرف فنانات كبيرات في النصوص الأستعراضية والكوميدية مثل ماري منيب وشويكار وشريهان وسهير البابلي، ولكن ظهور شادية على خشبة المسرح كان ظاهرة جديدة أو طفرة غير متوقعة سواء بالنسبة لها أو بالنسبة للفن المسرحي. كانت خطوة تمثل اقتحاما لعالم جديد يتمثل في اللقاء المباشر بين الفنان والجمهور وجها لوجه، وعلى امتداد ساعات ان لم يثبت فيها الفنان لياقته وحضوره المتوهج فانه يكتب شهادة رحيله بنفسه. ظهرت شادية وبجوارها ممثلة مخضرمة في فن المسرح، ولكن كما تقول سهير البابلي كان اسم )شادية( هو الأساس في مسرحية )ريا وسكينة(

فلقد أعطت شادية جمهورها للمسرحية، ولذلك كان هذا الأقبال، وتقول شادية حين قبلت العمل في المسرحية، وأنا ادرك معنى الألتزام في العرض كل ليلة دون تخلف مهما كانت الأعذار، كان تقديري أن المسرحية ستعرض شهر أو شهرين أو حتى ستة شهور، ولكن أن تستمر المسرحية لأربعة أعوام متتالية، فقد كان ذلك فوق تقديري بمراحل، ومع ذلك أشهد أنني سعدت بلقاء الناس كل ليلة لمدة أربع سنوات. لقد أضافوا لعمري، وأغنوا تجربتي، وأسعدوني كل السعادة، رغم قسوة الكواليس وعدد الدرجات التي كنت اصعدها في غرف الملابس والماكياج، وكميات العرق التي كنا نغرق فيها من الحركة سواء داخل المسرح او على خشبة المسرح، وكان كل ذلك الأرهاق يتبخر من لقاء الجمهور وضحكاته وتشجيعه. )ريا وسكينة( أول عمل مسرحي وأيضا آخر عمل مسرحي للفنانة الشاملة شادية.

أخيرا

هل يمكن ان نختم تلك السطور دون أن نذكرأنه خلال تلك السنوات الأربع التي تم فيها عرض المسرحية كانت )شاديه( توزع مظروفا كل شهر باسمها يحتوي مبلغا من المال على العاملين في المسرح هدية من بطلة العرض، وأن نذكر أن شقتها بميدان مصطفى محمود في شارع جامعة الدول العربية في القاهرة قد تخلت عنها لأحدى الجمعيات الخيرية، وأنها ساهمت في بناء بعض المساجد وبعض المرافق الصحية، وتلك السطور اجمالا، وليست تفصيلا عما كانت تبادر به، وأن ابن الفنان عماد حمدي زوجها الأسيق كانت تضعه تحت رعايتها المباشرة، وكان يناديها بلقب )ماما( حتى مرضها الأخير الذي رحلت بعده.

ان الأحساس والمشاعر الفياضة ليست حرفة فن أو أداء تمثيل، ولكنها مشاعر الأنسان الطبيعية، فقط حين يكون الأنسان انسانا تكون تلك المشاعر بالتبعية على رحابتها.. جزء من انسانيته، وقد كانت شادية طاقة متدفقة من المشاعر الفياضة فكانت بحق الفنانة.. الأنسانة.

أمين الغفاري