الشاعر نزار النداوي: لا أؤمن بصراع شكلَيْ الشعر بل بتكاملهما

 نسرين – الرجب لبنان

ديوان » ممالك مسروقة الوقت«، حيثُ الشعر يُترجم أقاويله.

 ديوان ممالك مسروقة الوقت للشاعر نزار النداوي، يقع في 133 صفحة، ويضم 25 قصيدة، تتنوع بين الطول والقصر، هذه الممالك قصائد يُسطّر الشاعر فيها بوحه، والوقت فيها ضجيج يُعاود خلط أوراق الماضي بالحاضر ليخلق انصهار اللحظة، هي نزاع طويل الأجل، وعشقٌ كثيف المدد، وجمالُ مُزخرَف، توحي به لوحة الغلاف للفنان التشكيلي »عادل مقاديش«، امرأة سمراء حادّة القسَمات، ملامحها عربيّة أصيلَة، وأصابعها تُحاور كتابا خُطّت على جوانبه أحرف عربيّة.

هذا المقال هو حِوارٌ، ترجم الشعرُ فيه أقوال نزار النداوي، فكان مُحاولة في رصد توجُهّات القصيدة كما جاءت في ديوانه.

المؤلف لا يموت، وهناك ما لم يأتِ به الأوائل

 هل انتهى زمن الدهشة، أم أنّ المعنى حي لا يموت، ما الذي يجعل من الشعر فيضا وابداعا، ما الذي يُثبت أن ما قاله شعراء الزمن القديم هو مختلف عن مقول الشعراء الحداثيين؟؟ أين يكمن عنصر التجديد، أو بمعنى ما، ما الذي يجعل شعرا يشبه زمنه بل ويتفوق على آنيته؟؟ وكيف تسوس المفردات قائلها؟؟

 يقول الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد »هل غادر الشعراء من متردم /أم هل عرفت الديار بعد توهم«، ويقول الشاعر الحداثي محمود درويش: »لكن قيل ما سأقول. يسبقني غد ماض… ربما نسي الأوائل قول شيء ما، أحرك فيه ذاكرة وحسّا«، ويقول نزار النداوي* مُنتقدا التقيُد

غلاف ممالك مسروقة الوقت، صادر عن دار الرافدين لبنان، في طبعته الأولى 2017.
غلاف ممالك مسروقة الوقت، صادر عن دار الرافدين لبنان، في طبعته الأولى 2017.

بالنظريات النقديّة كمُسلّماتٍ بحثيّة، المؤلف لا يموت فهو حي ما حيا نصّه، إنما هو ينسحب لصالح تعدُد القراءات.

 لم يلقَ قول عنترة أي قبول لدى الشاعر، فهُناك دائما ما هو جديد طالما أنّ العصر يتغيَّر، يقول النداوي.

 ويوضّح قوله بأنّ مشكلتنا تكمُن في أنّنا نُسلّم بكُل ما يأتينا جاهزا، فقد اعتدنا الإتّكاء على ما سَبق، لأننا أمّة اعتمدت بعُمق تفكيرها على المرويّات من دون محاكمتها. وفي ذلك، يكفي أن نضع إسما كبيرا أو إسما مقدّسا على كذبة لتصبح سنّة وقانونا. لذا فهو يرى أنّ الموضوع يحتاج شجاعة في الطرح. فإن لم نكن مشاكسين لما نقرأ لا نأتي بجديد، ولكن هذا لا يمنع من أنّ نُقدّم إضافَتنا المُمكِنة.

نبحث في المدينة عمّا يُشبهنا

 تُشكّل المدينة محطات كثيفة التأثير في حيوات ساكنيها والعابرين فيها، والشُعَراء أبلغهُم تعبيرا عن هذه العلاقة، فالمدينة هي العالم الذي تتطلّع إليه عيونهم، لِما تمثله من رمزيّة خاصة تتعلق بمقوّمات بنائها والتاريخ الذي حفَر أحداثه فيها، والمُستوى الثقافي والفكري الذي وصل إليه شعب ما، وعندما لا تنتمي للمدينة بالهوية تنتمي اليها بالقلب والتجرُبة، وهذا ما يُشير إليه الشاعر في أكثر من قصيدة، تبدو فيها بيروت هي الملجأ وهي الحلم من دون أن يغيّب حبه وعشقه لبغداد المدينة المنشأ، فبيروت مدينة عاشقة بامتياز، وهي تحتضن عشّاقها بكل عفويتها، وعشق الشاعر لبيروت يعادل ما حُرمَ منه في بغداد: »أموت ببغداد شوقا ولكن/ أبيت مقامي لديها ذليلا/ وبيروت عشقي وعشقي بها/ هداني إلى الثائرين السبيلا«.

 يَنتمي الشاعر في جذوره للعراق لكنّه ينتمي لبيروت بقلبه، لذا تحضر بيروت في أكثر من قصيدة من ديوانه »ممالك مسروقة الوقت« فهي كتاب من العشق يقرأ فيه انتخاء الكوانين بالسنديان وهي نهر من الدهشة اشتعلت ذات شطح، كما قوله في قصيدته سيدة البحر، وفي مقطع من قصيدة »الإعتراف للمرأة الرابعة« يقول: »ثم مري على وحشتي/ مثلما صوت فيروز عند الصباح/ وبيروت تفتح أزرارها لنهار جديد/ وحلم جديد..«، فهي بما تمثله من انفتاح تعني الكثير للشعراء، والمثقفين، فعشق الشاعر لبيروت هو عشق لروحها ولعفويتها، إضافة إلى دورها في الكتاب وطباعته وحرية الكلمة والصحافة.

 الترابُط بين المرأة والمدينة من الصعب تفكيكه بسهولة، فغالبا ما تشبه النساء مدنهن، »كذلك تكون الجميلة أنثى/ ومن أجل ذلك/ تحسب أن النساء ببيروت/ أجمل كل النساء«، فنحن نبحث في المكان عمّا يشبهنا، وعندما لا نجده نغادر، »ولا شيء يشبه سيدتي/ ثم لا شيء يشبه بيروت/ تجمعني أنجما ثم تنثرني في السماء«.

 ما يشبه الشاعر في بيروت كان تمرّدها على التقليدي، في كل شيء وعفويّتها كذلك، فعندما نمر بالمكان نترك منا شيئا عليه، وعندما نغادره نشعر بالحنين إليه، فنحن نحِنُّ ضمنا إلى ذلك الشيء الّذي تركناه منّاهناك. كشاعر عراقي قد تختلف بيروت بالنسبة له عمّا هي بالنسبة للكثير من اللبنانيين، لأنهم ألفوا كيف هي ولم تعد تُشكل بالنسبة لهم اكتشافا، أمّا هو فإنّهُ يزورها بعيون المُستكشف الغريب، الذي يُحاول رسم صورة المدينة وتشكيلاتها في ذهنه، وعلى ضوء ما تشكّل يبني علائقه معها.

اللغة فاضِحة

 يحرص الشاعر على فصاحة لُغته، ويَنتقي كلماته بعناية، فيجد القارئ نفسه أمام نص غني بدلالاته، سليم من آفات اللفظ، فالحروف متآلفة واستعمالها ليس غريبا حد النفور، ولفظها ليّن على قِلّة استعماله، فنقع على جمل ومفردات كـ)المحطات غرثى، إذا أمحل الشوط يوما، فأعذاقه التمر، وشلٌ( وغيرها الكثير.

 فـاللغة، برأيه، فاضِحة كونَها تفضح حقيقة الخلفيّة المعرفيّة والثقافية للّذي يكتُب بها، يقول في قصيدة ممالك مسروقة: » الوقت مخثنة الشعر/ من أين للغة العربية هذا العقوق/ وهم يزعمون سدانتها/ كيف يا مضحِكات/ ويا مبكيات/ طحالب صفر النصوص/ تمارس نزوتها العبثيّة في الشعر/ يا راعشين على ربع موهبة محض زيف/ فلن يصنع لزيف مجدا/ ولن يصنع الربع من طحلب الشعر آيا..«.

 فهو ينظر إلى ظاهرة الشُعراء الطارئين باعتبارها قلقا للساحة الشعريّة، فهي حسب تعبيره شكّلت ظاهرة تُغذّيها منافع آنيَة بكُل أسف. هناك من استخدم هؤلاء، واستخدموه بدورهم. واللغة هي العامل الأساس لكل شاعر، فهناك من يمتلك صورا فنيّة جميلة، لكنه يعجز عن تسطيرها ورسمها داخل القصيدة، لذلك اللغة أولا، وتأتي الصورة الفنيّة متلازمة مع اللغة، بحيث يصعب الفصل بينهما.

 فعندما يكون الشاعر متمكّنا من لغته، يسمح له رصيده اللغوي بالحركة داخل النص بكل حريّة.

 لا يكتب الشاعر نزار النداوي بلُغةٍ سهلة، لكنّها ليست مستعصيّة على الفهم، فالشّاعر يُمارس عمليتين متزامنتين داخل النص، النهوض باللغة ورسم الصورة الفنيّة الرمزيّة المشهديّة، ولمن لا يدرك مكامن الرمز في لغته، بإمكانه أن يستمتع بالتخييل داخل مشهديّة الصورة.

الشعر يُعيد تشكيل الفكر

 لا تقتصر مُهمّة الشعر على الإمتاع، بل هو مُحاولة لإعادة بناء وتأثيث البيئة من حوله، بما من شأنه طرح التساؤلات، وإعادة تأسيس النظرة للحياة والواقع المُعاش.

فنراه يقول في قصيدة بعنوان كذب المؤرخون وإن صدقوا: »إني الآن أبايع فيفي/ حلا عقدا/ حاكمة لشعوب لم تعرف للوحدة شكلا/ منذ الفتنة أشعلت الحرب بصفين/ فإن الوحدة حتى حول الخصرالواحد دين..«، وفي مقطع آخر منها يقول: » إله السماوات!!/ صاحت عصافير ربي:/ أأنت قلت للرافعين قرائينهم فوق أرماحهم في العراق/ تعالوا إلى جنّة عرضها/ أن تطيح السماوات بالأرض؟«. تُظهر هذه الاستشهادات الشعريّة أنّ الشاعر يُمارس حِرفته في إحداث التمازُج بين التاريخ والحاضر تحت مُسمى العِبرة، فتشابُه الأحداث ليس دليلا كافيا على عظمتها، فلُكل زمن موقف من الأحداث التي تجري فيه، ولكُل شاعر رؤية تكفيه للمُشاهدة وإحداث التقارُب مع الظواهر المُتكرِرة، وهنا تتبدى لنا عظمة الشاعر في البحث عن العِبرة، فكأننا أمام واقع التاريخ بأشخاصه وأحداثه يُكرّر نفسه، فهو يقرأ التاريخ ولكن لا يُحلله لا يُقدم لنا

الشاعر نزار النداوي
الشاعر نزار النداوي

المنطق ولا القواعد الرياضيّة، بل يُقدم لنا وجه الشبه.

 وأحيانا كثيرة يُفكك كل رابط يُحيل على ما هو خارج النص، فيؤكد أنّ الأسطورة يجب أن تكون جزء من النسيج الداخلي وليس الخارجي، يتضّح ذلك في نص يقول فيه: » يا وطني/ يا وجها أحضَنه في الليل يفيض حياة/ حتى الفجر/ وحين يجيء الفجر يموت/ من عشرين/ أنقل جثمانك/ أحمله وأدور به في البلدان بلا تابوت«، استخدم هنا أسطورة جلجامش وهو يحمل جثة أنكيدو الموعودة بالخلود، لكنه مات بكل بساطة، فبقيَ يحمِلها ويدور بها وهي تتفسخ بين يديه جثة، هكذا يُشبه الشاعر حاله ووطنه، فتتبدى الأسطورة كـجزء من النسيج الداخلي.

 فهو يعطي المشهد دورا آخر ويرسم له مسارا آخر، في صورة مشهديّة يُسقط عليها أبطاله، ويسقط الشخوص، ويربط فيه الحاضر بالموروث الديني، أيضا:، كما في قوله: » فيا موسى لا تسلك ماء البحر، ففرعون يحض غلاة القوم على تفخيخ الموج«، فنجده يشحن التراث بـالحديث عبر التفخيخ، دون أن تبدو المفردة نافرة في سياقها، فحتّى لو أنّ أحدا لا يعرف تاريخ المفخخات والتقدم العلمي لقال هي كذلك.

 لايدعك الشاعر تقرأ بسلام فمهمته إحداث اليقظة، »إضرب وتجرأ / يا المختزل الآثام المثلى /على سفر يفتض ذكورتك البلهاء/ تجرأ أن تلج الأبواب/ وأن تتسلق كالأطفال على الأشجار.« وهو لا يحشُرك باللحظة الراهنة بل يدفعك لتتقيأ وجع الحاضر أمام واجهة الماضي المشين»هذا وسقط من الطلقاء/ تشهّى فضاجع لحيته بعد نافلة الليل/ فانتفخت لحية الشيخ حبلى/ فباضت على سنة الله والله فجر / سيارتين مفخختين/ ومات محمد الساعدي« وهو طفل عراقي استُشهد في تفجير ارهابي.

الموسيقى وإيقاع الشعر

 يعد الشاعر نفسه من المؤمنين بالأوزان الشعريّة على أنّها جزء أساسي في القصيدة، وعليه يتأسّس إيقاع القصيدة ويعتقِد بأنّ ما يُسمى بـقصيدة النثر قد أسهم في تحسين أداء التفعيلة، بما وضعه أمامها من التحدي، فالشاعر لا يؤمن بالصراع بين الشكلين، بل يؤمن بالتكامل في دائرة الأدب.

 الشعريّة لديه لا تُلزِمُ النص بأن يكون ششعرا، فهي موجودة في نصوص الرهبان القديمة، وفي رسائل أبي العلاء المعري، وخطابات قس بن ساعدة الأيادي. ولم يقال عنها شعرا.

 تتحقّق موسيقى الشعر حتى في المسافة الفاصلة أو السكوت الذي يحصل في العزف بين نوتة موسيقيّة وأخرى، فلا نستطيع التخلي عنها، وعن الفاصل الزمني لأنه ريتم وإيقاع، ما يعني أنه وزن، ففي قصيدة »جبة واحدة لا تكفي« يُحدث الصمت والفواصل الساكنَة بين الأسطر الشعريّة حالة من الوجد الصوفي، ورهبة ترسم إيقاعها المفردات التي تضج بالدلالات: »قلبيْ/ والحانةُ/ والقدحُ/ والليلُ/ وطبعٌ بي سرحُ/ وأنا / وأنَاك/ وتسرقني يا طبع اللوز/ وأفتضحُ….«

 يتمظهر إيقاع القصيدة عبر الإلتزام بالقافية كلازمة ضرورية في تحقيق إيقاعيّة النص الشعري متمثلة في تكرارأصوات بعينها تتلاءم والحالة النفسية للشاعر، فهي تعطي المعنى وتزيده إلفة ما دامت منسجمة مع الايقاع العام للقصيدة، وغياب النظام الموحّد يعني أنّها غير خاضعة لنظام ثابت، فالشاعر ينوّع توزيع قوافيه غير مُرتهن لنظام مُحدد، باعتبارها وقفا قد يطول ليُخبر وقد يقصر ليحسُم، فهي تخلق تعالقا بين الأسطر الشعريّة كما نجده في قصيدة أيتخذ النهر مجرى بديلا، يقول في المقطع الأوّل: »تجيئين لي في مساء الرحيل/ ودفق المنى كلهاث الخيول/ تعّق فوق المجال البعيد/ ولم يسمع الشوط إلا الصهيل«، تحقّقت القافيَة بين السطر الأول والأخير فيه بين كلمتيْ )الرحيل، الصهيل(، وفي ممالك مسروقة الوقت نجد أنّ القافية تظهر في أواخر مقاطع مُختلفة الطول والقصر ولكن الشاعر حريص على إيرادها )نايا، الحكايا، عراي، بغايا، النوايا، خطايا، السجايا، بقايا، الضحايا، صبايا، آيا(، تنتهي الدفقة الشعورية عنده في تحقيق قافية »فعْلن« لتعلن عن نفسها في مقطع شعري آخر، فتسكّن نفس الشعر ولا يسْكن نفس الشاعر في امتداد الياء.

 يكتب الشاعر عن المرأة عن الحُب والمنفى، » فكم من نزوة تتشبه بالحب فينا/ كما تتشبه أوطاننا بالمناف؟ « عن الوطن المهجور، وعن الخَيبة فنجده: »عندما يستفزني عقم العواصم/ صبر نبي« فهو رجل يكتب بقلبه وليس بقلمه، فـالشعر من دون وجدان مغالات لغويّة، أشبه بالمعادلات العلميّة. فيختتم ديوانه بقصيدة »مسافات«، في مقطع آخير يقول فيه: « المسافة بيني وبينك وعد/ وطفل صغير ومهد/ المسافة بئر/ وصوم لدى شفة البئر/ أيّامه لا تُعد/ حبيبة قلبي/ ختاما/ إلى أن يشف قميص الحكايا/ سيصطف فوق المسافات/ كل المسافات/ وجد«.