في ضرورة التكامل بين تيارات الأمّة

معن بشور

قدمت إلى الندوة الفكرية السياسية التي نظمتها حركة النهضة التونسية، في الذكرى السابعة لانتصار الثورة التونسية، حول »التوافق القومي الإسلامي«، تونس 15/1/2018

كل الشكر للأخوة القيمين على هذه الندوة الفكرية السياسية لإتاحة الفرصة لي لكي أتناول أمراً في غاية الأهمية وهو موضوع التوافق القومي الإسلامي ودور حركة النهضة فيه.

ولا بدّ في البداية من توجيه تحية الاعتزاز والإجلال لشهداء الثورة التونسية المعاصرة، بل لكل شهداء الكفاح التونسي على امتداد العقود الماضية، وخصوصاَ للشهيد محمد البوعزيزي الذي بات رمزاً لكل روح ثورية في تونس وعلى مستوى الأمّة والعالم.

كما أرجو إفساح المجال لي لتوجيه تحية خاصة لصديق كبير ومفكر استثنائي، هو الدكتور محمد المسعود الشابي رحمه الله، الذي تعرفت من خلاله إلى حركة النضال الوطني في تونس منذ أواسط الستينات، وتعرفت من خلاله أيضاً إلى حركة النهضة، ورئيسها الشيخ راشد الغنوشي منذ ثمانينات القرن الفائت حين قال إن مستقبلاً باهراَ ينتظر هذه الحركة في تونس، وقد كان الشابي احد ابرز المساهمين في إرساء أسس التلاقي بين التيارين الاسلامي والقومي منذ تسعينات القرن الفائت عبر كتابه الشهير »عروبة واسلام قضايا استراتيجية« او عبر مساهمته في تأسيس المؤتمر القومي الاسلامي 1994، ومؤسسة القدس الدولية عام 2014، الى جانب قامات كبيرة من التيارين ومن مغرب الوطن ومشرقه، بعضهم قضى نحبه وبعضهم ما زال ينتظر وما بدلوا تبديلا…

نعم هناك من لم يبدل موقفه من أهمية تلاقي تيارات الأمّة كافة، القومي العربي التقدمي، والإسلامي المستنير، واليساري الوحدوي، والليبرالي الوطني، رغم كل العواصف والزلازل التي عصفت بالمنطقة وكادت تودي بفكرة التلاقي ليس بين تيارات الأمّة فحسب، بل داخل كل تيار من هذه التيارات…بل تكاد تودي بوجود الأمّة نفسه ووجود أقطار وكياناتها.

إن الحرص على إعلاء شأن فكرة التوافق القومي الإسلامي، بين كل التيارات المسكونة بهم المقاومة والنهضة والوحدة والعدالة والتقدم والتجدد الحضاري على كل التناقضات الواردة من الماضي، والمتفجرة في الحاضر، بل بين كل تيارات الأمّة نابع من جملة اعتبارات:

أولى هذه الاعتبارات حجم التحديات التي تصل إلى حد تهديد وجود الأمّة، ووجود أقطارها وكياناتها، ومن أبرز هذه التحديات ما يسمى »بصفقة القرن« والتي كان قرار ترامب المشؤوم باعتبار القدس عاصمة الكيان الصهيوني أحد أبرز عناوينها وهي صفقة لا تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، بل تصفية وجود الأمّة كلها كوحدة، وأقطارها لكيانات.

ثاني هذه الاعتبارات الطبيعة المرعبة لتفاقم الاصطفافات السياسية والعقائدية، الطائفية والمذهبية والعرقية، وما تقود إليه من إقصاء وتهميش واجتثاث وغلو وتطرف وتوحش واحتراب لا ينتهي، وهي اصطفافات تجعل من دعاة التوافق والحوار محاصرين من قوى متعددة، تلتقي رغم ما بينها من تناقضات وصراعات على محاربة دعاة الحوار وتوجيه الاتهامات المتناقضة لهم.

فإذا تلاقيت كعروبي أو يساري مع حركة النهضة التونسية أو حركة حماس الفلسطينية على قاعدة الدفاع عن الأرض والهوية العربية الإسلامية تصبح »إخوانجيا« ينبغي عزله.

وإذا دعوت لحوار صريح وعميق مع إيران أو تركيا لتطوير العلاقات وتصحيحها وتجاوز ما ينتابها من ثغرات، وبناء تكامل إقليمي يصون استقلال المنطقة وتنميتها، تصبح صفوياَ ومجوسياَ، أو سلجوقيا عثمانياَ…

 وإذا حذرت من مغبة الحصار والحرب على العراق، ورفضت مؤامرة التدمير والتقسيم في سوريا، وإذا اعترضت على تدخل الناتو في ليبيا، واستنكرت الحرب على اليمن، وطالبت بالإصلاح في البحرين وغيرها، وإذا دعوت لحلول سياسية سلمية للأزمات في المنطقة، تصبح نصيراً للاستبداد…

وإذا كنت »قومياً عربياً« فأنت متهم بالشوفينية والعنصرية، وإذا كنت »إسلامياً« فأنت متهم بالإرهاب، وإذا كنت يسارياً أو علمانياً فأنت متهم بالإلحاد، وإذا كنت ليبرالياَ فهذا يعني بالضرورة ارتباطك بالمشروع الاستعماري الغربي، وكلها اتهامات تعزز المتاريس بين تيارات الأمّة فيما كل ما حولنا يدعونا إلى بناء الجسور ليس فقط لمواجهة التحديات الضخمة، بل لإطفاء الحرائق المشتعلة أو الكامنة في الوطن الكبير.

الاعتبار الثالث الذي يحتم التأكيد على التوافق القومي الإسلامي هو ما نراه من حرب مستمرة ومتطورة ضد الهوية العربية الإسلامية وما يتصل بها من قضايا وشؤون، وخصوصاً »اللغة العربية والتراث العربي الإسلامي«، وأخطر ما في هذه الحرب هو حين تنجح في استخدام العروبة للحرب على الإسلام، واستخدام الإسلام للحرب على العروبة، وما استهداف القدس وهويتها العربية والإسلامية إلاّ أحد عناوين هذه الحرب التي لا تكتفي بالجانب العسكري فحسب، بل تتعداه إلى الجوانب الثقافية التاريخية والإعلامية والاقتصادية والأمنية والتربوية، وهو ما يتطلب استراتيجية مواجهة شاملة تشارك في تنفيذها كل تيارات الأمّة.

رابع هذه الاعتبارات هو أن التحديات المفروضة علينا، سواء الخارجية أو الداخلية، وآخرها »صفقة القرن« وإعلان ترامب، هي فرصة كبرى من أجل توحيد طاقات الأمّة وتياراتها في مواجهة هذه التحديات، خصوصاً في ظلّ تطور موازين القوى لصالح إرادة التحرر والاستقلال ورفض الهيمنة الأمريكية، حيث نرى تراجعاً للمحور الأمريكي الصهيوني الرجعي، وتقدماً للمحور الآخر الممتد من أقاصي آسيا )الصين( إلى قلب أوروبا )روسيا( وصولاً إلى محور المقاومة الممتد في الشرق العربي والإسلامي.

فإذا أدركنا أهمية الفرص المتاحة وسعينا من أجل حشد الطاقات لمواجهتها، وأجرى كل تيار مراجعة نقدية جريئة لتجربته ولما رافقها من أخطاء وأحياناً خطايا، بل حرصت تيارات الأمّة على تجاوز كل الحساسيات والعصبيات المتحكمة بسلوكنا وعلاقاتنا نصبح أقدر على مواجهة التحديات..

وهنا يطرح السؤال الكبير نفسه: ما العمل؟ وكيف نعيد بناء هذا التوافق، وما دور حركة إسلامية فاعلة كحركة النهضة في بناء هذا التوافق، بل دورنا جميعاً قوميين وإسلاميين في هذا المجال.

في هذا الإطار لا بدّ من التأكيد على جملة أمور:

1 إعلاء شأن الحوار كطريق أسلم لمعالجة كل الخلافات والتصادمات بيننا، بعد أن أثبتت كل الأساليب الأخرى عقمها وكلفتها الدموية والبشرية.

2 قيام الجميع حركات وجماعات وأحزابا ومفكرين بمراجعة نقدية جريئة لتجاربها على غرار ما جرى في ندوة »الحور القومي الديني« التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في أواخر سبتمبر/أيلول 1989، وعلى رأسه آنذاك الأخ الكبير مؤسس المركز د.خير الدين حسيب، في القاهرة، والتي أتاحت لكل تيار أن يقوم بنقد تجربته الذاتية، والتي تعرفت خلالها إلى الشيخ راشد الغنوشي الذي كان عنصراً رئيسياً في عملية المراجعة داخل التيار الإسلامي تماماً كما كان مؤسسو المؤتمر القومي العربي من دعاة المراجعة لتجربة التيار القومي العربي المعاصر.

3 الاهتمام بتعزيز ثلاثية النهوض كما وضعتها في ورقة لي في الندوة الكبرى حول المشروع النهضوي العربي في عام 2002 في مدينة فاس المغربية.

ثلاثية النهوض تلك، كما حددتها، هي »التواصل والتكامل والتراكم، بكل مدلولاتها، فالتواصل بين أقطار الأمّة وأجيالها وتياراتها هو ثقافة وآليات، وكذلك التفاعل بين المهام والأدوار والأفكار، وهو أيضاً ثقافة وآليات، والتراكم في الخبرات والتجارب هو ثقافة وآليات أيضاً.

4 تعزيز ثقافة الوحدة مقابل ثقافة القطيعة التي وقفت وراء كل تشرذم وتناحر وتصادم بين أبناء الأمّة.

فانتشار ثقافة الوحدة هي الردّ الحاسم والفاعل لإسقاط منطق الإقصاء والإلغاء والاجتثاث، بل الطريق لاحترام حقوق الإنسان والجماعات سواء كانت دينية أو أثنية أو سياسية.

5 إعادة الاعتبار لأولوية قضية فلسطين واعتماد المقاومة بكل أشكالها وفي مقدمها المقاومة المسلحة، وبناء ودعم كل المؤسسات والأطر داخل فلسطين وعلى المستوى العربي والإسلامي والإعلامي، ففلسطين ما زالت موضع إجماع على المستوى الشعبي في كل أقطار الأمّة، كما هي قضية تحقق المزيد من التأييد على مستوى دول العالم.

6 الاهتمام بتعزيز فكرة التكامل الحضاري العربي والإسلامي بين العرب ودول جوارهم الحضاري الإسلامي والإفريقي، لبناء إقليم يتمتع بالقدرة على صون الاستقلال وتحقيق التنمية، وهنا لا بدّ من تجاوز كل المعوقات لبناء هذا الإقليم بأضلاعه كافة، خصوصاً العربية والإيرانية والتركية، وفي القلب منها الأخوة الأكراد، على قواعد التكافؤ وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام سيادات الدول الوطنية والقومية ووحدتها.

7 التأكيد على قضية الحرية وحقوق الإنسان لا باعتبارها قضية احترام حقوق أساسية للمواطن العربي، بل باعتبارها ضمانة لوحدة المجتمعات والأوطان ولقيام دولة المواطنة التي لا تمييّز فيها لمواطن على آخر على اعتبارات الدين أو العرق أو اللون أو الجنس.

8 الاهتمام بقضية الاصلاح السياسي والحريات العامة، لا تكريساً لفكرة الكرامة الإنسانية والكفاية والعدالة في مجتمعاتنا، بل أيضاً كطريق لحشد أوسع الطاقات الشعبية في مشروع النهضة، وكطريق لتحصين مجتمعاتنا من تسلّل عناصر التخريب الاقتصادية التي تجيدها الصناديق الدولية والمؤسسات المماثلة، والتي أدّت إلى خراب اقتصادي اجتماعي هو أساس الخراب الاجتماعي والسياسي.

بعد احتلال العراق عام 2003، تلك الجريمة التي توالت بعدها جرائم التدمير والتفتيت والتناحر في الأمّة كلها، لاسيّما في سوريا وليبيا واليمن، وفي المؤتمر القومي العربي الرابع عشر الذي انعقد في صنعاء الجريحة وشرفني بانتخابي أميناً عاماً له، طرحت ما أسميته »برباعية الخلاص« والتي تقوم على: )1( المقاومة.)2( المراجعة.)3( المصالحة.)4( المشاركة.ويبدو أنها بأركانها ما زالت صالحة لمواجهة كل التحديات.