حافظ محفوظ: الرحلة الأخيرة

نعيم تلحوق

طائر الغربة هو، الشاعر حافظ محفوظ أودعنا سلامه بصمت العاشق، ومضى دون خوف أو وجل… كتب قصيدته الأخيرة على لوح الوصايا في »حصاده العدد 77« على الصفحة الأخيرة يرثي حاله ويودعنا، وكأنه عالمٌ بحاله، أعلمنا أنه مهاجر إلى عالم الخيال هذه المرة… متمنياً أن يدفن في أرض بلاده التي تغرَّب عنها قسراً بفعل الحرب اللبنانية…

ابن بلدة مرجعيون الجنوبية، ابن عم الكاتب المسرحي الشاعر عصام محفوظ، سكن أثيره بشغف المتألم، لم يدنُ من الموت إلاَّ بشهية الموت نفسه، فجاء الموت لديه سمعةً آسرة لقضية الوجود واستكناه المعنى، فضرب المرض بكبريائه والألم بعنفوانه وسار طريق الجلجلة مع فصح نيسان، وداوى ألمه بالسمعة النظيفة والرجاء المنتظَر، وصرخ لنسيبه عصام: تعال نَحُوكُ وطناً يقدِّس آلامنا…

حين وردني الخبر، تعثَّرتُ بشفتيَّ، لم يعد الكلام يأتي سهلاً، ولا قدرة النطق احتوت ما انتظرته الأيام كي تحكي لي عن لغة الليالي الممعنة في قتلنا والإعلان عن رحيل أحبائنا وأصدقائنا، كلما غدت الساعة مؤاتية…

أحببت هذا الرجل، لنظافة كفِّه، وحسن بيانه، ودفء لسانه، كان الصامت ذ الشاهد على انهيار أمة شاءها حرةً تكبر أحلامنا فيها، ونكبر معها، نشيد عز وإلفة ذاكرة، فكان يحرص على أن تبقى القضية المركزية فلسطين وجهة الصراع، وحين يضيِّع أحداً بوصلته كان حافظ محفوظ يردَّه إلى إيمانه بالحب والإنسانية والمغفرة…

شاعرُ أرض هو، وقصَّاص أمل بغدٍ أفضل لقضية ظنَّها أعداؤها أنها انقرضت إلى الأبد، لكنّه راح يستشعر الخطر، ويقصُّ علينا خيبة العمر…

حرٌ هو، لا يعود من قهر الغربة إلا واسع اليقين بأن يحفظ مكانة روحه، فيصدح مع العندليب كل صباح بسفر أبعد من المكان، يقيس حركته وفق خطاه، ويطلق ظلّه إلى فيء الزمان، ودون قيد يلزمه، يتنفَّس عشقه، ويصارع جبروت الألم بقدرته على تحمُّل مسار اللحظة التي ما تني تخبر عن شمس ستشرق في قلوب الناس لتجعلهم يتنفسون بكرامة…

أليسَ هذا ما اختبره حافظ محفوظ، الصحافي والشاعر، في بلورة صياغة جديدة لتحريك الألم وتقديس الحرية ؟؟؟

حافظ محفوظ، ترحل ولا تغيب، فالأحرار تذهب أجسادهم وهم لا يذهبون…