سُكّر

سهير آل ابراهيم

يعتبر السكر من المواد الضارة بصحة الإنسان، لذلك يحرص الأطباء والمختصون في مجال التغذية الصحية على التأكيد على التحذير من الإفراط في تناوله. وقد يبدو الأمر صعباً بالنسبة لمن يستمتع بالمذاق الحلو لبعض المأكولات والمشروبات، خصوصا وان الكثير من الحلويات الآن متوفرة في الاسواق وبأثمان زهيدة. لكن الحال لم يكن كذلك دائما!

يُعتقَد ان تاريخ زراعة الانسان لقصب السكر يعود الى  سنة قبل الميلاد، وذلك في الجزر الواقعة في الجنوب الغربي من المحيط الهادي، ومنها انتقلت الى الصين والهند. عندما غزا الإمبراطور الفارسي داريوس الهند عام 510 قبل الميلاد، عثر فيها على ذلك القصب والذي وصفه بأنه يعطي العسل بدون نحل! اختُرعت طريقة تحويل عصارة القصب السائلة الى مادة السكر الصلبة في الهند قبل اكثر من ألفي عام!

عرف العرب السكر وكيفية استخلاصه من القصب في القرن السابع الميلادي، بعد فتح بلاد فارس، فنقلوا زراعة ذلك القصب وطريقة استخلاص السكر منه الى شمال افريقيا واسبانيا. قبل ذلك كانت عملية استخراج السكر محاطة بالكثير من الحماية والكتمان، لان السكر كان مصدر ثراء لصانعيه ومصدريه، فقد كان يُعرف بالذهب الأبيض. ارتفاع سعره.

لم يعرف الأوروبيون السكر الا بعد وقوع الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر الميلادي، حيث كان المقاتل منهم يعود لبلده ويتحدث عن )نوع جديد من التوابل( وعن مذاقه الشهي! يذكر ان السكر دخل أول مرة الى إنكلترا عام . ظل السكر في بريطانيا سلعة ثمينة نادرة وقليلة الاستخدام لعدة قرون، ولكن ذلك تغير في العصر التيودوري الذي ابتدأ نهاية القرن الخامس عشر الميلادي؛ حيث بدأ في ذلك العصر ما يمكن ان يسمى ثورة في مجال استخدام السكر وصناعة الحلويات، رغم ان استخدامه ظل مقتصرا على الاثرياء والطبقة الأرستقراطية في المجتمع.

استخدم الإغريق والرومان السكر كدواء، حيث كتب احد الأطباء الإغريق في القرن الاول الميلادي ان هنالك مادة تشبه الملح، تستخرج من القصب، تسمى )سَكَرُن(، توجد في الهند وعدن، تفيد في معالجة آلام المعدة والأمعاء والكلى والمثانة!

في القرون الوسطى أقتبس العرب تقنية انتاج السكر من الهند، وقاموا بالتوسع في ذلك المجال بشكل كبير؛ فقاموا بإنشاء مزارع كبيرة لقصب السكر، بعضها كانت تضم ما يلزم من الأدوات لتحويل عصير القصب الى سكر. تحتاج زراعة القصب الى ماء وفير ودرجات حرارة مرتفعة، ولذلك فقد استخدمت أنظمة الري الصناعي في المزارع التي أقيمت في بلاد العرب، ثم اصبحت الأندلس مركزا مهما لإنتاج السكر، بعد ان فتحها المسلمون اوائل القرن الثامن الميلادي.

في ثمانينات القرن السادس عشر بدأت كلمة )سكر( تظهر في وصفات الطبخ التي كانت تستخدم في مطابخ قصور الاثرياء في بريطانيا. كما ظهرت فئة من الخدم في تلك القصور، كان اختصاصهم تزيين موائد الولائم الكبيرة بأجمل أشكال الحلويات. تمتع أولئك الخدم بمهارات فنية جعلتهم يتميزون عن باقي الطباخين؛ كانت اجور صناع الحلويات في المطابخ الملكية مثلا تعادل ثلاثة أضعاف اجور الطباخين الآخرين، وذلك بسبب دقة عملهم وتعاملهم مع السكر الباهض الثمن. اعتقد ان صانع الحلويات في ذلك الزمان يماثل الصائغ وصانع الحلي المزينة بالأحجار الكريمة في زماننا الحالي!

صار السكر سلعة مهمة جدا في أوساط الاثرياء في بريطانيا، وصار يلعب دوراً مهما في سياسة البلد الخارجية، ففي ثمانينات القرن السادس عشر، عقدت الملكة إليزابيث الاولى معاهدات مع الحكام المسلمين تقضي باستيراد السكر منهم مقابل الأسلحة والقماش، حتى ان الكلمة الانكليزية )sugar( مأخوذة من الكلمة العربية سكر.

بالنسبة لارستقراطيي بريطانيا خلال تلك الفترة، كان عمل الحلويات والأشكال الفنية من السكر فنا من الفنون، لا يختلف عن الرسم والموسيقى والتطريز، لذلك كانت سيدة المنزل تعمل جنبا الى جنب مع )فناني السكر( في قصرها. وقد حرصت سيدات القصور على جعل ولائم الحلويات مثالية الى ابعد الحدود، وفقا لمقاييسهم آنذاك طبعا! كانت الوليمة المثالية تتكون من أطباق حلويات تصنع بدقة وتحتوي على زخرفة وتفاصيل فنية جميلة، كلها قابلة للاكل. ليس ذلك فحسب، بل كانت هنالك بعض الإضافات التي اعتبروها مفيدة للروح، مثل استخدام أعشاب القرصعنة او ما يعرف بشويكة ابراهيم )Eryngo( في الوصفات، والتي لها تأثير يماثل ذلك الذي لعقار الفياجرا في هذا الزمان!

تذكر بعض المصادر التاريخية ان كمية السكر التي وصلت من المغرب الى لندن في عام م كانت اكثر من  طناً، وتلك طبعا كمية هائلة اذا اخذنا بنظر الاعتبار ارتفاع سعره، فكأنهم استوردوا ذلك الوزن من الذهب! كما ورد في بعض السجلات القديمة، ان بريطانيا في نهاية القرن السادس عشر كانت تحصل على اكثر من  طن من السكر سنويا عن طريق مباغتة سفن الأعداء وسرقة حمولتها منه. علما أن من اهم أسباب غلاء السكر في ذلك الوقت هو طول الزمن المستغرق في عملية استخراجه، بدءً من سحق القصب وعصره الى تنقية ذلك العصير وتحويله الى مادة صلبة، وكانت بدائية الأدوات المستخدمة عاملا رئيسا في ذلك، اضافة الى صعوبة زراعة قصب السكر في بريطانيا بسبب عدم ملاءمة المناخ.

بدأت أمراض اللثة وتسوس الأسنان تنتشر بين الاثرياء، ولم يعلموا آنذاك ان افراطهم في تناول الحلويات هو السبب في ذلك. وقد ورد في العديد من مسرحيات شكسبير ذكر رائحة الفم الكريهة، والتي غالبا ما تحصل نتيجة لأمراض الفم والأسنان. كما يذكر ان الملكة إليزابيث الاولى فقدت اغلب أسنانها لنفس الأسباب، مما كان يثير ضحك السفراء الأوروبيين عند التحدث اليها، اذ لم يجدوا كلامها مفهوما بسبب قلة الأسنان في فمها! وفي الوقت الحاضر يستدل منقبو الآثار على الطبقة الاجتماعية لاصحاب الجماجم التي يعثرون عليها، والتي تعود الى ذلك الزمن، اعتمادا على حالة الأسنان التي تحملها تلك الجماجم، فالاسنان السليمة تشير الى فقر صاحبها، اما الأسنان المسوسة فهي دليل ثراء وانتساب الى طبقة اجتماعية راقية!

مع قيام الثورة الصناعية أواسط القرن الثامن عشر، استُبدلت أدوات انتاج السكر اليدوية بالمكائن، مما زاد من سرعة إنتاجه بشكل كبير، ونتيجة لذلك بدأ سعر السكر بالانخفاض.

كانت الحكومة البريطانية تفرض ضرائب عالية جدا على السكر، على سبيل المثال في عام 1815 بلغت حصيلة ضريبة السكر ثلاثة ملايين جنيه إسترليني، استمر الحال كذلك حتى عام 1874، حيث ألغى رئيس الوزراء كلادستون ضريبة السكر، مما أدى الى خفض سعره بشكل كبير، وجعله في متناول المواطن العادي.

قبل قيامي بهذا البحث، لم أكن اعلم انني كلما ابتعت كيس سكر زهيد الثمن إنما كنت اشتري ما كان يسمى بالذهب الأبيض قبل قرون عديدة! ولذلك الذهب الأبيض جانب مظلم أسود قد احدثكم عنه في مقال لاحق.