إضاءة على كتاب:  الديمقراطيّة التعبيريّة بين المفهوميْن القومي والإسلامي

بيروت ـ نسرين الرجب

 للدكتور علي نعمة

 من عادة الكتب التي تحمل زخما موضوعيّا سياسيّا، أن تكون موجهة إلى نُخبة من القُرّاء، الّذين يمتلكون مفاتيح مصطلحاتيّة، تؤهلهم للدخول في عوالم المؤلَف المقروء.

في كتابه يجهد الدكتور علي نعمة كي يكون كتابه شموليّا وغير مُعقّد، فهو إذ يشاء يحرص على استخدام لغةٍ قريبة من الأفهام ويعتمد أسلوبا استقرائيّا نيّرا.

 يتألف الكتاب من جزئين وسبعة عشر فصلا، موزّعة على 387 صفحة، خصّص الجزء الاول للحديث عن خصائص أنواع الكيانات السياسيّة، ومنها الديمقراطية؛ وعن بنائها ودور الثقافات الانسّانيّة في تأسيسها وتشييدها، بينما خصص الجزء الثاني للحديث عن القيم والمضامين الإنسانية في الإسلام التي تؤسس لبناء فكر المجتع الديقراطي.

 لقد تناول الكتاب العديد من الموضوعات المتشعِبة، وسيكون الكلام في هذا المقال عن بعض الموضوعات المُثيرة للاهتمام التي تناولها الباحث المؤلف في كتابه، ومن هذه المواضيع، الاستبداد ودور الشعوب في تقرير مصيرها، أهميّة اللغة، العلمانيّة والدين، القيم الاسلاميّة ومدى توافقها مع الفكر الديمقراطي.

الاستبداد؛ حجر تأسيسه الفرد الخانع

 يوضّح المؤلِّف أنّ عدم مساءلة السلطة الحاكمة عن انتاجيّة نظامها، يُمهّد لدخولها في مرحلة الاستبداد، وهو إذ خصّ الفصل السادس عشر بالحديث عن منحى الاستبداد السياسي في مواجهة الديمقراطيّة التعبيريّة وسلطاتها ومؤسساتها وتعابيرها، كان حريصا منذ البداية على عدم تنزيه الشعوب ولا الأنظمة، مدلا ومشيرا في أكثر من منحى على أهميّة الفرد في تقرير مصيره باعتباره هو مصدر السلطة، لقد تحدث بإسهاب عن نشوء التجمعات البشريّة وتطوُّرها حتى تُشكَل نموذجا مُجتمعيّا، وبالتالي نشوء أنظمة الحكم والقوانين، التي تفرض القوانين »إن المخطط التنظيمي الذي تقرره وتفرضه السلطة الحاكمة..يصبح عرفا اجتماعيّا شائعا بين الناس وقانونا حاسما ساريا إما خوفا واستسلاما لقوة السلطة..، وإمّا لاقتناعِهم بفائدته«. محيلا في كل ذلك على موقف القوميين العرب حيث سلطة النسخ والتثبيت، أي أنّها تُعيد نسخ نظامها السياسي القديم وتُكرِره في نوعيّة تطبيقه على الناس تثبت رؤساءها وحكمها وعائلاتهم حتى أحفادهم مُشيرا إلى أنهّ بإضفاء هالة القدسيّة عليهم يصبح التعرض للذات الرئاسية يوازي التعرض للذات الالهية، والأمثلة واضحة في واقع مجتمعنا العربي عامة واللبناني خاصة.

 تحدّث عن دور اللغة واللسان في بناء العصبيّة الاجتماعيّة والسياسية للأمة، »اذا فسد شريط الذاكرة أي اللغة واللسان فسد معه..الوعاء الفكري..فسدت الشخصيّة الثقافيّة…فسدت قاعدة انطلاقة العصبية القومية…فسدت شكيمة الأمة وشوكتها« فهي باب الصعود والارتقاء الخطير الذي ينهض بالأمة ويحصّن وحدتها، وهي، أيضا، سلّم الانحدار الذي قد تهوي إليه الأُمة وتفقد به وحدتها.

 فالأمم الواعية تدرس تاريخ حضارات الشعوب والأمم الأخرى وتفاصيل ثقافتها ومضامينها لتأخذ العبر منها وتستفيد من تجاربها لتختصر بدورها الطريق إلى نجاح شؤونها ولتتجنب مضاعفات الأفشال.

العلمانيّة والدين.

 يُقدّم المؤلف رؤية مُغايرة لمصطلح العلمانيّة التي، كما أوضَح، تقوم على اعتماد العلم والمعرفة والمصلحة يعني اعتماد الصدق والاعتراف بالحقيقة، وبالآخر وحقوقه، والصراع السلمي مع اعتماد مبدأ الحوار البنّاء السياسي والاجتماعي وصولا الى التغيير المنشود.

 لم تنشأ من عبث، أو لغاية تتعارض مع القيم الدينيّة بل يعود سبب نشوء فكرة الدولة العلمانيّة إلى مرحلة القرون الوسطى في أوروبا وهي المرحلة المعروفة بعصر الجهل والظلمات حيث ساد طُغيان الأنظمة السياسيّة الفاسدة وسيطرة الكنيسة، ونفاذها إلى مفاصل الدولة الحاكمة واستشراء هيمنتها وطغيانها الظالم على كل شيء، وحرق الكتب والمصنفات العلميّة. ويضيف أنّ العلمانيّة تم الترويج لها كما الكثير من المفاهيم المغلوطة والاشاعات الخاطئة، ففكرة الدولة العلمانيّة والتي هي في جوهر مقاصدها لا تتعاطى مع الشأن الديني مطلقا، لا بمفهومه ولا بطقوسه بل تلتقي في عمق جوهرها مع الدين في عمق جوهره حول احترام الإنسان وحقوقه ومصالحه، غايتها رعاية شؤون الإنسان ومصالحه في الدنيا، وتنظيم مجتمعه وإدارته بما هو خير للإنسان وبناء الأسس الناظمة لهذه الإدارة على أُسس علميّة صحيحة.

يؤكّد المؤلف أنّه لا يُمكن فصل الدين عن الدولة كما هو شائع عن العلمانيّة، فأوضح الحديث عن حالة ارتباط الإنسان بالفكر الديني ارتباطا وثيقا لا يستطيع الانفلات منه، بما يطرحه هذا الفكر من إجابات عن سر وجود الكون وسر وجود الانسان وسر صيرورته ومآله، كما يفرض سلوكا معينا، ومفهوما فكريّا مُعيّنا، أمّا » الشأن السياسي الحقيقي الصافي فهو علم وحكمة ومعرفة، وهو فن وموهبة«

لذا فإنّ فصل الدين عن الدولة وطرحه بوصفه شعارا يحمل في طياته أشد الخطورة إذا لم يفسر ويُفصل بطريقة دقيقة، فمنظومات القيَم الدينيّة في مجتمع ما تسقط نفسها وتفرضها على منظومات القيَم السياسيّة، فهي تتحول إلى جزء أساسي من نظام الفكر السياسي والاجتماعي، وموضوع الفصل سيصطدم بممانعة الناس بوصفه اعتداء عنصريّا ظالما ضد معتقداتهم، وقد يجُر إلى ثورةٍ شعبيّة.

فليس من صالح أي مجتمع أن يتخلى عن مفاهيمه وقيمه الخاصة، قبل التحضير المسبق لذلك بضخ مفاهيم وقيَم بديلة تعوّض عن القديمة وتفيد أكثر منها، فالمجتمع الفاقد لقيَمه والفارغ من القيَم البديلة المفيدة يتحول بسهولة إلى مجتمع غابة تسرح فيه الوحوش البشريّة ويفترس فيه القوي الضعيف.

 ولكن عندما يُشكل المعتقد الديني عائقا أمام تطوّر المجتمعات لابدّ من إيجاد قيَم بديلة ويتم ذلك بالقناعة الفكريّة الهادئة وبالعلم الصادق.

يُشير المؤلف إلى أنّ الاعتراض يكمن في كون الخطاب السياسي الذي يُلقى من موقع سلطة دينيّة قد يأخذ منحى الأمرالإلهي المبرم أو يوحي بذلك عند فئة غير متفقّهة في الدين أو السياسة أو كليهما معا، التنديد برجال الدين الذين يحرفون الكلام عن مواضعه، ويستغلون الدين مآرب ومصالح خاصة.

لذا فالغاية من علمنَة الدولة هي منع رجال الدين من امتطاء الدين وتسخيره اعتباطا لخدمة مصالحهم الخاصة أو للوصول للسلطة أو لمؤازرة رجال السياسة، ففي عالمنا العربي النسبة الغالبة من رجال الدين تكرز بالسياسة وشعاراتها المختلفة تبعا للجهة التي يُمثلها رجل الدين أو يروّج من على منبره الديني لصالحها.

 وتهدف فكرة العلمانيّة إلى بناء دولة مجتمع الانسان المرتكزة على أقنوم توازن العلاقات الايجابية التفاعلية بين ثلاثية الدولة والمجتمع والانسان وتحت راية العقل والمصلحة.يحصل الانسان في مجتمع الدولة العلمانية على المساواة في الحقوق والواجبات وضمان حق الصراع السلمي، إمكانية إصلاح النظام السياسي الاجتماعي، ضمان مشاركة المواطنين في انتاج السلطة، اعتماد أسس العلم والمعرفة والعقل ومصلحة الانسان بعيدا عن الضغط والتدخلات الاعتباطية لبعض رجال الدين المتسيسين، وبالتالي ربط المواطن رسميا وعمليّا بثقافة الانتماء الى المجتمع والدولة، وتعزيز نظام العيش الواحد.

»فالشعوب تفلح حضارتها بالعلوم والمعارف على أنواعها وتحت راية العقل والمصلحة في كل الميادين وتتخلف وتنحط حضارتها وتفشل إدارتها وتعجز إذا اعتمدت الجهل والترهات بعيدا من العقل والمعرفة«.

القيم الاسلامية وروح الديمقراطيّة

 عمد المؤلف إلى الربط بين قيم الديمقراطيّة والقيم الأخلاقيّة والأحكام التي دعا إليها الإسلام، وهو إذ أظهر فهما عميقا ومتبحّرا في تفسير الآيات القرآنيّة واستخراجِها بما يُلائم الهدف الذي سعى إلى توضيحه وإثباته، عمل على إعطاء تعريف مُوسّع للديمقراطية مُقرّا من أنّه ليس هناك تعريف مُوحّد لها، ومن جملة ما قاله ؛ النظام الديمقراطي أنواع في العالم بسبب تمايُز الكيانات الجغرافيّة والسياسيّة وبالتالي يختلف شكل السلطة والحكم مع المحافظة على ضمان الحريّات، مرونة النظام ليُواكب المتغيّرات، وهي سلطة مُستبدة تبسُط هيبتها وتنفذ إرادتها على جغرافيّة المجتمع السياسي الذي تحكم، إضافة إلى أنّها سُلطة ناظِمة ومدبرة للشؤون السياسية والاجتماعية، وهي سُلطة ثقافة النظام الاجتماعي الحياتي السائد، وهي مثل أي نظام سياسي تعمل وتنتج لتخدُم بشكل ذي مردوديّة أفضل مصالح مجتمع سياسي مُعيّن

 أبان أنّه ليس ممكنا اعتماد النظام الديمقراطي ما لم يكن التفكير والايمان بصلاحه وجدوى كفاءته قد تكوّنت عند غالبيّة المكوّنات، مؤكّدا على أهميّة القناعة الفكريّة وأخذ العبر من الأزمات بهدف الحصول على منافع من دون عنف واحتراب، إضافة إلى الايمان بالآخر واعتباره قيمة معنويّة لا يجوز الغاؤها، تحت سقف الانتماء للفكرة والعقيدة تحت جناح الانتماء للوطن ككل، عصبة قومية. معطيا مثالا عن أنّ الركاكة والهشاشة التي تُسيطر على الدولة اللبنانيّة تعود الى وجود مؤسسات اقتصاديّة مستقلة وأشبه بدُويلة.

 هذا الكتاب في مواقف مُتعددة هو محاولة لرد الشُبهات التي طالت الدين الاسلامي، ومن الإشكاليات العظيمة التي يطرحها الكتاب »الرحمة الإلهية«، وأنّ الحساب بيد الله، فلا حُكم للمخلوق على المخلوق، والأمر كله يرجع لله فيُنبئهم بما كانوا يعملون، هذا الطرح قرأ آياته العديد من علماء الدين والمُهتمين بالشأن الديني والعبادي وقلّة من تدبر أمرها، فما فتئوا يفتون بالرجم والقتل واللعن والسُباب، وما فتئ الإنسان يُنصّب نفسه مُفتيا وقاضيا على أقرانه، الحريّة هي ما يطمح اليها الناس جميعا، والله خير مثال فهو حر وحريته مطْلقة أمّا حرية الانسان فهي حرية مقيدة محدد سقفها وحدودها بالقوانين والقدرات التي أوجدها الله في عباده، »حريّة الانسان في الاسلام تجمع ما بين سلوك الفطرة والغريزة والعقل وهامش من حرية الارادة..هي حرية مرتبطة بالعقل والعلم والمعرفة..جزئية غير مطلقة«.

 ليس من مسؤولية البشر الحُكم على أصحاب العقائد المختلفة في الدنيا، فالله هو الحاكم القاضي فحتى الرسول ليس عليهم هو بوكيل، بل مبلغ رسالة الله بالموعظة الحسنة، والله هو الذي يحكم ويعاقب فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، من الطبيعي أن يصطدم هذا الكلام مع مُعطيات التاريخ والواقع، فنجدنا أمام تساؤلات من قبل، حرب الردة، النفي والتعذيب الذي كان يتعرض له العلماء والمفكرون المُخالفون لمنظومة الفكر الحاكم في مرحلة العصور الإسلاميّة السالفة، فهل عانى كل هؤلاء وأمثالهم قصورا في فهم المُثل الدينيّة ؟؟

 الله كرّم الانسان ولكن الانسان يصر على مسخ ذاته، استخلافه في الأرض، تعليم آدم أسماء الملائكة، الاستشهاد بالآيات القرآنية كثيف ويحمل دلالات واضحة ومدركة إدراكا عميقا ومُتنبّها لكل المعاني التي يريد المؤلف الإضاءة عليها، بما تحمله من قيَم ومضامين تدخل في باب التوحيد والألوهيّة ودعوات للتسليم والايمان.

 الدعوة إلى الحوار هي عماد أساسي في النص القرآني، والله جل جلاله يتّخذ من ذاته مثلا، بدءا من حواره مع إبليس والتفاوض معه وإرجاء حسابه إلى يوم البعث، حواراته مع الأنبياء حتى أمر التبليغ دعا الله إلى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة الحسنة.

منظومة الحرب والسلام تحريم العدوان، رد الاعتداء، فعاقبوا بمثل ما عوقبتم« أن لايزيد العقاب عن حجم الاعتداء، الالتزام بشروط الهدنة، السلوك الأخلاقي مع العدو أو غير العدو اثناء الحرب.

وقد أبدى المؤلف حماسة اتجاه ربط القيم الدينيّة في الاسلام بمفهوم العلمانيّة من خلال منظومة العلم والمعرفة، فأشار أنّ من أسماء الله الحسنى »العالم العليم« العلم كمرجع ومستند، الله يفيض بعلمه على من يشاء من مخلوقاته، هذه الحماسة قد جعلته في عدّة مواقف يدخل في حالة وجدانيّة دينيّة، تتكاثف في جمله الإضافات المهللة للذات الإلهيّة.

 التزم المؤلّف في الجزء المخصص للحديث عن القيم الدينيّة في الاسلام، فلجأ إلى تفسير القرآن على ضوء منهج علمي مختلف، فالإستشهاد بالآيات القرآنيّة يرتبط بالهدف المُخصص له في الكتاب، التدرج في طرح الأفكار ودفعها، إعادة أفهمة المفاهيم، ربط العلمانيّة بالعلم، التساؤل حول أنّ الاسلام هو مؤسس العلمانيّة التي لطالما ارتبطت في المفهوم العام بالمعاداة للدين، وأسهب في الحديث عنها باعتبارها ثورة ضد الجهل وإعطاء قيمة للعلم والمعرفة كما فعل الاسلام، فقد جعل الله العلم والمعرفة شرطا أساسيا لجدارة حكم الانسان على الأرض وبالتالي جدارة حكم أي سلطة مؤسساتية أو اجتماعية.

  .   الديمقراطية التعبيرية بين المفهومين القومي والإسلامي