الاعتذار

 سهير آل ابراهيم

الاعتذار تعبير انساني نبيل، يعيد صفاء العلاقات بين الأفراد ان تكدرت بالإساءة. عبارات بسيطة ترمم جسور الوصل بين الناس، والتي قد تتزعزع إثر قول او فعل لا يلقى قبولا لدى بعض الاطراف. الاعتذار يخفف او ربما يطفيء غضب او حزن من تعرض للاساءة، كما انه يريح ضمير المسيء، فهو مريح للطرفين، لان الانسان بطبيعته يتوق الى العدل. ورغم ذلك نلاحظ ان بعض الناس يترفعون عن تقديم الاعتذار، وأغلب الظن ان سبب ذلك هو صعوبة الاعتراف بالخطأ بالنسبة لهم، وكم نصادف في هذه الحياة من هم على يقين بأنهم منزهون عن ارتكاب الأخطاء!

اعتقد ان اعتراف الانسان بالخطأ مؤشر على نضج فكره ونزاهته، وعلى مقدرته على تحمل مسؤولية أقواله وأفعاله. نصادف أحيانا أشخاصاً يتمادون في الدفاع عن مواقفهم تجنبا للاعتراف بالخطأ وتقديم الاعتذار، فيحاولون نتيجة ذلك ليَّ الحقائق وإلقاء اللوم على الطرف الآخر الذي يستحق منهم الاعتذار، مما يُمعن في الإساءة، ويزيد حجم الخلاف الذي كان بالإمكان تخفيفه او إنهائه بعبارة اعتذار بسيطة. قد تكون كلمات الأسف بسيطة، إلا انها في الغالب تترك اثرا طيبا في نفس الشخص الذي تقال له، اذا ما أحس بجديتها وصدق نوايا ومشاعر قائلها.

سلطت الدكتورة هارييت ليرنر الضوء على مفهوم الاعتذار، ومشكلة البعض في التعامل معه بشكل صحيح، في كتابها الممتع والمفيد )لماذا لا تعتذر؟(. الدكتورة هارييت مختصة في المعالجة النفسية والتحليل النفسي، خصوصا في ما يتعلق بالعلاقات الأسرية والصحة النفسية للمرأة. لها أكثر من عشرة كتب، تُرجمت الى اكثر من ثلاثين لغة، منها كتابين للأطفال. كتابها )لماذا لا تعتذر؟( هو حصيلة وخلاصة عقدين من الزمان من رصد وتحليل سلوك مراجعي عيادتها النفسية من رجال ونساء، في ما يتعلق بالاعتذار وعدم المقدرة على تقديمه او عدم الرغبة في ذلك.

تقول الدكتورة ليرنر ان كلمات وعبارات الأسف تُستخدم بطرق مختلفة؛ فهناك الأسف الذي يسهل على الانسان التعبير عنه، والذي لا يأتي للإعتذار عن خطأ ما، وإنما الهدف منه هو ابداء التعاطف مع المقابل؛ مثال ذلك عندما نعبر عن أسفنا لصديق أو قريب بسبب مروره بظروف صعبة. وكذلك مثلا الاعتذار عن التأخير وعدم الوصول في الوقت المحدد لموعد ما، والذي كان نتيجة ظروف خارجة عن إرادة الشخص؛ كازدحام الطريق اكثر من المعتاد او ربما بسبب عطل وسيلة المواصلات التي استخدمها ذلك الشخص. الأسف او الاعتذار هنا يعبر عن اهتمام الشخص بالآخرين واحترامه لمشاعرهم. ولكن الاعتذار الاصعب هو ذلك الذي يجب على الانسان تقديمه للتعبير عن أسفه على قول او فعل أساء به الى مشاعر الآخر، بقصد او بدون قصد، والذي يعني بمضمونه اعتراف المعتذر بخطئه.

تبين الدكتورة ليرنر ان ليس كل إنسان قادرا على الاعتراف بالخطأ، ليس كل إنسان قادرا على الاعتذار، بل في الواقع هناك أشخاص لا يعتذرون أبدا. هناك مَن يقل احتمال تقديمهم الاعتذار كلما كبرت إساءتهم! وصفت الكاتبةُ الانسانَ القادر على الاعتراف بالخطأ بأنه يستند على قاعدة متينة من الثقة بالنفس والإحساس بقيمة الذات؛ تلك القاعدة تمكنه من رؤية أخطائه بوضوح، وتساعده على الاعتراف بها، لانه يعتبر تلك الأخطاء جزءاً منه كإنسان يصيب احيانا ويخطيء احيانا اخرى. ذلك إنسان قادر على الاعتذار، على العكس من الآخر الذي يقف على قاعدة ركيكة متهالكة من ضعف الثقة بالنفس وضآلة الإحساس بقيمة الذات، شخص كهذا الأخير يتجنب الاعتراف بالخطأ، لانه لا يريد ان يرى الايذاء الذي سببه للآخرين، حيث ان تلك الرؤية سوف تثير في داخله مشاعر الخجل وتزيد من مشاعره السلبية حول قيمته الذاتية!

يعمد الشخص غير القادر على الاعتذار الى الدفاع عن سلوكه الذي يجب عليه الاعتذار عنه، ويحاول في الغالب ان يعكس الصورة عن طريق إلقاء اللوم على الطرف الآخر، والذي هو في الواقع من تعرض للإساءة. وتصور هارييت ذلك الشخص كمن يسير على حبل مشدود فوق واد عميق؛ الحبل يمثل دفاعه عن إساءته للآخر، والوادي العميق هو ضعف الثقة بالنفس والإحساس بقيمة الذات!

المهم في الاعتذار ان يكون صادقاً، واعتقد انه لا يكون كذلك الا اذا كان نابعاً من اقتناع الشخص به اقتناعا تاما يستند على رؤيته الواضحة لاخطائه، واعترافه بحق الطرف الآخر في نيل اعتذار عن ما واجهه أو ناله من إساءة. الإعتذار الذي يخلو من الصدق يكون هزيلا باهتا، وقد يضاعف من حجم الاساءة الأصلية بدلا من تخفيفها أو إلغائها.

تلقيت اتصالا هاتفيا، قبل سنوات عديدة، من سيدة ادعت انها تريد )إبراء ذمتها(؛ حيث كانت حينذاك على وشك الذهاب لأداء مناسك الحج، وذلك أمر متعارف عليه بين المسلمين، حيث يطلب الشخص الموشك على الذهاب لاداء فريضة الحج مسامحة الاخرين له عن أي اخطاء قد يكون ارتكبها بحقهم، وذلك أمر طيب الأثر في نفوس جميع الأطراف، وبالتحديد الشخص الذي يود ان يعود بعد أداء الفريضة نقيا كيوم ولدته أمه. لا يزال صدى صوت تلك السيدة يتردد في أذني احيانا، ولا تزال نبرة السخرية التي جاءت بها كلماتها حينذاك تثير استغرابي، فكأنها كانت تقول ان ما تقوم به هو مجرد اجراء تقليدي، وانها مرتاحة الضمير ليقينها أنها لم تُسىء لي ولا لغيري، لانها ببساطة لا تخطىء! ليتها اختصرت جهدها ووقتها، ووقتي كذلك، ولم تقم بذلك الاتصال العقيم!

يتجنب بعض الناس تقديم الاعتذار لأنهم يَرَوْن في تلك المبادرة ضعفاً، او يعتقدون انه يقلل من شأنهم في نظر الآخرين، وتلك نظرة ضيقة الأفق ورأي يستهين بذلك السلوك الإنساني المتحضر الرفيع، والذي يعبر عن احترام الشخص لنفسه وللآخرين.

احيانا تفشل كلمات وعبارات الاعتذار في تحقيق الهدف المرجو من تقديمها، فقد يكون الشخص صادقا في اعتذاره، ولكنه لا يقوم بذلك بشكل صحيح. من الأخطاء الشائعة بهذا الصدد ان يُتبع الاعتذار بكلمة )و لكن(، والتي تأتي بعدها مبررات للاساءة، فالشخص في هذه الحالة يعبر عن أسفه ثم يلغي ذلك الأسف بالتبرير! لماذا يتأسف اذا كان يملك المبرر لقيامه بذلك الامر الذي يقدم الاعتذار عنه؟!

يصف البعض الاعتذار بأنه فن يتوجب على الجميع إتقانه، لانه في احيان كثيرة يختصر مشاكل كبيرة، يختزلها او ربما يمنع وقوعها، واعتقد انه فعلا كذلك. الاعتذار ثقافة من المهم غرسها في عقول الاطفال منذ سن مبكّر؛ في البيت من خلال تعامل الأبوين وأفراد الاسرة مع الطفل، وكذلك في المدرسة التي يفترض انها محراب تربية وتعليم.

و للحديث بقية…