تركيا تخلت عن سياسة »صفر مشاكل« وقلبت أجنداتها في الشرق الأوسط

أردوغان والعرب: المغامرة المحبطة

محمد قواص *

لم تكن أنقرة تدرك خطورة الألغام التي تنتشر في حقول الشرق الأوسط. سعت تركيا للعب دور جديد يعيد عثمانية قديمة إلى المنطقة. كانت حسابات أردوغان تعول على انتصار جماعات الإسلام السياسي في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا، لكن رياح المنطقة أتت بما لا تشتهي سفن سلطان أنقرة الجديد.

لم يعدْ بالإمكان مواراةُ ذلك البوْن الذي يتّسع بين تركيا-أردوغان وعواصم عربية عديدة. ولم تعدْ البياناتُ الرسمية لجامعة الدول العربية، بصفتها الممثّل القانوني الدولي للنظام السياسي العربي الرسمي، تترددُ في الإفصاح عن اعتراض العرب على سياسات أنقرة حيال أزمات

رجب طيب أردوغان: طموحات السلطنة والسلطان
رجب طيب أردوغان: طموحات السلطنة والسلطان

المنطقة، كما تدخلات تركيا المباشرة وغير المباشرة في شؤون الدول العربية.

ولا يمكن في معرِض تناول محددات العلاقات التركية العربية إسقاط الذاكرة التاريخية من وجدان العالم العربي.

قامت أنظمة ما بعد الاستقلالات العربية على ثوابت سلبية حيال الوجود العثماني في تاريخ المنطقة. تولت الأيديولوجيات القومية، العروبية والسورية وحتى تلك الأممية، التعامل مع تلك المرحلة بخطاب شاجب لممارسات فرضها الباب العالي على كافة دول المنطقة، على نحو يعيدُ للسعوديين والإماراتيين كما السوريين واللبنانيين والمصريين… إلخ، ذكريات سوداء مخصّبة بشخوص الولاة الذين مارسوا التنكيل خدمة لمصالح السلطنة.

وإذا ما راجت القومية العربية مقابل تيارات التتريك التي ظهرت في أواخر الدولة العثمانية، فذلك أن تياراتٍ سياسية وفكرية نفخت في هوية العروبة كمخرج للتخلص من الهوية العثمانية.

لم يكن رواج العروبة إلا صدىً للنفس التركي الذي تصاعد داخل الدولة العثمانية وقوّض »أمميتها« بصفتها امتدادا لدولة الخلافة عند المسلمين، كل المسلمين. بيد أن تلك العروبة أتت أيضا متواكبة مع تصاعد حراك قوميات أخرى، شرق السلطنة وغربها، لم تعد ترى في الباب العالي سقفا تتظلل تحته الجماعات المتعايشة داخل دولة الخلافة.

وفيما غاب المشروع التركي في المنطقة بعد سقوط الدولة العثمانية وقيام دولة أتاتورك الحديثة، فإن تشكّل العالم على أساس الدولة-الأمة أسقط أي طموحات ما بعد عثمانية ممكن أن تنهل حقا سياسيا في العالم العربي. لم يعد النظام السياسي التركي الحديث، منذ بدايات القرن الماضي، كما الأحزاب التركية تنهل أي حجّة من تاريخ العثمانية العربي في مقاربة علاقات تركيا مع المنطقة.

وحتى حين وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، فإن المرجعية الإسلامية للحزب لم تفصح عما يمكن أن يثير شبهة العثمانية أو الحنين إليها. ويسجل لمنظّر الحزب أحمد داوود أوغلو، أنه أثار مسألة علاقة تركيا بالمنطقة العربية بصفتها من قواعد بقاء تركيا وديمومتها، على نحو مختلف عن المنطق الأتاتوركي الذي كان يرى في العلاقة مع الغرب والدفع باتجاه ثقافته وقيّمه ضماناً لأمن تركيا ودوام استقرارها.

بيد أن داوود أوغلو، صاحب نظرية »صفر مشاكل« الشهيرة، كان يرى أن ضرورات »عودة« تركيا إلى أحضان المنطقة تمر من خلال الحوار والاستقرار والتبادل الاقتصادي، ولم يرشح من أدبياته ما يمكن أن يستبطن ما ظهر لاحقا من تلقيح للمنطقة بعقائد عثمانية أخفاها حزب

 الخطر الكردي قلب أجندة أنقرة في سوريا
الخطر الكردي قلب أجندة أنقرة في سوريا

العدالة والتنمية المتبرئ بارتباك من عباءة زعيم الإسلام السياسي التركي نجم الدين أربكان.

لم يتمّ للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ما عوّل عليه طويلاً بعد انفجار »الربيع« العربي من عودة للعثمانية وسلطانها إلى المنطقة. بدا أن عواصم كبرى في هذا العالم كانت شريكة لأردوغان في أحلامه، وأن نظرية تمكين جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي من أجل امتصاص الحركات الجهادية، كانت نظرية تلقى صدىً لدى أروقة السياسة والفكر في واشنطن كما باريس ولندن وبرلين.

بيد أن المنطقة أرادت غير ذلك. سقط نظام الإخوان المسلمين في مصر، ما أدى إلى سقوطه في تونس وتراجعه في ليبيا وارتباكه في اليمن. وأظهرت بلدان المنطقة، شعوبا وأنظمة سياسية، مقاومة شديدة لرياح التأسلم التي حملها نسيم »ربيع« كان يعدُ بالتغيير وفق منهج أوروبا الشرقية وربيعها. بدا أن مجتمعَ تونس، البورقيبي التأسيس، كان أصلبَ في جذوره من ظواهر طارئة. وبدا أن الانتفاضة المجتمعية الحقيقية المصرية، التي أيدها الجيش ودعم مفاعيلها، وربما بإفراط، أعادت تصويب العقارب خارج التوقيت العثماني لسلطان أنقرة الطموح.

مشكلة أردوغان وصحبه أنهم يتعاملون مع العالم أجمع وفق شروط هذا العالم وأمره الواقع، لكنهم يتعاملون مع العالم العربي بصفته حديقة تركية خلفية تجوز عليها قيم وفرمانات ما يرسمه الحزب والزعيم في أنقرة.

تقرر أنقرة معاداة القاهرة غير مكترثة لما لمصر من ثقل في راهن وتاريخ المنطقة، ولما لحوالي 100 مليون مصري من كفاءة لتحديد شكل نظام بلادهم السياسي ومستقبلها في العالم. وتقرر تركيا إلقاء دروس في الديمقراطية وحقوق الإنسان على القاهرة وعواصم عربية أخرى، فيما تنهال تقارير صادرة عن المنظمات الحقوقية الدولية، ناهيك عن مواقف تطلقها عواصم عديدة في هذا العالم، لا سيما منذ أحداث »غيزي بارك« ومحاولة الإنقلاب بعد ذلك، في انتقاد ديمقراطية تركيا واحترامها لحقوق التعبير والإنسان لديها.

بالمقابل ينهل الجدل الخليجي التركي الراهن توتره من مياه آسنة تستند على موقف أنقرة من مسائل متعددة تضخّمت وانفجرت أعراضها في ما أظهرته أنقرة من موقف إزاء مقاطعة مصر والسعودية والبحرين والإمارات لقطر.

وبغض النظر عن النقاش الذي دار ويدور حول حيثيات خلاف الرباعية العربية مع قطر ومنطلقاته، وهي ليست موضوعنا هنا، فإنه كان حرياً بأنقرة، حرصاً منها على موقعها كدولة إقليمية كبرى وتوخيا لعلاقات متوازنة مع كافة دول المنطقة، أن تتخذ موقفا محايداً، كتلك التي اتّخذتها كافة دول العالم التي تعتبر الخلاف بيتيّ خليجيّ وأن من الحكمة صوْن مصالحها مع كافة دول الخلاف.

لكن الأدهى في موقف تركيا أنها أول، وربما آخر، من ابتكر للخلاف مع قطر بعداً عسكرياً لم تلحظه أدبيات المقاطعين وإجراءاتهم، وحتى تهديداتهم.

تولت أنقرة، على نحو سريالي غريب، انتهاز مناسبة انفجار الخلاف لتفعيل اتفاق عسكري تركي قطري يعود إلى عام 2014 يقضي بإنشاء قاعدة الريان العسكرية، فاستعجلت إرسال قوات تركية على نحو لا يمكن فهمه إلا إجراءً عدائيا لا مبرر تركي له.

والأغرب من ذلك أن قاعدة العديد الأميركية في قطر تستضيف قوى عسكرية قادرة على تأمين دفاع دولي عن قطر، وأن إرسال قوات تركية لا يقدم ولا يؤخر شيئا في مشهد خلاف الرباعية مع قطر. وعلى ذلك، فإن دول مجلس التعاون العربي لم تفهم من العسكريتاريا التركية إلا

أردوغان بوتين روحاني: تحالف الضرورة المؤقت جداً
أردوغان بوتين روحاني: تحالف الضرورة المؤقت جداً

سلوكاً يذكّر بعثمانية غابرة لا تريدها كافة دول المنطقة.

تتولى تركيا الدفاع عن مصالحها بماكيافيلية مثالية. فعلاقاتها مع دول المنطقة مبنية على مصالح ومنافع ترمي إلى الذود عن مصالح أنقرة ونظامها السياسي. فرضت المصالح تحالفا بين أردوغان وبشار الأسد وإلغاءً للحدود بين تركيا وسوريا في مرحلة أولى. ونفس المصالح هي ما فرض قطيعة تركيا مع نظام دمشق، ونفس المصالح هي التي قد تقود إلى إعادة تأهيل للعلاقات المتصدعة بين دمشق وأنقرة درءا لخطر الوجود الكردي على الحدود الشمالية السورية المحاذية لتركيا.

والحال أن من حق تركيا أن تدافع عن مصالحها بالبراغماتية التي تريدها وأن تبدّل مواقفها من أجل ذلك بالرشاقة التي تستطيع امتلاكها. لكن بالمقابل من حق عواصم المنطقة أن تدافع عن نفسها وترد أذى التقلبات التركية البهلوانية بانتظار أن يستقر هذا التقلب على استفاقة تقّر بها تركيا بأن العالم العربي غادر عثمانية أردوغان منذ أكثر من قرن، وأن لبلدان المنطقة أنظمة وشعوباً وأسسا وخصوصياتٍ وقواعدَ وجب احترامها ووجب التعامل معها بصفتها أمرا واقعا من حق أهل المنطقة وحدهم مناقشتها وتحديد كيفية قراءتها.

لم يتمّ للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ما عوّل عليه طويلاً بعد انفجار »الربيع« العربي من عودة للعثمانية وسلطانها إلى المنطقة. بدا أن عواصم كبرى في هذا العالم كانت شريكة لأردوغان في أحلامه، وأن نظرية تمكين جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي من أجل امتصاص الحركات الجهادية، كانت نظرية تلقى صدىً لدى أروقة السياسة والفكر في واشنطن كما باريس ولندن وبرلين.

مشكلة أردوغان وصحبه أنهم يتعاملون مع العالم أجمع وفق شروط هذا العالم وأمره الواقع، لكنهم يتعاملون مع العالم العربي بصفته حديقة تركية خلفية تجوز عليها قيم وفرمانات ما يرسمه الحزب والزعيم في أنقرة.

الداعية فتح الله غولن: الخصم الذي يخشاه نظام »العدالة والتنمية«
الداعية فتح الله غولن: الخصم الذي يخشاه نظام »العدالة والتنمية«

تتولى تركيا الدفاع عن مصالحها بماكيافيلية مثالية. فعلاقاتها مع دول المنطقة مبنية على مصالح ومنافع ترمي إلى الزود عن مصالح أنقرة ونظامها السياسي. فرضت المصالح تحالفا بين أردوغان وبشار الأسد وإلغاءً للحدود بين تركيا وسوريا في مرحلة أولى. ونفس المصالح هي ما فرض قطيعة تركيا مع نظام دمشق، ونفس المصالح هي التي قد تقود إلى إعادة تأهيل للعلاقات المتصدعة بين دمشق وأنقرة درءا لخطر الوجود الكردي على الحدود الشمالية السورية المحاذية لتركيا

تركيا تدخل من بوابة الخلاف المصري السوداني

لا ينتهي الخلاف بين الخرطوم والقاهرة إلّا ليبدأ مجدداً، فالتوتر الخفي بينهما يصعد أحياناً إلى العلن، كما وقع مؤخراً عندما استدعى السودان سفيره في مصر لأجل التشاور، ممّا يبين أن الملفات التي تفرّق الطرفين باتت أكثر ثقلاً.

لم تمر زيارة رجب طيب أردوغان الأخيرة للسودان دون إثارة جدل واسع يعود إلى الدور الإقليمي لتركيا والتصادم الحاصل بينها وبين قوى أخرى في الشرق الأوسط، خاصة في ظل الأزمة الخليجية التي انحازت فيها أنقرة للدوحة، وهو الصدام الذي تفاقم مع حصول تركيا على حق إدارة جزيرة سواكن السودانية لفترة غير محددة. تمثل هذه الجزيرة أهمية استراتيجية في البحر الأحمر، فميناؤها هو الأقدم في السودان، وتطوير أنقرة له سيشعل نيران المنافسة مع موانئ أخرى في المنطقة كالموانئ الإماراتية، لا سيما وأن قطر، حليفة أردوغان، اتفقت هي الأخرى مع السودان قبل مدة لأجل إنشاء ميناء في مدينة بورتسودان.

بيدَ أن هذا التقارب الحاصل بين أردوغان وعمر البشير يقلق أكثر نظام عبد الفتاح السيسي الذي يجمعه عداء واضح مع أنقرة بسبب دعمها الكبير للإخوان، وما لحق ذلك من اتهام مصري لتركيا بمحاولة التدخل في شؤونها. فنفوذ تركي قوي في السودان سيضاعف من مخاوف النظام المصري من فتح مساحة لخصومه في جارته الجنوبية، فالمحللون السياسيون يرون أن القاهرة مقتنعة بأن الوجود التركي في السودان سيضر بأمنها الاستراتيجي، سواء كان ذلك في إفريقيا، أو حتى داخل مصر، إذ تتخوف القاهرة من دعم تركي لما تبقى من الإخوان المسلمين داخل ترابها.

أسباب تقارب أنقرة والخرطوم

يرى الخبراء أن السودان يعدّ محطة استراتيجية مهمة لتركيا، فهو من جهة يمثل سوقاً لصادراتها، وأرضاً زراعية تستفيد منها في وارداتها الغذائية، ومن جهة ثانية نقطة ارتكاز لدعم نفوذها الإقليمي، خاصة باعتباره بوابة لدخول مناطق وسط إفريقيا. ويوضح هؤلاء أن تركيا باتت مهتمة في الآونة الأخيرة بإفريقيا ليس لأسباب استراتيجية فقط، بل كذلك رغبة من أردوغان بملاحقة نفوذ فتح الله غولن، وإغلاق المدارس التابعة له.

 أما من الناحية الاقتصادية فيقول الخبراء أن في هذا التقارب بين الخرطوم وأنقرة هناك مبدأ رابح-رابح بين الطرفين، فأنقرة ستستفيد من الثروات الباطنية والزراعية للسودان، فيما تحتاج الخرطوم الإمكانيات المالية التركية لاستغلال هذه الثروات«. ويوّضح أكثر أن تركيا ترى في السودان أرضاً خاماً تحتاج إلى من يطوّرها، ومساحة زراعية ستمكّن من خفض مستوى المعيشة في تركيا، فيما ترغب السودان بالتحرّر من شروط الدول العربية المحيطة بها عبر علاقة مع فاعل سياسي قوي بحجم تركيا.

لم يرق للقاهرة عبور أردوغان إلى السودان
لم يرق للقاهرة عبور أردوغان إلى السودان

مصر بين تركيا والسودان

لكن القاهرة لا تنظر بعين الود لهذه الطموحات السودانية. مصر لا ترغب في أن يتحوّل السودان إلى قوة اقتصادية كبيرة تنافسها بالمنطقة، لسببين، أولهما أن الدعم المالي يأتي من تركيا، والثاني أن الطموح السوداني يأتي في ظل ظروف جد صعبة يجتازها الاقتصاد المصري.

ويقول المتخصصون إن جزيرة سواكن التي ترغب أنقرة بتطويرها قد تساهم في تقارب اقتصادي بين تركيا والسعودية، وهو ما ترفضه مصر التي حاولت بناء حلف قوي مع الرياض، ظهر مؤخراً في الأزمة الخليجية. كما أن تخوّفات مصر تصل حتى إلى الجانب العسكري، إذ ترى في القواعد التركية داخل قطر والصومال، مع إمكانية قبول السودان لقواعد مشابهة مستقبلاً، تحدياً كبيراً.

غير أن مصادر مصرية لا تعتبر أن الوجود التركي في السودان وإفريقيا سيتطوّر لدرجة الحديث عن تهديد لمصر، فالقاهرة تمتلك وفق قولهم الكثير من عناصر القوة في المنطقة، زيادة على أن إفريقيا تبقى ملعباً للكثير من القوى العالمية ولن تخلو الساحة فيها لصالح تركيا، فمصالح قوى استعمارية تاريخية لا تزال حاضرة بقوة، كما توجد بالقارة قوى اقتصادية دخلت مؤخراً كالصين، زيادة على أن قدرات قارة شاسعة فيها 54 دولة قد تكون أكبر من قدرات كل هذه القوى التي ترى في إفريقيا مجرّد ملعب لها«.

وتقول المصادر أن هناك سببين آخرين لعدم وجود تهديد لمصر، الأول هو كثرة التقلبات التي يشهدها النظام السوداني، فقد تقارب نهاية التسعينيات مع إيران، فيما طوّر علاقاته مع السعودية مؤخراً، ولا تستبعد الطويل أن تنقلب الخرطوم على أنقرة لصالح قوى أخرى.

أما الثاني فيخصّ تركيا التي لن تغامر بتحويل السودان إلى منصة عدائية ضد مصر، ولن ترغب بتجاوز التراشق الإعلامي مع مصر إلى حدّ تبني مشروع الإخوان في المنطقة، لأنها تعلم الضريبة السياسية الباهظة الناجمة عن ذلك، خاصة مع الإدانة التي باتت تلحق الإخوان المسلمين في أكثر من بلد، وفق هذه المصادر.

وحتى من الجانب الآخر هناك آراء تقول إنه لا إمكانية لوقوع تصعيد خطير بين أنقرة والقاهرة، فصحيح أن تركيا ترى في نظام السيسي نظاماً خصما، لكنها لا تمانع في إقامة علاقات اقتصاديه معه، وقد قامت مؤخراً بعدة خطوات في هذا الاتجاه كإنشاء مجالس اقتصادية مع أطراف مصرية، لأنها تعلم أن السوق المصري ضخم ومُفيد لصادراتها.

تركيا وقطر: الحساسيات الخليجية

حافظت أنقرة منذ اللحظات الأولى لانفجار الأزمة مع قطر على مقاربتين متوازيتين.

الأولى تجاهر بالوقوف خلف قطر ودعم موقفها سياسيا وإعلاميا وعسكريا. والثانية مراعاة الجانب السعودي وتأكيد التعويل على قدرة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز على اجتراح الحل الأمثل للخروج من الأزمة.

بالمقابل لم تصعّد الرياض لهجتها الدبلوماسية ضد أنقرة، وعمدت إلى التقليل من أهمية الموقف التركي من هذه الأزمة، واعتباره هامشيا مقارنة بمواقف الدول الكبرى وحجيج وزراء خارجيتها باتجاه المنطقة. وبالتالي فإنها )أي الرياض( وقفت في التعامل مع الموقف التركي على مسافة تتيح لأنقرة إعادة التموضع وتصحيح أداء منحاز في أمر هو من خصوصيات البيت الخليجي وحساسياته.

بيد أن أردوغان الذي يود الحفاظ على وسطية واعتدال في مقاربة الشأن الخليجي، يدرك أن تركيا لم تعد مؤهّلة، بعد موقفها الصريح المنحاز إلى جانب قطر، بأن تلعب بمهارة دور الوسيط بالمعنيْين السياسي والحرفي للكلمة.

وبالتالي فإن الرئيس التركي بات يعرف صعوبة إعادة ترميم علاقات بلاده مع المنظومة الخليجية عامة والسعودية بوجه خاص، ذلك أن أردوغان أدرك أن الرياض وحلفاءها في المنطقة باتوا يشكلون تيارا إقليميا له امتداداته الدولية، وأنه من الحكمة عدم خسارة علاقات بلاده ونظامه السياسي للعلاقات الاقتصادية والسياسية والجيواستراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي، وهو الذي يراقب بقلق حساسيات علاقات أنقرة مع موسكو وواشنطن، وتراجعها مع الاتحاد الأوروبي، كما تقلّص نفوذ بلاده داخل التطورات الجيواستراتيجية الحالية والمقبلة في العراق وسوريا.

غير أن حوافز الرئيس التركي تتجاوز في علاقاته الخليجية مسألة النزاع مع قطر. تبدو المسألة القطرية بعيدة عن أن تكون في صدارة الأجندة التركية داخل المشهديْن الإقليمي والدولي، كما داخل محددات المنظومة الأمنية الاستراتيجية لتركيا.

فتنامي المشاعر القومية الكردية في العراق منذ الاستفتاء الذي شهده إقليم كردستان العراق في 25 سبتمبر الماضي، إضافة إلى التحوّلات الدولية المجمعة على حماية القوات الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي المنضوية داخل زقوات سوريا الديمقراطيةس )قسد(، كشف عن تطورات استراتيجية كبيرة كادت تهدد السكينة التي فرضتها اتفاقات سايكس ذ بيكو على الحدود الجنوبية لتركيا.

وواضح من خلال يوميات الصراع في المنطقة أن موقف أنقرة وطهران الرافض، بأي شكل من الأشكال، لإنشاء كيانات كردية سياسية في المنطقة، لم يعد كافيا ولا يرقى إلى مستوى جدية ما يُحاك دون موقف عربي واضح تقوده السعودية.

وواضح أيضا أن استضافة الإعلام السعودي الورقي والتلفزيوني في الآونة الأخيرة لقيادات كردية، لا سيما من سوريا، للإدلاء بوجهات نظر، حركة فهمتها تركيا تماما واعتبرتها، على الرغم من إمكانية أن تندرج ضمن إطار رد الفعل الظرفي المؤقت على موقف أنقرة من قضية قطر، تؤسس لمزاج عربي جديد قد لا يرى في الحراك الكردي ما يستدعي موقفا معاديا بالمستوى الذي تحتاجه تركيا لوقف التطور الكردي الجديد في المنطقة.

لا يبدو أن أردوغان قادر على استدعاء موقف عربي للمسألة الكردية في ظل الأزمة التي تعيشها المنطقة مع قطر. ولئن يتمحور الصراع الحالي حول قطر والدول الأربع المقاطعة، إلا أن العالم العربي برمته متأثر بهذه الأزمة ولا يمكن أن يدلي بدلو سليم وصحيح فيه كثير من الإجماع حول مسائل تتعلق بموقف المنطقة برمتها من قضايا الأمن الاستراتيجي العام، دون حلّ المسألة القطرية، والتوصّل إلى صيغة تزيل التوتر العام داخل المنظومة السياسية العربية.

قد يجوز القول إنه بات من مصلحة أردوغان ليس الوقوف مع قطر والتحيز لموقفها، بل استخدام نفوذ تركيا هذه المرة لدى الجانب القطري للخروج بتسوية تزيل كثيرا من عوائق التسوية، بما في ذلك حل مسألة العلاقة مع الإسلام السياسي ومصير شخصيات ترد أسماؤها في مداولات ما هو مطلوب من قطر.

* صحافي وكاتب سياسي لبناني