أعتذر ولكن

سهير آل ابراهيم

يعيد الاعتذار احيانا وصل علاقات تعكر صفوها بفعل إساءة ما، سواء بِقَولٍ أو بفعل. من يبادر بالاعتذار يعبر بذلك عن ادراكه لما بدر منه من إساءة، كما يعبر بمبادرته تلك عن اهتمامه بمشاعر الطرف الآخر وحرصه على إدامة صلة طيبة بينهما. ولكن لماذا لا يكون للاعتذار دوما ذلك الأثر الإيجابي المرجو، ولماذا يبدو احيانا وكأنه يزيد الطين بلّة؟!

مما لا شك فيه، ان الاعتذار الذي لا يكون صادقا، والذي يقال فقط لغرض حسم الموقف لا يترك في نفس المقابل اثرا طيبا، ولا يحقق الهدف المتوقع منه. هنالك عدة أساليب تُفشل الاعتذار وتجعله غير مجد، وربما من اكثر تلك الأساليب شيوعا هو ذلك الاعتذار الذي يتبع مباشرة بتبريرٍ للاساءة التي أوجبته فيما بعد! يحصل الخلاف في معظم الأحيان نتيجة اختلاف وجهات النظر، وغالبا ما يقع الخلاف عندما يتمسك كل طرف بوجهة نظره الى الحد الذي يسبب توترا في الحوار ويدفع احد الأطراف للتفوه بكلام او القيام بتصرف يسيء للاخر ويجرح مشاعره. عندما يبادر الطرف المسيء بالاعتذار فمن الأفضل ان يترك التبرير لوقت آخر، اذ ان التبرير يلغي الاعتذار ويجعله عديم الفائدة. واذا أحس المعتذر بضرورة شرح الأسباب وتقديم تبرير لسلوكه، فمن الأفضل ان يترك ذلك الى وقت آخر. يحبذ ان يكون الاعتذار بسيطا ومختصرا مع كونه صادقا ومن القلب، عندها سيمهد الطريق لمناقشة ما وقع من خلاف بشكل هاديء مستقبلا.

هنالك من يعتذر عن إساءته بصيغة »انا آسف انك تشعر هكذا«، مشيرا الى استياء الطرف الآخر منه. هذا الأسلوب يموه فعل الاساءة ويلتف عليه، اذ يجعل المشكلة تبدو وكأنها تكمن في ردة فعل الطرف الذي تعرض للاساءة وليست في ما بدر من المسيء، او بمعنى آخر هي طريقة الفرد للتهرب من تحمل مسؤولية كلامه او افعاله، عن طريق القائها على عاتق الآخر، فهو بذلك يوحي ان المشكلة هي في طريقة تلقي الآخر للامر وليست في ما بدر من الطرف المسيء ! بالنسبة للبعض فان عدم اعتذار المسيء افضل بكثير من هذا النوع من الاعتذار.

و مثل الأسلوب السابق الذكر، هناك من يعتذر بقوله: »اعتذر ان كنت قد اسأت إليك«، فهو هنا لا يعترف بالإساءة وإنما يتعامل معها وكأنها مجرد احتمال، وبلا شك فان سماع هذا النوع من الاعتذار لن يخفف من وطأة الاساءة على من تعرض لها. الفرق كبير بين الاعتذار الصريح والمباشر عن الاساءة وبين ذاك الذي يشكك في وقوع إساءة كانت قد حصلت فعلا.

غالبا ما يأتي مع الاعتذار طلب المسامحة والغفران. تذكر الدكتورة هارييت ليرنر في كتابها )لماذا لا تعتذر؟( ان الكثير من الناس يتوقعون العفو والغفران بمجرد اعتذارهم عن إساءة صدرت منهم. وتؤكد ان الامر يجب ان لا يكون كذلك؛ يجب ان لا يستخدم الاعتذار كوسيلة للحصول على المغفرة! قد يبدو هذا الكلام غريبا لأول وهلة، ولكن ما تقوله الدكتورة هنا هو ان الاعتذار يجب ان يقدم خالصا للطرف الذي تعرض للاساءة، بدون محاولة الحصول على مقابل له، فلا يكون الاعتذار حينئذ ثمنا للحصول على المغفرة. قد تكون الاساءة كبيرة، ولها اثر عميق ومؤلم في نفس من تعرض لها. ربما يقبل ذلك الشخص الاعتذار، ولكنه قد يحتاج الى زمن لنسيانها، او على الأقل تجاوزها بحيث يصبح تأثيرها عليه اخف وطأة، عندها يتمكن من الصفح والغفران.

لقد مررتُ، ولمرات عدة، بمواقف حيث طلب مني الصفح والمسامحة بجملة واحدة مع الاعتذار، وانا ابنة ثقافتنا التي تقول ان المسامحة سمة النفوس الكبيرة، معنى ذلك ان صغير النفس لا يسامح! ولأني كنت لا اود ان أبدو )صغيرة النفس( فقد كنت اقولها بلساني، لكن عبارات المسامحة تلك لم تجد الفسحة الكافية للوصول الى قلبي، ولذلك كنت اجد انني كلما تعرضت الى إساءة من شخص كان قد اساء لي سابقا واعتذر وطلب العفو سريعا، اتذكر سابقاتها، فيكبر حجمها حينئذ وتتضخم حتى وان كانت بسيطة!

من غرائب المألوف لدينا، والمتعارف عليه في ثقافة مجتمعنا، اعتبار الشخص حقودا عندما يتذكر إساءات مر عليها الزمن! لا ادري ان كان الحقد يولد مع الانسان ام انه وليد جروح النفس التي لم يجد الشفاء اليها طريقا. جرح النفس حتما ليس مثل جرح الجسد، لانه قد يبقى حيّا نابضا حتى وان توارى خلف حجب النسيان لفترة، فقد توقظه كلمة وتعيده حارقا نازفا من جديد! اعتقد ان عبارة الاعتذار المجردة لا تكفي احيانا لحذف اثر الاساءة من نفس الشخص وذاكرته، وخصوصا عندما تتكرر إساءات ذلك الفرد، اذ ان كل إساءة جديدة تضاف الى سابقاتها فتزيد الجرح عمقا، ولذلك أقول ان الذي يتذكر الاساءات ليس بالضرورة ان يكون حقودا وإنما هو إنسان مجروح النفس والقلب، لم يجد ما يبرىء جراحه تلك. ليس من الانصاف ان يُطلب من الانسان نسيان الاساءة بمجرد سماع عبارة الاعتذار، لأننا وببساطة لا نختار دوما ما نتذكر وما ننسى!

الاعتذار هو للطرف الاخر بالدرجة الأساس، لذلك عندما يصر المعتذر على ان يُقبل اعتذاره وان ينال العفو فانه بذلك يعطي الاولوية لنفسه على حساب مشاعر الشخص الاخر. هنالك إساءات كبيرة قد يجد البعض صعوبة او ربما استحالة في قبول اعتذار عنها، فلا أظن ان كل ام قتيل مثلا قادرة على الغفران لقاتل فلذة كبدها، ولا اعتقد ان الطرف الأضعف في علاقة جائرة قادر دوما على مسامحة ذلك الذي يسلب البهجة من أيامه ورحيق الحياة من عمره.

الاعتذار، مهما كان صادقا، لن يكون ذَا اثر ما لم يكن الطرف المعتذر على استعداد لسماع ما يقوله الشخص الذي تعرض للاساءة، وان يكون قادرًا على تقبل تعبير الطرف الاخر عن ما سببته له تلك الاساءة من غضب او الم او كليهما.

مفهوم الاعتذار مشوش لدى البعض، فمنهم من يرى ان في الاعتذار خضوع وتقليل من قيمة الذات، ولكني على يقين ان الاعتذار عن إساءة قام بها الفرد شجاعة ورفعة اخلاق أتمنى ان ارى الكثيرين يتحلون بها. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة الى الأبحاث التي بينت ان النساء قادرات على الاعتذار اكثر من الرجال، وفي مختلف الثقافات!

رغم بساطة عبارة الاعتذار المتعارف عليها، ورغم قلة كلماتها، الا انها عبارة دقيقة، ومن الأفضل ان تستخدم كما هي، لان اَي إضافات اخرى لها قد تلغي قيمتها والأثر الطيب المرجو منها، وربما تتسبب بخلق خلافات جديدة.ش