الصين تتبختر وتختال والغرب يستعيد مؤثرات الثورة الصناعية

مدخل الى المشهد الاقتصادي للعام الجديد

جاد الحاج

اتسم العام 2016 بانتصارات السياسيين الشعبويين المسايرين لعواطف الجماهير وانفعالاتها. لكن العام المنصرم تميز بالفتور وتراجع تأثير الخطاب الشعبوي. وقد اعرب المعلقون الغربيون عن انزعاجهم وحنقهم إزاء نظام التراتبية القائمة في العالم الحر. ولم يتأخر السياسيون العاديون بدورهم في إطلاق الوعود بإعادة تشغيل العولمة وفقا لِطريقة تنجح في معالجة غضب الناخبين المهمشين والمعرضين للإهمال أو الذين »تخلفوا عن الركب«، وفق التعبير السائد في أدبيات منظمات التنمية وحقوق الإنسان. مع ذلك، لم يسجل سوى تغيير محدود للغاية على الصعيد العملي الواقعي. بل تسارعت وتيرة النمو في الاقتصاد العالمي على مدى أشهر العام المنصرم ليسجل أعلى معدل وسطي له منذ بداية العقد الثاني من هذا القرن؛ كما سجلت أسواق البورصة والأوراق المالية ذرى قياسية، فيما تميزت التدابير والإجراءات  الاحترازية بانخفاض غير مألوف.

تجدر الإشارة إلى أن مضاعفات عملية رسم السياسات وتبعاتها الفورية المباشرة أتت عادية بسيطة ومتطلعة إلى الخلف على نحو مذهل في الدولتين اللتين نجح السياسيون بصورة مثيرة في قلب وضعهما القائم رأسا على عقب. فقد تبعت عملية تصويت بريطانيا على خروجها من عضوية الاتحاد الأوروبي انتخابات عامة أسفرت عن جعل حزب المحافظين حزبا حاكما موهنا )يشكل عمليا حكومة أقلية( في حين تصاعدت أسهم المعارضة العمالية على الرغم من تبني زعيم الحزب اليساري أجندة التأميم العائدة إلى سبعينات القرن الماضي، حين كان الحديث السائد يدور حول ضرورة تمتع نقابات العمال واتحاداتها بالقوة، ورفع قيمة الضرائب والجباية بهدف إعادة توزيع الثروة. في الولايات المتحدة أفلح الرئيس الجمهوري اليميني المحافظ، دونالد ترامب، في إثبات انتقاداته للعولمة ومآخذه عليها عن طريق إلغائه مشروع اتفاق التجارة الحرة عبر المحيط الهادي، مع إطلاقه أيضا الوعد بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاق قمة المناخ الموقع في باريس في أواسط كانون الأول )ديسمبر( من العام 2015، ثم قيامه بهذه الخطوة. غير أن تركيزه الاقتصادي الكبير والهام انصب في المقام الأول على رفع القيود والتخفيضات الضريبية، علما أن ذلك يعتبر الطرح المعياري بل والعادي الذي يمارسه الجمهوريون منذ ثمانينات القرن الماضي.

حتى الرئيس الفرنسي الجديد، إمانويل مكرون، الذي ارتقى نيزكيا إلى سدة السلطة في بلاده مع الوعد بنوع من العقد الاجتماعي المؤيد للعولمة، بدأ مسيرة عمله باعتماد إصلاحات لسوق العمل المحلية مطابقة لتلك التي كانت غالبية بلدان الاتحاد الأوروبي قد شرعتها قبل أعوام.إذا كانت الطروح الشعبوية أو التي تدعي مسايرة الجماهير تعيد صنع الرأسمالية، فإن ذلك يبدو حتى الساعة مجرد إعادة تنظيم متواضعة بل ومحدودة. في أي حال، من غير المرجح أن يستمر الوضع على هذا المنوال.فقبل نهاية العام المنصرم ، وجدنا أن الأداء الجيد بل والباهر للأحزاب المتمردة في الانتخابات العامة التي شهدتها كل من ألمانيا والنمسا وتشيكيا يعني ببساطة أن الموجة الشعبوية في العالم الغني بالكاد أخذت تتلاشى وتتبدد. وفي الانتخابات البرلمانية المحلية في مقاطعة كتالونيا الإسبانية التي جرت قبيل نهاية العام المنصرم، بدا أيضا أن النزعة الاستقلالية التي تتبناها حركة قومية ذات طابع شعبوي قد حافظت على وضعها إن لم تكن قد أمنت فوزا أكبر من السابق. وفي إيطاليا، من المحتمل للانتخابات المنتظرة في العام الطالع أن تمنح حركة الخمس نجوم المناهضة للهيئة الاجتماعية السياسية النافذة العدد الأكبر من المقاعد داخل البرلمان، حسب توقعات مجلة الإكونومست.

وليس مستبعدا أن تشهد بعض الأسواق الصاعدة بروزا أو صعودا للموجة الشعبوية، ولا سيما في المكسيك حيث يبدو أن السياسي المميز بشدة تمسكه بالطروح المحافظة اليمينية، أندرز مانويل لوبيز أوبرادور، اكتسب المزيد من التأييد الجماهيري بفضل طروح الرئيس دونالد ترامب وشعاراته المناهضة للمكسيك والمكسيكيين المهاجرين. الأهم من ذلك كله، أن التاريخ يوحي بأن الاضطراب بالكاد بدأ وانطلق. يكفي التأمل في مطلع القرن الماضي، وهي حقبة من العولمة متناهية السرعة والتغيير التكنولوجي المثير. فشبكة الإنترنت والذكاء الصناعي يتضافران على إعادة رسم وتفعيل الاقتصادات تماما كما سبق للكهرباء وخطوط سكة الحديد أن فعلت قبل مئة عام تقريبا.

كذلك تبدو متشابهة مقاييس إيجاد الثروة ودرجة عدم التكافؤ واللامساواة. حينذاك، وكما هي الحال اليوم، تسبب غضب من تخلفوا عن الركب في إطلاق موجة من الطروح الشعبوية الخادعة للجماهير، وقد ارتدت طابع العداء تجاه كل من المهاجرين والنخبة المحلية. في أواخر القرن التاسع عشر تبعت حقبة الطروح التقدمية. استغرقت العملية سنوات غير قليلة، لكن مطالب الجماهير بالتغيير وجدت ترجمة لها في إعادة تنظيم التوازن الراديكالي بين الدولة والأسواق بدءا من اعتماد نظام الضريبة التصاعدية وتوفير المزيد من الحماية الاجتماعية وانتهاء بالتشريعات المضادة للاحتكارات والمناهضة للتروستات.

ليس مستبعدا ولا مستغربا في العام الطالع أن تبدو هذه الحوادث وما يشبهها مألوفة وعادية على نحو مخيف، ولا سيما في وقت تعمل ثلاث قوى منفصلة على التسبب بتحول في التوازن بين الدولة والأسواق، علما أن لكل منها رجعه التاريخي الغريب.

مع اقتراب انتخابات منتصف الولاية لكامل أعضاء مجلس النواب وبعض أعضاء مجلس الشيوخ وحكام الولايات في أواسط الخريف المقبل، ليس غريبا أن ترتفع أصوات من مشرعي الحزبين الجمهوري والديمقراطي وسياسييهما للمطالبة بترميم أو تصحيح التكتلات الاحتكارية والتشريعات الخاصة بمكافحة التروستات، علما أن بعض الدعوات سوف تركز على ضرورة تفكيك الشركات التكنولوجية العملاقة. صحيح أن هذا قد لا يحدث خلال العام الطالع؛ إلا أن بذور السعي سوف يتم غرسها في خلال الأشهر المقبلة. معنى ذلك أن حقبة تعزيز التروستات خلال القرن الحادي والعشرين سوف تفضي في نهاية المطاف إلى إعادة كتابة أو صياغة السوابق القانونية.

تتمثل قوة التغيير الثانية في شخص الرئيس الفرنسي إمانويل مكرون الذي من المنتظر أن يبرز باعتباره المعادل العصري للرئيس الأميركي الراحل تيدي روزفلت )الذي تولى الرئاسة في الأعوام 1901 إلى 1909(، وهو الذي يرتبط اسمه أكثر من غيره بحقبة السياسات التقدمية. فهنالك أوجه شبه قوية جدا تجمع بين الرجلين على الرغم من الفارق الزمني بينهما البالغ 108 أعوام. فكل منهما ألبس أجندة الإصلاح خطاب التجدد الوطني والعظمة القومية. على غرار روزفلت من قبل، يعمل الرئيس مكرون راهنا بدأب وبطرق مقنعة على الدفع قدما في سبيل تكريس نوع جديد من العقد الاجتماعي، وهو عقد يعزز المنافسة وروح المبادرة، بينما تسعى السلطات بموجبه جاهدة من أجل توفير الحماية للعاملين الذين يفقدون وظائفهم ويخسرونها.

في جميع الحالات، من المفترض بالعام الجديد أن يزيد حجم طموح الرئيس مكرون وضوحا وبروزا مع تحديد تفاصيل برنامج عمله وإبرازها للعامة والخاصة على حد سواء. فهو يريد تزويد الناس وتحصينهم بالأدوات التي تمس بهم الحاجة إليها للعيش والعمل والنجاح في القرن الحالي، وهي تراوح من إصلاح نظام التقاعد )علما أنه يرغب في استبدال البرامج العديدة المجازة أو المرخص لها والمعتمدة في فرنسا بنظام تقاعد موحد يشجع الحراك الوظيفي( مرورا بتدريب العمال )الذي يؤشر إلى تخصيص الأموال والصناديق لمصلحة الأفراد(، وانتهاء بالتربية والتعليم )الأمر الذي يعني المزيد من المرونة والتقليل من مستوى الجمود والتحجر(. فإذا أحرز النجاح ذ وهذا احتمال مرتبط بوضع مشروط بالغ الصعوبة والتعقيد ذ لا يستبعد العديد من المحللين والمراقبين أن يمسي اسم الرئيس الفرنسي الحالي الشاب مرادفا للتوجه التقدمي بمفهومه العصري.

أما عامل القوة الثالث، فينحصر في تغيير الموقف من الصين التي تعتبر بحق القوة الصاعدة في القرن الحالي. وكما تحكم الخوف من صعود ألمانيا كثيرا برسم السياسات الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين المنصرم، كذلك هي الحال مع الهموم وبواعث القلق إزاء النفوذ المتعاظم للصين وإزاء نواياها ومقاصدها، التي تصوغ خلفية التوترات في الشرق الأقصى والمحيط الباسيفيكي في هذه الأيام. ففي الصين نفسها، من المنتظر للتوازن بين الدولة والقطاع الخاص أن يظل »مقلوبا أو معكوسا«، حسب تعبير الصحافة الغربية اليمينية، ولا سيما منشورة من وزن الإكونومست البريطانية العريقة والمعتمدة على فكر اقتصادي سياسي. فالشركات والأعمال الخاصة، أو حتى تلك التي تملكها الدولة في أكبر بلدان العالم سكانا، سوف تظل طوع بَنان الحزب الشيوعي الحاكم، حتى ولو كانت تعتبر شركاء صغارا في مشروع الرئيس شي جنبنغ الخاص بتكريس عظمة الصين. حتى بعد ترسيخ نفوذه على أثر المؤتمر العام للحزب الحاكم الذي يعقد كل خمسة أعوام، لن يعمد الرئيس شي إلى إعادة اختراع نفسه ليظهر بصورة المصلح الاقتصادي الجريء والجسور. وبدل إطلاق نشاط الأسواق الحرة وحركتها، سوف ترجح كفة الميزان إلى تدخل الدولة من جانب الدول الأخرى بهدف السيطرة على نشاط المارد الصيني خارج حدود بلاده وذلك بسبب شعور العالم بالغثيان تجاه ما يعتبره الغربيون خصوصا »تبجح الصين وتبخترها واختيالها«.

لا مفر من التشدد في تطبيق قوانين رعاية الاستثمارات الأجنبية وضبطهامن أستراليا إلى أوروبا، وذلك بهدف ردع عمليات الشراء الصينية لكامل الأصول والأسهم في الشركات. من ناحيته، سوف يبيت الرئيس مكرون زعيم الجماعة المحلية من منظومات الاستثمار التي تتولى توفير الحماية للمصالح الأوروبية، كما ينتظر الكثيرون. أما الولايات المتحدة، فينتظر المراقبون الغربيون، ولا سيما اليمينيون المحافظون بينهم، منها قيامها بفرض التعريفات على مستورداتها من الفولاذ الصيني، إلى جانب تشديدها العقوبات على ما يتم ارتكابه من جرائم سرقة الملكية الفكرية. في الوقت نفسه، يفترض هؤلاء المراقبون مع بعض المعلقين إلحاق الوهن بالقواعد والقوانين الحاكمة لمسار منظمة التجارة الدولية ومعاييرها ومواصفاتها. معنى ذلك التغاضي من قبل الدول الصناعية والجهات المشرفة في المنظمة عن فرض الحماية وزيادة تأثيرها بقصد تقييد الصين وتوسعها، وفق ما يدعو إليه المحافظون في الغرب الصناعي، وما يتخوف منه اليساريون المعتدلون والمتطرفون على حد سواء في تلك الدول.

إذا أخذنا هذه القوى الثلاث مجتمعة أو حتى منفردة في بعض الحالات، نجد في الاجتياح التكنولوجي والتوجه المكروني وزيادة الاشتباه في الصين ونوايها وتطلعاتها مؤشرات تدل مجتمعة ومنفردة على تبدل أو تحول حاسم في التوازن بين الدولة والسوق. أما نقطة النهاية في هذا المسار، فليست معروفة أو حتى واضحة كما يبدو على الأقل في الوقت الحاضر. لكن، إذا حالف الحظ هذا التوجه مثلث الأضلاع، فإن هذا التوازن الجديد سوف يتميز باعتناقه على نحو واسع لمفهوم المنافسة والمزاحمة باعتبارها الطريقة الفضلى لإيجاد التوازن مع قوى النخب الاقتصادية والاجتماعية العريقة وراسخة الجذور في مجتمعاتها، واعتماد عملية إعادة تفكير خلاقة لدور الدولة في حماية الأفراد. هذا ما يجعل الأعوام القليلة التالية فترة مسار تقدمي يستحق أن تفخر به جميع الجهات الفكرية والاجتماعية والسياسية المعنية.