في حوار مع : الشعر يعاني أزمة قراءة

بيروت من ليندا نصّار

تتابع الشّاعرة اللّبنانيّة دارين حوماني مسيرتها الشّعريّة بمثابرة وجدّيّة فهي الّتي كتبت خمسة دواوين : »أكبر من نافذة قطار، الياطر الحزين، ملاءات رقيقة في غرفة واحدة، مقامات الخيبة« والديوان الجديد بعنوان »العبور بلا ضوء« وقد صدر عن دار فواصل للنّشر في معرض الكتاب بيروت 2017. وتدور مواضيع القصائد في معظمها حول الإنسان والوطن والوجود والحبّ. تعكس كتابات الشّاعرة تعبيرًا عن خصوصيّة التّجربة المعاشة، ونجد في نصوصها اعترافات تعبّر عن حقائق نابعة من العوالم الدّاخليّة للإنسان. قصيدة دارين حوماني مفتوحة على احتمالات كثيرة جسّدت من خلالها إحساسات جاءت على شكل سيرة ذاتيّة وتميّزت بكثافة الصّور الشّعريّة. وبالنّظر إلى نصوصها نلاحظ أيضًا أنّها تفتح مجالًا للقارئ بالإقامة وسط عدّة أسئلة إجاباتها مفتوحة وقد صيغت على درجة عالية من الجماليّة، كذلك إنّها تعكس فلسفة الإنسان في علاقته بنفسه وبالعالم الّذي يحيط به.

»الحصاد« التقت الشّاعرة دارين حوماني في بيروت وكان لها معها الحوار الآتي:

»الحصاد«: صدر لك ديوان »العبور بلا ضوء«، عن دار فواصل، منذ فترة قصيرة في معرض الكتاب في بيروت 2017، هل نجد اختلافًا أو تشابها بينه وبين دواوينك الأخرى؟

دارين حوماني: يمكن ملاحظة أن دواويني الخمسة متشابهة من حيث التعبير عن حالات وجدانية، عن الذات والحياة، عن الشعور بالاغتراب، قد يبدو الحزن مبالغاً فيه لكنه انعكاس لعالم محدّد الارتفاع من دون قدرة على العبور الى خارجه، ومن هنا جاء كتابي الخامس لما أريد أن أقوله، فالعبور بلا ضوء يسير بكثافة أكثر في تصويره عالمنا المظلم وهو يتطلع الى الضوء المفقود. أعتقد أن كتاباتي برغم تنوعها إلا أنها تستند على سيرة ذاتية، تخرج عن ذلك أحياناً ثم تعود، ويكاد يكون الاختلاف بينها في التطور اللغوي أو العمق والكثافة اللذين اكتسبتهما مع تراكم التجارب.

»الحصاد«: في قصيدة »كريم وياسمين« نشعر وكأنّ دارين أمام مرآة حقيقيّة وتعبير بجرأة وصدق، ما يجعل هذه القصيدة تتسلّل إلى النّفس بسلاسة. إلى أيّ مدى يعتبر الصّدق ضروريًّا في القصيدة ليزيد من جماليّتها وبالتّالي ليجعلها أقرب إلى المتلقّي؟

دارين حوماني: إن جمالية القصيدة تستند على عناصر متعددة منها التصنيع اللغوي والإنشاء الشعري ومنها الاحساس الصادق للشاعر الذي يطرق الأمكنة العميقة في داخلنا، هكذا كتبت كريم وياسمين بقلق وجودي تركته يتحدث لوحده، يتحدث عن الحب، عن الخوف، عما يحيط هذا العالم من موت.. ثمة مزيج من الوعي واللاوعي يفترض عناصر كتابة هذه القصيدة والتي تكوّن الحب اللانهائي والخوف اللانهائي، وأقول أن هناك ثمة احزانا لا يمكن تبديلها أو تعديلها الا بوجود هذا الحب وهو ما أعطى هذه القصيدة إنسانيتها.

»الحصاد«: كتبت النّاقدة المغربيّة حورية الخمليشي في كتابها »الشّعر وأنسنة العالم«، أنّ الشّعر أصبح رؤيا في العصر الحديث وأنّه سرّ فنّيّة القصيدة وجماليّتها. ما هي أهمّيّة هذه الرّؤيا الّتي ستغيّر العالم؟ وما الّذي استطاعت دارين حوماني تغييره من خلال الاعتناء بقصيدتهاعلى نحو مغاير؟

دارين حوماني: تتأتى فنية القصيدة من عوالم عميقة في دواخلنا، ومن بنية القصيدة ومن كثافة صورها.. الشعر هو تراثنا جميعاً وجماليته تبدأ من الرؤى التي تعطيه هويته وكينونته. قرأنا الشعر على جدران الكهوف ومنذ ذلك الوقت الى الآن والشعر في تغيّر مستمر لكنه دائماً يستعيد روحه وما تهدمه البشرية يحيا مع الشعر. الشعر هو تجاربنا والتجربة تتشكل في القصيدة برمزية فنية ومن هنا جاءت قوة الصورة في القصيدة الحديثة لتمنحها إضافة جمالية. لقد بالغ الكثيرون في التمسك بوزن القصيدة وقافيتها فيما قد نجد جمال القصيدة في صورة شعرية لها رؤيتها الفنية العالية تجاه الوجود. بناء قصيدتي هو الصور الحسية، مضاعفات شعورية تتنفس في داخلي إحساساً تجاه العالم الخارجي والداخلي حيث الرؤيا تنفذ بين الصور فتتكلم بانسيابية وعفوية صادقة. وقد تكون بعض قصائدي بحاجة الى عناية إضافية لتكتمل لكني تركتها على فطرتها القائمة على نظرة خاصة وربما حزينة تجاه الوجود.

»الحصاد«: يتعرّض الشّعر الحديث اليوم إلى أزمة حقيقيّة. برأيك ما هي أسبابها وكيف يمكن الحدّ منها وبالتّالي تخطّيها؟

دارين حوماني: تتجاوز القصيدة المكتوبة بجمالية وفنية عالية عصرها، كثير من القصائد خلّدت، والخلود الشعري هو جوهر مكانة الشعر، ومع إعطاء الشعر حريته لم يتغير مفهوم الخلود بل وجدنا أن كثيراً من القصائد بقيت راسخة في دواخلنا.. لقد ازداد عدد دور النشر التي تنشر ما يصحّ نشره وما لا يصحّ ما جعلنا نشعر بأزمة تحديد هوية الشعر وهوية القصيدة، لكن ما يمكن قوله هنا أن القصيدة المكتوبة بفنية عالية لا بد ان تجد مكانها الدائم. الشعر يعاني أزمة قراءة ولا يمكن فهم أو تحديد سبب تراجع عدد قرائه مقارنة بالارتفاع الملحوظ في قراء الرواية، تساؤلات كثيرة تطرح نفسها هل هي أزمة قارىء الذي لم يعد يسمع قصيدة تعبّر عنه، قصيدة يصفق لها ويشعر بها، وربما لانشغالاته الحياتية بات قارئاً سطحياً لا يحب ما يجعله يفكر كثيراً. أهي مشكلة في الشعر المطروح الذي يشبه نقلاً واجتزاءً عن قراءات متعددة مع كثير من الركاكة أو الصور التي لا يمكن تفسيرها ولا أبعاد لها فهي مجرد صفّ كلمات على أنها شعر، وهي بالتالي إعادة إنتاج لما كتب سابقاً، وهنا نتكلم عن أنواع الشعر، الشعر الموزون وغير الموزون. ومن ناحية أخرى فهناك أزمة الشعر الذي يخرج من تجربة الشاعر المثقف وهو ما نلحظه قد يتجاوز مستوى ما يمكن أن يفهمه القارىء العادي الذي سيفضّل حتماً قراءة رواية على أن يقرأ ما لا يمكن استيعابه من المرة الأولى.

إذاً هي أزمات في أزمة واحدة تبدأ من بناء الرواية الذي قد لا يكون قوياً بما يتطلبه بناء قصيدة متكاملة فتتعرّض القصيدة للنقد الحاد وربما تجد من يصفق لها من باب المجاملة ثم تعبر من دون أن تجد مكاناً لها. وقد يكون البناء قوياً فيكون قراؤها من المثقفين المعدودين فقط. إنها أزمة القارىء الذي يستسهل القراءات السطحية ويحبّذها. وقد لا يمكن تخطي هذه الأزمات وإعادة الإعتبار للشعر مع كل هذا الضجيج الشعري.

»الحصاد«: يقول النّاقد شربل داغر أنّ قصيدة النّثر واحدة ومختلفة بل مفتوحة الاحتمالات منذ تجاربها الفرنسيّة الأولى. إلى أيّ مدى يمكن تطبيق هذا القول على قصائد دارين حوماني؟

دارين حوماني: لقد أعطت قصيدة النثر الحياة للشعر، هذه الحياة التي تجعلنا نذهب بعيداً عن المكان والزمان الذي نحن فيه. إن قيمة قصيدة النثر في احتمالاتها المفتوحة حيث يبرز المخزون الابداعي في بضع كلمات. كلّ قارىء يرى القصيدة كما يشعر بها، لكنها تتجاوز ما يمكن الوصول به الى القارىء حيث الدلالات مفتوحة وقد نقف محتارين أمام عمقها وصعوبة تفسيرها. القصيدة الجيدة تُكتب عن واقعنا لكنها تبتعد به مئات السنين الضوئية عن الأرض. كتاباتي منها النصوص المفتوحة ومنها النصوص المغلقة، ربما قوة القصيدة في احتمالاتها التي تترك للقارىء التفكير في صورها الشعرية وفي لاعقلانيتها أحياناً تلك القصيدة الممتلئة بسيميائياتها وتأويلاتها، لا أدري أين أنا بالتحديد، المتلقي قد يقبض على إحساس قصيدتي وقد يجد أن احتمالاتها مفتوحة أكثر مما يمكن تأويله، وهذا ينطبق على بعض من قصائدي.

»الحصاد«: نقرأ في قصيدة »على التّلّ المقابل لفلسطين«: أوراق الزّيتون الأخضر ترتجف/تلثم النّدى/براءة مطلقة/مثل حبّ يتوهّج/وعبثًا أحاول أن لا أسترجع المقابر/ الّتي ملأها بأحزان الأطفال /صدى يعود فارغًا. كيف انعكس الحزن على الأوطان العربيّة على تجربتك الشّعريّة، خصوصًا بعد الأحداث الرّاهنة في القدس؟

دارين حوماني: نصوصي بأغلبها سيرة ذاتية، إنعكاس لواقع حزين وربما مخيف ممتلىء بالتجارب منذ الصغر. تجارب الطفلة الصغيرة منذ أن كان الجنود الاسرائيليون يعبثون بقريتنا الحدودية. أعتقد أن كل الذين مروا بهذه المعاناة سوف يشعرون بما أشعر به عند رؤيتهم يتمشون خلف السور الفاصل بين لبنان وفلسطين، هناك حزن كثيف على كل ما ارتكبوه، هناك إحساس عميق بالألم لرؤية الشر ينتصر ويتمدد بأشكال عديدة على مستوى العالم العربي، وأن القدس لم تعد قضية بل حالة عابرة وأن الأوطان العربية لم تعد أوطاناً بل يشعر العربي بالاغتراب الروحي في المكان الذي يتكلم لغته. كل هذه المشاعر تسيطر عليّ فأجدني أكتب عن عبورنا جميعاً بلا ضوء، عبور الفلسطيني من أرضه الى حيث لا يدري، عبور كل عربي حاول الهجرة عبر البحر دون أن يعرف كمية الحزن الذي تنتظره.

»الحصاد«: كتب عباس بيضون في مقدّمة ديوانك إنّ شعر دارين لون من الاعترافات ومن السّيرة الدّاخليّة الحقيقيّة أو المتخيّلة للشّاعرة نقرأ القصائد وكأنّها فصول حياة أو كأنّها في دفئها وقربها ذكريات. بعد كلّ هذه الاعترافات ما الّذي لم تقله دارين في قصائدها؟

دارين حوماني: قد يلزم كلّ واحد منا وقت طويل ليقول كل ما يريد قوله. في دواخلنا إحساسات عميقة عن الوجود كله، عن هذا العالم المخيف. كيف نجسّده في كلمات قد لا تصل الى مكان، قد لا يكفينا الوقت المتاح لنا لنفعل شيئاً إزاء كل هذا الظلم الذي يحيط بنا، الخيبات تتكاثر من واقع لا يمكن تغييره، ربما يبلغنا اليأس فنشعر أن لا معنى لكلماتنا التي لن تعبر الى الضوء. في داخلي طائر يريد أن يستدعي الوجود كله في كلمات، الأشياء التي لا يمكن تبديلها بسهولة يريدها حرّة علّها تعبر الى الضوء.