إشكالية العلاقة بين الخيال العلمي والخيال

أ.د.مازن الرمضاني*

تعود الجذور الاولى للتفكيرالإنساني، الذي يجعل من الخيال اساسا له، إلى ما قبل بداية التاريخ الميلادي.وقد عبرت عن هذه الجذور تلك المساحة الواسعة من المرويات القديمة، كالاساطير وقصص الرحلات والمغامرات الوهمية، فضلا عن الرؤى المثالية الخيالية التي قال بها الفلاسفة الاوائل، كأفلاطون والفارابي.

ومنذ انذاك وهذا النمط من التفكير ينصرف، عبر الكتابة الروائية، إلى البحث في مستقبل طيف واسع ومتنوع من المواضيع وبمخرجات أفضت تدريجيا إلى أن يكتسب، ومنذ بدايات القرن الماضي صعودا، شعبية واسعة، وأن يتمتع بتاثير مهم في الإدراك الإنساني للمستقبل.وتؤكد ذلك نوعية الإستجابة الجماهيرية لدوره في تغذية القدرة الإنسانية على التساؤل والتخيل والإبداع ومن ثم توظيف هذه القدرة لأغراض إستشراف مشاهد المستقبل.

ولتناول هذا النمط من التفكير، سنعمد إلى تناول مفاهيم الخيال العلمي والخيال، ومن ثم طبيعة العلاقة بينهما؟ وفي العدد القادم من »الحصاد« سنتناول طبيعة العلاقة بين الخيال العلمي والعلم.

أولا: مفهوم الخيال العلمي

يُعبرهذا المفهوم عن مقاربة خاصة تنبع من أنها تجمع في أن بين نمطين مختلفين من التفكير ولكن، مع ذلك، متفاعلين إيجابا : نمط يتأسس على احدى أدوات التفكيرالسابق على العلم، هي الخيال.ونمط أخريجعل من أدوات العلم ركيزته الاساس.إن الجمع بين الخيال والعلم هو الذي أسس لبروز مقاربة الخيال العلمي منذ عشرينيات القرن الماضي، كأحد أبرز الروايات الادبية التي تجعل من المستقبل موضوعها الاساس.

ولقد أدى تعدد وتباين خلفيات الذين تناولوا الخيال العلمي بأنعكاساتها على مضامين رؤاهم إلى أن تتعدد المسميات التي تم سحبها عليه.فمثلا قيل أنه : أدب المستقبل، أو أدب التنبوء، أو أدب التغيير أو أدب الافكار…الخ.ونرى أن تسمية أدب المستقبل هي الاصح، هذا لان روايته تنصرف عمليا إلى إستشراف مشاهد المستقبل.

وكذلك تتعدد الرؤى في شأن مفهومه.فمثلا قيل أنه يعبر عن : »الإنتقال في أفاق الزمن على أجنحة الحلم المُطعم بالمكتسبات العلمية «.أوأنه يشير: »…إلى المحكيات الروائية أو القصصية التي تتجلى فيها الإفتراضات العلمية والتقنية من خلال البنية السردية، وتتمحور حول حدث يقع عموما خارج عالمنا المكاني أو الزماني«..وقد قيل أيضا إنه: »…وسيلة )تعبر عن مجال أدبي وفني( يتم من خلالها الإنتقال في أفاق الزمن على أجنحة التأمل الممزوج بالتطورات والمكتسبات العلمية«.

وبالقدر الذي يتعلق بنا نرى أنٌ الخيال العلمي هو نمط من التفكير الذي يعبر عن حصيلة العلاقة الطردية الموجبة بين خيال أحد الرواة ومخرجات العلم والتكنولوجيا السائدة في وقته.وتبعا لذلك فأنه يفيد بنمط من الخيال الروائي المستقبلي الذي ترسم مضامينه صور لثمة أشياء إما لم تحدث أبدا أوأنها لم تحدث بعد ويٌراد بها الإنتقال بالإنسان إلى المستقبل ولاسيما البعيد.

وعلى خلاف ما كان عليه الحال في بداية القرن الماضي عندما كان الخيال العلمي يشار به إلى تلك الروايات المنشورة في مجلات »رخيصة« أضحى اليوم يُعبرعن ذلك الموضوع الذي صارت جل أدوات الإتصال الجماهيري المعاصرة تحرص على تسويقه إلى مختلف شرائح المجتمع، وبضمنها السينما وبرامج التلفاز والصحافة والمسرح، والمذياع، والعاب الفيديو والروايات القصيرة والكتب…الخ.والشيء ذاته ينسحب على المجلات العلمية علما أن بعض هذه صارت تتخصص بالخيال العلمي، ومنها مجلة الخيال والخيال العلمي الامريكية.

وقد يُرد هذا الحرص إلى الجانب الترفيهي الذي ينطوي عليه هذا النمط من الرواية الادبية، بيد أنه يمكن أن يرد أيضا إلى رؤيته كأداة مؤثرة لتحفيز الإنسان على التفكير في المستقبل والانتماء إليه.ولنتذكربهذا الصدد أن صناعة المستقبل المرغوب به تتطلب أولا توافر القدرة على تخيله قبل تبني تلك الإجراءات التي تفضي إليه.

ولاهميته لاغرابة أيضا في أن تجعله جامعات في عالم الشمال أحد مواضيع برامجها التدريسية، فضلا عن إتاحة الفرصة للتخصص العلمي به عبرالدراسات العليا : الماجستير والدكتوراه، هذا إدراكا منها لتاثيره الفاعل في عملية التنشئة العلمية وبضمنها الإرتقاء بقدرة الإنسان على الإبداع في تصور مألات الاشياء في المستقبل وكيفية الإستعداد لمواجهتها.

وقدعَبرالتفكيرالخيالي العلمي عن ذاته من خلال تعاقب صدور روايات خيالية مستقبلية وبمضامين كانت أما أدبية و/أو علمية تحدثت عن تنبؤات و/أو رحلات و/أو اختراعات علمية…الخ.وقد كانت هذه الروايات تعتبر في زمانها ضربا من الخيال غير الممكن الحدوث قبل أن يثبت العلم أن كل شيء يُعد ممكنا وقابلا للتحول إلى حقائق موضوعية.صحيح أن خاصية عدم اليقين الهيكلي، التي يتميزبها حاضرالزمان، لا تسمح بتوافر المعرفة اليقينية عن ما قد يمكن، أو يحتمل، أن يحدث في المستقبل، إلا أن إستمرار التساؤل عن مخرجات عملية تغيير العالم تفضي على مقاربة الخيال العلمي أهمية مضافة وتجعلها بمثابة أحدى الإدوات المهمة لإستشراف مأل الاشياء القادمة.

وعديدة هي التنبؤات التي قالت بها قصص الخيال العلمي في أوقات سابقة وتحولت لاحقا إلى حقائق موضوعية.ومن بينها، مثلا الانترنت القنبلة النووية الهبوط على سطح القمر الرادار الصحف الورقية، الدبابات والغوصات، محادثات الفيديو العاب الواقع الافتراضي، بطاقات الائتمان وغيرذلك كثير.وبينما كان الإطار المكاني لهذه القصص هوإمّا سطح الارض أوأحدى الكواكب السيارة، أو في أية بقعة من الكون، كان الإطار الزماني في الغالب هو المستقبل البعيد أوغيرالمنظور.

وتتعدد تصنيفات قصص الخيال العلمي.ومع ذلك نرى أنها تنحصر في ثلاثة أنواع أساسية فأما عن الاول فهو ينصرف إلى البحث في مواضيع تندرج تحت عناوين محددة ومثالها الخيال العلمي الاجتماعي والخيال العلمي العسكري.وأما عن الثاني فهو يعبر عن خيال علمي جاد ومنضبط ويقوم على فرضيات مدروسة يمكن البرهنة عليها، ويتميز بمستوى عال في الكتابة والحنكة المنطقية والدقة العلمية.وأما النوع الثالث فهو يفيد بالعكس.إذ يقوم على رؤى خيالية بالغة الشطط، ويكاد يقترب من قصص الفنتازيا.

 وينطلق التفكير الخيالي العلمي من مقاربة لا تنتمي إلى حقول المعرفة العلمية، الامرالذي يجعل من السؤال الذي يتأسس عليه سؤالا تصويرا.وغني عن القول أن هذا السؤال يختلف عن السؤال العلمي بالضرورة.ومع ذلك، ينطوي السؤال التصوري على اهمية بالنسبة للخيال العلمي.

 وتكمن هذه الاهمية في طبيعة المقاربة التي ينطلق منها، والتي تتماهى مع المقاربة الإتجاهية التي تنتشر حاليا بين المستقبليين.فهذه المقاربة تتأسس على أن التطور التاريخي لموضوع محدد يفضي إلى أقترانه بإتجاه )بمعنى مسار( محدد، وأن هذا الاتجاه في حالة ديمومته، سيجعل من صورة مستقبل أحد المواضيع امتدادا لتلك الصورة التي كان قد إقترن بها في ماضي الزمان.

والشىء ذاته تقريبا ينسحب على روايات الخيال العلمي.فهي تعمد، عبر توظيف أدوات كيفية، إلى سحب الإتجاهات السائدة في المجتمع، سواء أكانت علمية، أو تكنولوجية، أو اجتماعية، أوسواها على المستقبل ساعية بذلك إلى تصوركيف ستكون مشاهدة.

.ومن أجل ذلك تتميز هذه الروايات بطرح أسئلة تتناول مواضيع خيالية، تأخذ صيغة : ماذا لو، ومثالها السؤال: ما الذي سيحدت، لو أن جليد القطب الشمالي قد ذاب، وأن مستوى سطح مياه البحارقد وصل إلى خمسين مترا ؟ وماذا سيحث، لو أن العلم استطاع اكتشاف دواء يعطل الشيخوخة ويجعل الانسان قادرا على العيش مئات من السنين؟

ويشيركاتب روايات الخيال العلمي، Gareth L Powel، أن الإجابة عن الاسئلة الخيالية تتم عادة من خلال تتبع تاثير الاتجاهات الاجتماعية والتكنولوجية السائدة في وقته على شخص أو أشخاص الرواية الخيالية، والتي فيها يتقمص الروائي الخيالي شخصية الفرد أو الافراد موضوع روايته في المكان والزمان.وهذا التتبع هو الذي يسمح بتصور المستقبلات الجيدة والرديئة.

ثانيا :مفهوم الخيال

تتعدد وتتنوع الرؤى ذات العلاقة بمفهوم الخيال.فمثلا يؤكد الروائي خير الدين عبد الرحمان، أن الخيال يعبر عن »…ملكة نفسية وقوة باطنية تعيد إنتاج المعطيات الإدراكية السابقة وتسهر على تشكيل تمثيلات ذهنية مشابهة لظواهر العالم الموضوعي أو مغايرة لها في بنيتها وعلاقتها وطرق اشتغالها…)ولهذا هي ملكة( ساعية إلى أستكناة المعنى الحقيقي المضمر للوجود والإنسان وتَشيد عالم أخر مختلف أجمل وأمتع«.

ويفيد هذا الفهم أن الخيال إنما يعبر عن قدرة الإنسان على الخروج من المربع المحدد الذي يفرضه الواقع وثم الانتقال عبر أبعاد الزمان وعلى ذلك النحو الذي يربط الماضي بحقائقه مع الحاضر بمعطياته وكذلك مع المستقبل بمشاهده سبيلا لبناء صور مستقبلية تخالف صور الواقع الراهن.وبهذا الصدد قال ألبرت أينشتاين إن : »الخيال أهم من المعرفة، فالمعرفة محددة حول ما نعيه ونفهمه ولكن الخيال هو الذي يحقق طموحاتنا وأحلامنا ما يجعلنا قادرين على تحقيق مستقبل لم يأت وربما لن ياتي، فنعيشه حلما خيالا، يبعث الامل فينا والرغبة في الحياة«. وكذلك قال، المستقبلي الإسترالي ريتشارد أي.سلوتر في معرض تقييمه للدور الإيجابي لمثل هذا الخيال »…إنه يأخذ بالعقل الإنساني خارج إطار الحقائق الراهنة والإتجاهات السائدة وما شابه ذلك.

ويتداخل مفهوم الخيال شكليا مع تلك المفاهيم، التي أستمر الانسان يتداولها، والتي تٌعد مضامينها المعرفية محط جدل وإجتهاد وأختلاف.إن هذا التداخل هوالذي يجعل التمييز الدقيق بينها ومفهوم الخيال على قدر من الصعوبة.ومن بين هذه المفاهيم الاسطورة، والخرافة، والملحمة، والحكاية الشعبية أوالحكاية البطولية.ومع هذا التداخل نرى أن الخيال كنسق ادبي يبقى مختلفا عن سواه من الإنساق الادبية ذات العلاقة.وكمثال سنتناول الاسطورة، كنوع من الادب الذي يتناول اشياء لا تتحقق إلا خيالا.

وقبل ذلك، نرى جدوى استعراض البيئة التي نشأ فيها مفهوم الاسطورة.إبتداءٌ، يشيرتاريخ ظاهرة الاسطورة إلى انّ نشأتها كانت لصيقة بواقع إنسان ما قبل الحضارة، أي الإنسان القديم.فهذا تبنى رؤية للمستقبل لم يحل التباعد المكاني بين المجتمعات القديمة وتباين معطيات واقعها، دون إستمرار تماثلها.ويُرد ذلك إلى أن هذه المجتمعات كانت قد اخذت بالعقلية البدائية التي تتميز بخصائص محددة ورؤية متشابهة إلى الكون وما وراء الكون، فضلا عن اقترانها بمفاهيم شائعة عن حياة البشر ودوافعهم وعلاقاتهم وغير ذلك.

وأتساقا مع معطيات بيئة المجتمعات القديمة برزت الاسطورة كقصة ما ورائية مادتها اللامعقول وأداتها الخيال الجامح، لجأ إليها الإنسان القديم لتفسير الظواهر المعقدة التي كانت تحيط به والإخبار عنها.ومن اجل ذلك فأنه ذهب إلى تبني قاعدة مرجعية اعتمدت وبشكل أساس، على غيبيات منطق لا صلة له بالعقل تمتعت فيه الالهة و/أو قوى الغيب الماورائية بتأثير حاسم ، وهو الامر الذي دعمته القصص الخيالية التي نسجها الإنسان القديم حول الدور الخارق لهولاء الالهة الذين تم ربط كل ظاهرة محددة بواحد منهم.

وقد أدت ثلاث مدخلات متفاعلة إلى إستمرار تأثير الاسطورة عبر الزمان.ومن بينها مثلا الاتي:

فأما عن الاول، فهو يرتبط وظيفيا بنوعية التفسير الذي تقدمه الاسطورة لمختلف الظواهر الطبيعية وسواها، فضلا عن العلاقات المنظمة لسيرورة المجتمعات.

وأما عن الثاني، فهو يعبر عن أبعاد التغلغل العميق للاسطورة ، ولاسيما في البنى الاجتماعية للمجتمعات القديمة والتقليدية، وأثرها في إنتاج وتنظيم وتأويل الانماط السلوكية السائدة فيها، وهو الامرالذي ساعد عليه ازدهار الثقافة الشعبية ذات الجذور الاسطورية في هذه المجتمعات.

وأما المدخل الثالث، فهو يتعلق بالاثر الديني العميق للاسطورة في الشعور و/أو اللاشعور الجمعي للمجتمعات.فخشية الإنسان القديم من مختلف الظواهر الطبيعية وسواها، والتي راى أنها تستوي والالهة، ادت إلى أن يذهب إلى عبادتها عبر طقوس مختلفة سبيلا للتقرب منها واجتناب شرها.ومع أن الاسطورة كانت بمثابة الامتداد الطبيعي للمعتقد الديني، إلا أنها عملت على تثبيته في صيغ ساعدت على حفظه وتداوله بين الاجيال، فضلا عن رفده بذلك الجانب الخيالي الذي يشد الانفعالات الانسانية اليه.

لذا لم يؤد التطور الحضاري للإنسانية إلى تآكل النزوع الميثولوجي )الاسطوري( المتأصل في اعماق اللاشعور الإنساني :الفردي والجمعي.فكثيرة هي الشواهد التي تؤكد على إستمراره مؤثرا.وتكفي الاشارة إلى الاتي على سبيل المثال.

تفيد التجربة أن الإنسان لا يتردد، ولاسيما في أزمنة الإضطراب وعدم الإستقرار ومنعطفات التغيير عن إعادة بعث رموز ميثولوجية قديمة وإضفاء عليها طابعا اعجازيا وماورائيا، ومن ثم توظيفها سبيلا للتماهي مع معطيات واقعه.فعلى الرغم من أن القرن الحادي والعشرين يتميز بخصائص معروفة، إلا أن شرائح واسعة في مجتمعاتنا العربية، مثلا ما تزال تجعل من الاساطير بأنواعها نبراسا لانماط سلوكها وتعبيرا عن صعوبة فكاكها من قيود تخلفها الحضاري.

وعلى الرغم من أن الخيال ينطلق من مقاربة لا علاقة لها بالمعنى الذي استقر عليه مفهوم العلم، إلا أنه مع ذلك يلتقي والخيال العلمي على صعد متعددة.وبالقدر الذي يتعلق بموضوعنا، نرى أن التوجه إلى المستقبل هو القاسم المشترك والاهم الذي يجمع بين الاثنين.فإضافة إلى أنهما يوفران المادة الخام لهذا القاسم المشترك، كلاهما ينطلق من رؤية للحياة وكأنها قصة لا تقتصر على الحاضر فحسب، وإنما تمتد أيضا إلى المستقبل.

لذا، وعلى خلاف عناصر الالتقاء بين الخيال والخيال العلمي، تقوم فجوة واسعة بين الخيال الاسطوري والخيال العلمي، سيما وأن الاول يتأسس على نمط من التفكير أضحى عمليا خارج الزمان. ومرد ذلك تناوله لقضايا لاعلاقة لها بالحاضر ولا أيضا بتلك التي يحتمل أن يقترن بها المستقبل.

*أستاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات