صبحر عربي للملاحة الفرنسية

جاد الحاج

 »البحر مصدراً للابداع العربي في فرنسا القرن السابع عشر«  اطروحة  ضخمة للدكتورةعليا بكار، صدر من فصولها   كتاب يتناول المراجع والمصادر التاريخية التي اعتمدتها في بحث استغرق عشر سنوات متواصلة.  والمؤلفة، المحاضرة، احدى كثيرات وكثيرين حول العالم جعلوا القرن السابع عشر مضمار بحث وتأليف حتى أصبحوا ظاهرة تعرف في الفرنسية باسم »جماعة القرن السابع عشر«.

 في سياق بحثها لتأليف الأطروحة اكتشفت عليا بكار ان اللغة العربية مصدر اساس في تكوين القاموس البحري الفرنسي بين عصر النهضة والعصر الكلاسيكي.  كما كتبت فصولاً تربط بين المتخيل الأدبي في الشعر الفرنسي وبين النزاعات المغاربية ذ الأوروبية، ما ادى الى احتلال المشهد العربي رقعة لا يستهان بها من حصيلة الابداع المكتوب بالفرنسية في القرنين الثامن عشر والسابع عشر. »في البداية« تقول عليا بكار: »كان لا بد من القاء نظرة شاملة على الواقع البحري في زمن ريشيليو وكو لمبير.  لأنهما اوليا هذا الشأن اهمية مميزة، خصوصاً على الصعيد التجاري.  ولعل النشاط الذي باشره ريشيليو اثمر واستمر متحولاً الى حركة ملاحية ضخمة، ما عرفت فرنسا   مثلها من قبل، عكس جاراتها بريطانيا   واسبانيا والبرتغال وهولندا.  فالفرنسيون عرفوا البحر متأخرين، والبحر في ادبهم متخيل اكثر منه تجربة معيشة«.

وتورد عليا بكار امثلة على البحر في كتابة شعراء وناثرين فرنسيين عاشوا وماتوا من دون ان يروا موجة.  »موليير!« تقول ضاحكة »لم ينتقل يوماً خارج فرنسا، مع ذلك يكتب في اسهاب وصفي واثق عن البحر في مسرحياته المعروفة: »البخيل« و«دون جوان« وغيرهما.  لماذا؟ لأن البحر، خصوصاً المتوسط، مصدر وحي لا يقاوم، انه المراكب التي تواجه العواصف والقراصنة والوحوش المريعة والاعماق السحيقة، لكنه ايضاً صورة الحرية في مطلقها وارتباطها بالأبدية والطوباوية.  انه الجنون والطبيعة الانثوية القلقة المغلقة.  مهد الميثولوجيا الاغريقية واندهاشات الرومان.  فكيف لكاتب، اي كاتب، يحمل هذا الميراث في اعطافه ان يغفل البحر، او ينسى صورة عوليس موثوقاً حول صاري مركبه يكافح الامواج والسحر والرصد«.

وتعود عليا بكار الى ما قبل التوراة في استقصائها مصادر الثقافة الغربية، خصوصاً الفرنسية: »لأن الماء الذي يفصل الشعوب عامل وصل وتواصل ومدار دائم لتوسيع الآفاق وترسيم خريطة الأرض.  وبالتالي الماء عنصر تحد ووحي وابداع.  في التوراة البحر تعبير عن الإرادة العليا: تارة يترجم غضب الرب وطوراً نعمته.  وفي الثقافة الاغريقية ذ اللاتينية البحر ساحة معركة، حيث تتجلى أقوى المواقف بين الانسان والماوراء، ما جعل البحر معيناً لا ينضب للثقافات اللاحقة«.

وحول علاقة العالم العربي الاسلامي بذلك المعين تقول عليا بكار ان المفردات التقنية المستعملة حتى اليوم في علم الملاحة وادواتها مأخوذة في نسبة كبيرة عن العربية كذلك الرتب والاشارات البحرية )الإسطرلاب ASTROLABE الترجوانTRUCHEMON الماعونةMAHONE القلفاطCALFAT الفلكFALOUKA الخ… ( كلها وعشرات غيرها تلقفها الفرنسيون مع بدء انطلاقتهم في الملاحة التجارية، لكنهم اخذوا ايضاً مفردات مماثلة عن الإيطالية واللغات السكندنافية.

«غير ان الاضافة الابداعية« تقول المؤلفة »تتوزع بين حقلي العلم والأدب.  فالجغرافية البحرية وعلم المناخ لم تكن معروفة لدى الفرنسيين بل كان عليهم ان يترجموا الخوارزمي والادريسي وابن ماجة، كما كان عليهم ان يطالعوا ما كتبه الحسن ابن محمود الوزات الزياتي الذي عرف باسم ليون الافريقي«.

وتشير عليا بكار في احد فصول اطروحتها الى ان البحر لعب دوراً دافعاً في الواقع المسرحي الفرنسي، خصوصاً بين 1640 و1671 حين ظهر ما لا يقل عن 131 عملاً تناولت البحر في صور مختلفة.  وفي النتيجة جرى تطوير الآليات الايهامية )الاكسسوار( واستحداث »بحار« مسرحية تسري فيها السفن ويغرق في عبابها الممثلون، تجاوباً مع ارتفاع امواج الكتابات المسرحية المهتمة بالشأن البحري: الآنسة سكوديري كتبت »المهيد أو الملكة الجارية« وكتب سيرانو دي بيرجيراك »المدعي المخدوع« وتوالت اعمال موليير وهوتروش ومونفلوري وبورسو ومدام لافاييت وج. ب.  كامو… تارة تستوحي الأساطير الاغريقية وطوراً حكايات وروايات البحارة والمغامرين.

وتبدي عليا بكار اعجابها بشخصية ليون الافريقي الذي اعدت عنه مداخلة مستقلة لمؤتمر الدراسات الموريسكية في تونس: »التاريخ اغمط هذا الرجل حقه، فقد كان جغرافياً وسوسيولوجياً واقتصادياً وكاتباً من طراز مميز وآثاره مصدر لا يضاهى في فهم واستيعاب القارة الافريقية بشراً وثقافة لحسن الحظ ان الروائي اللبناني امين معلوف تناول شخصيته في عمله الرائع«.

من جهة أخرى تعمل عليا بكار على بعث التاريخ التونسي القديم.  فالى جانب محاضراتها الأكاديمية حول اليسا )ديدون( واينياس والدور القرطاجي في التاريخ تكتب قصصاً للاحداث محورها شخصيات ذلك العصر ومآثرها.  وتقول: »ان تاريخنا الغابر مغمور كلياً بالنسبة الى الأجيال الطالعة.  وهذا أمر مخجل، لأن كل معرفة تتعلق بماضينا هي حق من حقوق هذا الجيل وكل جيل مقبل.