نقطة أوّل الشعر- ضوءٍ من معنى وحبّ، ولغةٌ مبدعةٌ من الأرض ولها

 قد لا تستطيع سطورٌ قليلةٌ جمع المعاني الّتي يزخر بها هذا الديوان، ولكن تعلق في ذهننا عند مطالعته لمحاتٌ كثيرةٌ فيها من الإبداع معنًى يشبه الخيال والحقيقة معًا.

البحر مثلًا حقيقةٌ مغايرةٌ بعيدةٌ عن التقليديّ المعروف، غير أنّه يجيء في سياق التدليل الدقيق الحقيقيّ لوصف العاطفة وسبكها في صورٍ تُرضي المحبوبة التي لا شيء لها سوى الحلم.هو حركةٌ وإيقاعٌ من ذهابٍ وإياب، وفرقةٍ ولقاء، وتجسّدٍ وحلم.هذه الحركة الّتي تبدو مخيفةً لا تستقرّ على حال، هي في العمق دليل بقاء، فالحركة والماء طبيعتان لا تتغيّران في البحر لكنّهما عنصرا حياة.إن ذهبت الماء فهي ستأتي حتمًا بصخبها المعتاد، وحين ينسحب البحر ويؤجّل حضوره سرعان ما يعود؛ البحر إذًا حبٌّ وفيٌّ لا ينتهي.

أمّا الموت فصوفيٌّ في بعض زوايا الكلام الّذي يبوح به الشاعر، فهو لا يعتبر موت الجسد موتًا، وبذلك هو زهدٌ بالمعنى القيميّ الأخلاقيّ حيث تضمحلّ قيمة المادّة لتكون القيمة للمعنى والروح.الموت يكون حين تموت أسماؤنا بحسب تعبيره، والاسم هنا هو حقيقتنا الّتي لا تنفصل عنّا، هو الهويّة، كأنّنا مخلوقاتٌ من لغةٍ ومعنى، ومتى فقدنا معنى وجودنا اندثرنا.»لم نعد نحن احتمال حبّ« يقول، فنحن الشرقيّين تشتّتنا بعاطفتنا المبعثرة، الخرافة تسيطر على عقولنا وما عدنا نرى عدوّنا لنعلم من هو.ويصوّب الشاعر بلال شرارة الرؤى، ليجزم أنّ أعداءنا المرآة والأصنام والأوهام.ولا يبدو أنّ هناك اختلافًا بين الثلاث، فالأنا المبهورة بنفسها حتّى العمى هي صنمٌ ووهم؛ لا الصنم ولا الوهم قد يعيدان لنا التاريخ أو بعضًا منه.

وأصعب أنواع الموت أن نموت بحبّ الوطن أو بحزن الوطن، أي أن نكبر أمواتًا بين القبور المظلمة، أن نكبر في الزمن السيّئ حين ضاعت منّا فلسطين.الأرض تضيع كلّ يومٍ أكثر ويضيع معها الإنسان، والناس نيامٌ لا ينبّههم حتّى موتهم.المكان فارغٌ والزمان سيّئٌ، لذا سيطيل الشاعر موته »حتّى النصر أو القبر«.

ولغزّة الجنّة إيقاعٌ روحيٌّ طويلٌ ينقله الشاعر بحبٍّ وخوفٍ على هذه الأرض من الخونة أوّلًا.ويحسم المسألة في كلمتين »الخلاص رصاص«، فالقوّة هي الحلّ ولا خلاص بلا مقاومةٍ شرسةٍ تعيد الأرض لأصحابها.أمّا السجين المظلوم فيحاصر جلّاده، يحاصره بوجهه.والوجه ملامح الحقّ، ولا ريب أنّ الحقّ يحاصر الظالم أبدًا.السجين، وتحديدًا مروان البرغوثي كما أشار، بوجهٍ ضاحكٍ وعينين صامدتين تقاومان مخارز العدوّ.هاتان العينان نفسهما لهما النظر ببديع جنّات الخالق بعد الموت، بعد القيامة في حضرة الرحمن.

وفي قصيدة »نقطة أوّل الشعر« رغبةٌ في تخليد اللحظات.يريد الشاعر لو يكون هو بداية الكلام دومًا خوفًا من النهاية في بلد النهايات والرحيل والنحيب، في أرض السفر الضبابيّ الوجهة، في وطن اليأس الذّي لا ينتهي إلى يابسة.هي البداية بين الأحبّة شعرٌ لم يُكتب له انتهاء، هي النقطة الّتي يبدأ منها كلّ شيء كأنّها النقطة الكونيّة الأولى قبل أن يتمدّد كلّ شيءٍ أو قبل أن يبدأ كلّ شيءٍ بالتنفّس والحركة والاكتمال، هي النقطة الجزء النواة.إنّها كيمياءٌ، أو فيزياءٌ، أو شعرٌ بقوانين طبيعيّةٍ مدروسة.

أمّا المرأة في بعض قصائد هذا الديوان فهي الملجأ، فحين تحتضنه امرأةٌ لا منفى يخيفه بعدها.الجسد الأنثويّ دفءٌ وعشقٌ، وهو الوطن الأكثر أمنًا وحبًّا.

والعمر يمضي والأسئلة تنمو على الشفتين اليابستين لتزيد يباسهما، وكلّ إجابةٍ ضائعةٍ أخذت من هذا الجسد جزءًا من طاقته وحلمه.هو القلق الإنسانيّ والمعرفيّ يجرف ما يجرف من ذواتنا ويمضي، ونحن شيئًا فشيئًا نرحل.الحقيقة كلامٌ لم يكتب له أن يُقال حتّى صار للّغة بومةٌ تنبئ بالموت الّذي سيصيبنا.هو الفراغ المطبق يغلب كلّ شيءٍ، أنت الإنسان وكما قال الشاعر »مكتوبٌ عليك:/ في ها هنا وثنٌ، ويرقد/ إنّه وثن الكلام«.

 الصّمت حزنٌ من نوعٍ آخر، حزنٌ جميلٌ، واعتكافٌ بسيطٌ عن الوقت حين يلغو بلا أيّ قيمةٍ، أو نأيٌ عن متاهات الضجر.هذا الصمت دليل حياةٍ وإن كانت حياةً رتيبة، وسانحةٌ جميلةٌ لسماع ما يقوله الله من فم الشجر.بعض الضجر نعاسٌ على حافة العمر وكسلٌ يأتي بشعرٍ لا بموت.الصمت ملاكٌ، وليس نقيضًا للصوت.ولعلّه قدسيّة الصوت لأنّه الجانب الهادئ فيه، أو الجانب الحليم منه.الصوت ثوريٌّ قويّ يرفض الانكسار، والصمت نقيٌّ.ولكنّ الصمت أمام الظلم موتٌ وخنوعٌ وتخاذل، هو الحدّ المخيف من السكوت حين لا بدّ من أن يسمع الجلّاد وتُستنجد الضمائر.

وبين بداية الأشياء وآخرها فرقٌ واضحٌ للشاعر، بدايتها أرقٌ سببه الجوع والرغبة الملحّة بكلّ شيء حيّ، وآخرها عجلةٌ وحركةٌ خائفةٌ على نفسها من الاندثار.في آخر التجربة تسوقك التجربة لا العكس، هكذا حكم عليك الوقت أن تنتهي من الإرادة إلى الإذعان لمشيئة الأيّام؛ إنّه العمر مرّةً لك ومرّةً عليك.

الشعر يروي حال الشاعر هنا، فهو الّذي لا يعلم كيف يتجاهل أو ينساب مع ما حوله، هو الّذي يستيقظ وينام قلقًا يؤرقه هذا العالم.لا يجاري الواقع ولا يحابي، بل تستنفر حواسه تبحث عن نقطة ضوء.ينصهر بشعره، ولكن تبقى قهوته الفاصل بين الشعر والوعي.لولا القهوة لمات من الحبر أو من الذوبان بالفكرة المجرّدة وبالسعي الحثيث للبحث عن جميلٍ يفتقده هنا.

أمّا الألم فصوته صاخبٌ في هذا الديوان ولا يمكن تجاهله.والألم يأتي على شكل أنثى غائبةٍ، أو مدينةٍ ضائعةٍ، أو عمرٍ راحلٍ إلى غير رجعة، أو فراغٍ شديد السكوت حتّى الملل.الألم خوفٌ من كلّ شيءٍ على كلّ شيء، خوفٌ من أن ينضب العمر بغفلة، فيقول مثلًا »تسقط عيناه / تنبت شوكة خوفٍ في حدقتيه / يكثر فيه الخراب / ينضب الحب فيه / يجفّ تمامًا، يصير يباسًا / من شدّة الخوف من موته / هو يحبس أنفاسه«.

في هذا الديوان يفاجئك وعيٌ جديدٌ في نهاية كلّ قصيدةٍ، وحبٌّ جديدٌ، وإيقاعٌ جديد.تصل مفترقًا غامضًا بين الدهشة والفكرة، وينبّهك شرارة إلى أماكن منسيّةٍ في أعماقك.يعلّمك أن لا تقف على حياد، وأن تتألّم بفخرٍ وحبّ دون أن تضعف.فهو لا يقف محايدًا أمام القضايا الكبرى، وشعره صراخٌ يقضّ مضاجع الظالمين.

في آخر الأشياء ضوءٌ ونقطة شعرٍ وبداية، في آخر الأشياء بكاءٌ مدهشٌ وغناء، هكذا يعلّمك بلال شرارة ويبقى لك أن تنتبه قبل أن تموت.