دراسات المستقبلات : جهد علمي هادف

أ. د. مازن الرمضاني*

تُعبر دراسات المستقبلات عن جهد علمي يسعى الى تحقيق غاية مباشرة محددة تكمن في استشراف مشاهد مستقبلات المواضيع التي تتناولها. وانطلاقامن ان مخرجات الغاية المباشرة لهذه الدراسات تفضي بالضرورة الى تحقيق غايات اخرى مهمة، ولكن غير مباشرة، سنذهب في ادناه الى وصف الغاية المباشرة لهذه الدراسات وغاياتها غيرالمباشرة.

أولا، الغاية المباشرة لدراسات المستقبلات

لقد افضى تطور هذه الدراسات عبر الزمان الى تطور مماثل ومهم في نوعية غايتها المباشرة. ففي البدء ذهب مستقبليون الى الآخذ بفكرة ان المستقبل يُعد امتدادا أليالمعطيات زمان الماضي. وجراء ذلك تم توظيف مقاربة التنبوء لإستكشاف صورة المستقبل التي تفضي إليها هذه المعطيات. وقد عُد هذا الإستكشاف في وقته بمثابة الغاية النهائية لكل دراسة مستقبلية. ومن هنا جاء استخدام كلمة المستقبل بدالة المفرد للتعبيرعن هذه الغاية.

ان شبه التحول اللاحق في روية العديد من المستقبليين، من واحدة تميزت بانغلاقها وحتميتها الى اخرى اقترنت بانفتاحها وتعدد احتمالاتها المشروطة، دفع الى الآخذ بمقاربة أخرى ومختلفة رمت الى استشراف المشاهد البديلة للمستقبل. ومن هنا يحرص كثيرمن المستقبليين على استخدام كلمة المستقبل بدالة الجمع، اي مستقبلات، للدلالة على غايات دراساتهم.

فمثلا، يجعل المستقبلي الامريكي، ويندل بل، من :«… اكتشاف او ابتكار وفحص وتقيم المستقبلات الممكنة، والمحتملة، والمرغوب فيها. « 283 الغاية الاساس التي تنصرف اليها دراسات المستقبلات. وتذهب كلية الإنسانيات في جامعة كويلا الفنلندية الى الشىء ذاته تقريبا. فهي تؤكد ا ن هذه الغاية تنحصرفي :« اكتشاف وتقيم وإقتراح المستقبلات الممكنة والمحتملة… سبيلا لترشيد عملية إتخاذ القرار. «

اما عربيا يتبنى ابراهيم العيسوي، مثلا روية لا يختلف مضمونها عن الروى اعلاه. اذ يقول : »إن غاية الدراسة المستقبلية هي توفير اطار زمني طويل المدى لما نتخذه من قرارات اليوم ومن ثم العمل، لا على هدى الماضي… ولا بأسلوب اطفاء الحرائق بعد ما تقع، بل العمل وفق نظرة طويلة المدى وبأفق زماني طويل نسبيا… «

وتتماهى دراسة: مستقبل الامة العربية :التحديات والخيارات مع الاتجاه العالمي الذي يدرك المستقبل كمشاهد بديلة يستشرفها ولكن لا يتنبأ بها. فهذه الدراسة تجعل من »… تحديد الاختيارات والمسارات المستقبلية للوطن العربي، وعائد وكلفة كل منها… )غايتها النهائية(«.

ونحن، وان نتفق مع هذا الاتجاه العالمي، الا اننا نرى ان الغاية المباشرة لدراسات المستقبلات لا تقتصر على مجرد استشراف المشاهد البديلة للمستقبل بحد ذاتها، وأنما تمتد أيضاالى توظيف مخرجات هذا الإستشراف سبيلا لصناعة المستقبل. ولان صناعة المستقبل هي الغاية النهائية والمباشرة لدراسات المستقبلات، تضحى مقارباتها المنهجية هي السبيل العلمي لتحقيق هذه الغاية.

وجراء ذلك تتميز العلاقة بين الإستشراف وصناعة المستقبل بتداخلها. ويعبر المستقبلي الامريكي توماس لومباردو، عن هذا التداخل بقوله :« إن خير وسيلة لأستشراف المستقبل تكمن في صناعته وأن خير وسيلة لصناعة المستقبل تكمن في إستشرافه.

وفي ضوءه، تجدر الإشارة الى ان الدراسة المستقبلية، عندما لا تعمد سواء بصورة مباشرة اوغير مباشرة، الى تسهيل الإستعداد المبكر للمستقبل و/او المشاركة في صنعه، فأنها لا تفقد جدواها العملية فحسب وانما تفقد هويتها أيضا.

ثانيا الغايات غير المباشرة لدراسات المستقبل

تتعدد وتتنوع هذه الغايات غير المباشرة. وعندنا يكمن اهمها في اربع منها وكالآتي:

نشر ثقافة الانحياز الى المستقبل

 في سياق مقالاتنا السابقة في المستقبلات تكررالقول أن الإستجابة الإجتماعية لإستشراف المستقبل تتباين بين عالمي الشمال والجنوب لصالح الاول. لذا، تنطوي الدعوة في دول عالم الجنوب، الى الإنحياز الى المستقبل على نزوع يرمي الى تحفيز وتشجيع المواطن على التخلي عن ثقافة الإنحياز إلى الماضي، ومن ثم الإنتظار السلبي لصورالمستقبل التي قد تفضي اليها الاقدار لصالح ثقافة اخرى تجعل الحاضرمقترنابتلك الافعال التي تؤدي مخرجاتها ليس فقط الى احتواء تحديات الحاضر وانما ايضاالى تحويل صورة المستقبل المنشود الى حقيقة موضوعية.

وبهذا الصدد تجدر الإشارة الى ان المستقبل ليس ثابت نهائي الشكل وانما هو مجموعة بدائل يستطيع الإنسان اختيار ما يريد منها. وعليه من الخطأ روية الماضي وكأنه هو الذي يصنع المستقبل. فتدفق دورة الزمان الى الامام تؤكد«… أن معطيات المستقبل لا تجد لها سوابق في الماضي. «

لذا عندما يصبح الانحياز الى المستقبل كتفكيرواسلوب للحياة ومن ثٌم يضحى ثقافة مجتمعية عندها يصير وكما يقول محمد ابراهيم منصور ممكنا»… توسيع قاعدة المهمومين ببناء فراديس المستقبل لا الباكين على اطلال الفراديس المفقودة. «

دعم عمليات التخطيط وترشيد اتخاذ القرار

التخطيط واتخاذ القرارمفهومان يعبران عن مضامين واليات مختلفة وذات مقاصد متباينة.

فأما عن التخطيط فهو وأن يقترن بأنواع ذات مديات زمانية مختلفة وبضمنه التخطيط الإستراتيجي الا ان مضمونه يُعد بالمحصلة متماثلا. فالتخطيط يعبرعموماعن التوظيف الامثل للعمل المبرمج من اجل الإرتقاء بالواقع، بأنواعه سواء على الصعيد الكلي والجزئي الى المستوى الذي يؤمن التغيير المنشود في المستقبل. لذا قيل انه: »التدبر الذي يرمي الى مواجهة المستقبل بخطط محددة سلفالتحقيق اهداف معينة مرغوب فيها. «

واماعن اتخاذ القرار فهو وان يعبرعن احدى مراحل عملية شاملة تسمى عملية صنع القرار الا انه يشير الى محصلة عملية عقلانية قوامها المفاضلة الدقيقة بين عدد من البدائل تتمتع بقيمة واحدة او متقاربة سبيلا لاختيارالبديل الاكثر قدرة على تحقيق الهدف المنشود بأقل الخسائر الممكنة والمقبولة.

فصانع القرار عندما يختاراحد البدائل فأنه يكون قد اتخذ القرار وحدد ايضاكيفية ترجمته الى واقع ملموس.

وانطلاقامن مضامين مفهومي التخطيط واتخاذ القرار نرى ان العلاقة التي تربط بين دراسات المستقبلات وبينهما تكمن اساسافي توفيرذلك القدر المهم من القاعدة المعرفية التي لايمكن رسم الخطط و/اواتخاذ القرارات الرشيدة بدونها وذلك عبرثلاثة محاوراساسية:

اولها تقديم تحليل علمي بشأن جل المتغيرات المؤثرة في مستقبل موضوع الاهتمام واثرمخرجات تفاعلاتها البينية في بلورة مشاهد المستقبل.

ثانيها بناء افتراضات علمية بشأن كيفية تبلورهذه المشاهد واخضاعها للفحص بقصد تحديد الفرص التي تنطوي عليها والكوابح التي تحد منها هذا فضلاعن استطلاع التداعيات والنتائج الناجمة عنها.

ثالثها: اقتراح الإستراتيجيات الملائمة، سواء كانت قريبة اومتوسطة او بعيدة المدى لترجمة احد هذه المشاهد البديلة، ولاسيما المرغوب فيه الى واقع ملموس.

وادراكامنها للفوائد الناجمة عن توظيف دراسات المستقبلات لاغراض دعم عمليات التخطيط واتخاذ القرارالرشيد عمدت في وقته المدرسة السوفيتيةرالاوربية الشرقية في الاستشراف الى تبني مفهوم العرافة، الذي دعا إلى ان يكون كل تخطيط و/او قرار مسبوقابدراسة مألات مستقبل مواضيع هذه العمليات.

وكما ان فكرة التخطيط التي ابتكرها السوفيت اولا والتي وجدت لاحقافي الولايات المتحدة الامريكية والدول الاوربية استجابة واسعة جراء مخرجات نجاحها كذلك هو الحال مع مضمون مفهوم العرافة. فعديدة هي الدول التي كانت لا تولي هذا المفهوم أهمية تذكر صارت تحرص على ان تستند عمليات إتخاذ قراراتها على استشراف مسبق لمستقبل مواضيع هذه القرارات. والشىء ذاته ينسحب على شركات متعدية الجنسية، مثل شركة شل. ولجدواه تتكرر دعوات العديد من المستقبليين في دول عالم الجنوب الى الاخذ أيضابهذا المفهوم وتطبيقاته.

الحد من تاثير صدمة المستقبل

غني عن القول ان العالم يتغير بمعدل سرعة غير مسبوقة وإن هذا التغيير ينطوي على مخرجات تفضي الى ان يكون مستقبل العالم مختلفا في العموم، عن ماضيه. وقد لا نختلف على ان المستقبل الذي يمهد له هذا التغيير يتطلب درجة عالية من الوعي والإستعداد النفسي لتقبل مخرجاته والإرتقاء بالإستجابة الإنسانية الى المستوى الذي يسهل الحد في الاقل من تفاقم تلك الحالة، التي جعلها المستقبلي الامريكي الفين توفلر عنوان مؤلفه واسع الانتشار: صدمة المستقبل: المتغيرات في عالم الغد.

وبصدمة المستقبل راى توفلرانها تٌعبرعن حالة التشتت والتمزق التي يُعاني منها الإنسان جراء الفجوة المتزايدة بين سرعة التغيير وبضمنه التغيير الاجتماعي، وبين محدودية قدرته على التكيف واياها. لذا اكد ان تسارع حركة تغييرالعالم على نحو غير مسبوق تفضي الى حلول مبكرة لمستقبلٍ يختلف جذرياعن الماضي والحاضر وان تزامن حلول هذا المستقبل مع عدم استعداد الإنسان والمجتمع والعالم للتكيف مع معطيات هذا المستقبل هوالذي يؤدي الى تعطيل قدرته على الإستجابة لتحديات المستقبل. ومن هنا تنبع صدمة المستقبل.

ونرى ان دراسات المستقبلات تساعد على تقليص هذه الفجوة في الاقل. ويعبرالمستقبلي الامريكي ادوارد كورنيش وبدقة عن هذه الغاية غير المباشرة، بالقول انها تُسهل على: »… الناس ادراك مضامين التغيير ومن ثم تجعلهم اكثر ثقة بأنفسهم وتفاولا بمستقبلهم )كما انها( تفضي كذلك الى تعلم واكتساب نوع جديد من الخبرة المسبقة بشأن المتغيرات المستقبلية المحتملة ونوع ردود الفعل المناسبة عليها… من اجل ان تكون »… بديلا للخبرة المكتسبة جراء تجارب الماضي والتي اعتاد الإنسان على جعلها احد مرجعيات انماط سلوكه«.

كذلك ينطوي النزوع الى الحد من تاثير صدمة المستقبل على تأجيج الإستعداد المسبق للتعامل الواعي والهادف مع التحديات المستقبلية ذات الطابع الكوني، والتي استمرت اراء.

ومنذ صدور تقريرنادي روما في السبعينيات من القرن الماضي تُحذر من تداعياتها ونتائجها كالتغيرات المناخية ونقص المياه، وزيادة السكان والهجرات السكانية الواسعة وتدعو في الوقت ذاته الى اتخاذ الإجراءات المناسبة للسيطرة على مخرجاتها للحيلولة دون تَحولها الى كوارث او الى مداخل مضافة داعمة للصراع بين الدول.

ومن هنا تُساعد دراسات المستقبلات على اكتشاف القضايا والمشاكل المستقبلية قبل وقوعها والتهيوء للتعامل معها. وتفيد معطيات الواقع الدولي أن كثيرامن الازمات الإقليمية و/او الدولية كان يُمكن، من خلال الجهد الإستباقي الواعي، الحد من تصاعدها والحيلولة دون تحولها الى صراع مسلح. وبهذا تستطيع دراسات المستقبلات ا ٌن تؤدي وظيفة مهمة تستوي ووظيفة الإنذار المبكر.

دعم التعاون المشترك بين المستقبليين من خلال صيغة الفريق

يفيد واقع انجاز دراسات المستقبلات سواء كانت هذه نظرية او تطبيقية انها تمت عبر الزمان أما بجهد منفرد و/او جراء تعاون مشترك بين مستقبليين. وعلى الرغم من اهمية الجهد المنفرد وخصوصاعندما يكون القائم عليه احد المستقبليين المحترفين البارزين، الا ان تميز المواضيع التي تتناولها دراسات المستقبلات بتنوع معطياتها وتشابك تفاعلاتها وعمق تعقيدها أفضى الى تبلور رؤية افادت ان انجاز دراسة مستقبلية ذات مصداقية يتطلب توافر شروط معرفية ومنهجية متنوعة لا يمكن تأمينها الامن خلال تظافرجهد مشترك يتأسس على تعاون وتفاعل وتكامل وطيد بين فريق عمل متفاهم ومتعاون بين مستقبليين محترفين.

وقد تجسد هذا الإدراك في الاخذ بما صار يسمى بالمقاربات التشاركية. وعديدة هي هذه المقاربات، التي تعتمد اساساعلى اراء العديد من المستقبليين المحترفين ومن شتى الإختصاصات وسواهم أيضا. ومما ساعد على ذلك أن دراسات المستقبلات هي فضاء مفتوح يستفيد من شتى حقول المعرفة لدعم إستشراف دقيق لمشاهد المستقبل.

وينطوي مثل هذا الجهد المشترك على مجموعة فوائد مهمة. فإضافة الى انه يفضي الى دعم المشاركة الديمقراطية في استشراف مشاهد المستقبل فأنه يساعد ايضا وعلى خلاف الجهد المنفرد على اخضاع هذا الإستشراف لمراجعة وتصحيح ذاتي وتحكيم دقيق قبل الصياغة النهائية لمخرجاته.

وبهذا الصدد نتفق مع ابراهيم العيساوي في تأكيده على ان دراسات المستقبلات لا تقبل الإنجاز«… دفعة واحدة )هذا لانها(… عملية متعددة المراحل يتم )من خلالها( انضاج التحليلات وتعميق الفهم، وتدقيق النتائج… وكلما تكرر ذلك زادت فرص الخروج بدراسة مستقبلية )لها( ارتباطاتها بالواقع الإجتماعي… )وتاثيرها( في الفعل الإجتماعي. «

على ان العمل المشترك من خلال الفريق يتطلب توافرعدة شروط مسبقة لضمان نجاحه. ومن بينها مثلا ان يتشكل هذا الفريق من قبل اصحاب الإختصاص والإحتراف ضماناللإصالة والمصداقية وسبيلا لتجنب انتاج دراسات توحي عناوينها انها مستقبلية، ولكن دون ان تكون كذلك عمليامن حيث المضمون.

بيد ان شرط الفريق المتخصص والمحترف لا يعني ابعاد المستقبليين الجدد، ولا سيما اولئك الذين تم تأهيلهم نظرياعبرالدراسة الاكاديمية. فمثل هذه الإستعانة تنطوي على صقل معارفهم النظرية وتساعد في الوقت ذاته على اكتسابهم للخبرة العملية ومن ثم اعداد وتهيئة اجيال جديدة من المستقبليين المحترفين.

وبهذا الصدد يقول خير الدين حسيب في سياق حديثه عن اغراض مشروع استشراف مستقبل الامة العربية: التحديات والخيارات :«… ما كان لعدد كبير من الباحثين العرب)ان يقوموا( بالمشاركة في هذا الإستشراف… الا من خلال تكليفهم بالمشاركة في تنفيذه… «

واضافة الى هذا الشرط يُعد ضرورياتوافر مؤسسة رصينة رسمية و/اوغير رسمية ذات قدرات مادية كافية تتيح لها الإنفاق على انجاز الدراسة المستقبلية بيسر. وتفيد مخرجات دراسات مستقبلية، ومنها عربية ان نقص التمويل و/او تعثر ديمومته كان عاملا مهماوراء الحيلولة دون انجازها او تأخره في الاقل.

وفي ضوء أعلاه لنتساءل: إلا تستوي دراسات المستقبلات والضرورة لتأمين الإرتقاء الحضاري؟ ولا نرى أن الجواب معقد ويحتاج إلى إفاضة. فهو واضح.

*إستاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات