الليبرالية وحكاية الزمن الجميل في مصر

 مقاييس شهادة الميلاد لاتصلح في التعرف على فرسان التنوير

عصر مكافحة الحفاء كمشروع قومي..لايتناسب مع شعارات العلم والثقافة

أمين الغفاري

يثار بين حين وآخر جدل حول )الزمن الجميل( الذي رحل، ورحلت معه شعائره وأجوائه، أو عبقه وأنفاسه، وتحمل تلك المشاعر مدى الافتقاد له ولواعج الحنين اليه، وبالتالي يعكس ذلك انتصارا لقيمه وأحداثه، وما تخلله من دفء وبساطة، وما تعلمناه في عصره وشاهدناه في علاقاته، بل وما أخذتنا فيه شخصياته على مستوياتها المتعددة من علم وثقافة، بل وحداثة وتطور وكذلك من فن وطرب أوتنوير واشعاع..بالتأكيد يتولد ذلك التصور من فرط مايعترينا، حين نتلفت حولنا الآن فتصاب رؤوسنا بالدوار. فالبهجة تسقط في داخلنا قبل ان تتحول إلى فرحة تكسو الوجوه، والضحكة تكتسب طعم المرارة قبل ان تولد على شفاهنا الأبتسامة. ذلك من هول مانراه الآن بعيوننا ونسمعه بآذننا، فضلا عن ما نحسه أو نستشعره بوجداننا، ونحن نتلفت حولنا في ذلك الزمن القبيح، فلا نجد في العالم العربي سوى الويلات من كل جانب. الأسى النفسي ينضح في أعماقنا، والكدر الذاتي تمتلأ به جوانحنا. وسط هذه الأجواء المعتمة يسارع البعض منا في استعادة صورالماضي، ويترحم كل منا على ذلك »الزمن الجميل« الذي غاب ورحل، وان كنا نختلف حتما حول مفهوم ذلك »الزمن الجميل« والمقصود من سنواته تحديدا وما هو ذلك العصر وما هو مداه؟. يتساءل الدكتور اسامه الغزالي حرب في جريدة الاهرام يوم 11 ابريل الماضي عن الزمن الجميل بعد ان تساءل في وقت سابق الشاعر فاروق جويده في مقاله )ربيع الزمن الجميل( عن عيد الربيع الذي كنا نحتفل فيه بشم النسيم وكان يسوده اللون الاخضر والفواكه والخضراوات التي كانت تملأ شوارع القاهرة وغيرها من المدن وعن اغنية فريد الأطرش عن الربيع..الخ بما يعني أن فاروق جويده كان يتحسر على الزمن الجميل، ثم يضيف الدكتور اسامه الغزالي حرب، والمدهش أنه وجد مقالا آخر للدكتورجلال أمين قبل عام )3 ذ 4 ذ 2017( في الأهرام وقد جاء في ذلك المقال حول نفس الموضوع تقريبا )أنه يقصد بالزمن الجميل في شبابه تلك السنوات العشر بين منتصف الخمسينات ومنتصف الستينات التي ازدهرت فيها مواهب عديدة في الأدب والفن والشعر )يوسف ادريس، وصلاح عبدالصبور وعبدالحليم حافظ ومحمد الموجي…الخ(. يستطرد الدكتور اسامه الغزالي في عرضه ليطرح من جانبه تساؤلا عن ماهية ذلك الزمن الجميل ؟ هل هو الذي يشهد انتاج هؤلاء المبدعين أم الأحرى انه الذي يسهم في تكوينهم ؟ ثم يمضي قائلا :حقا، ان اتاحة المناخ الذي يشجع المبدع ويحفزه شيء رائع، ولكن المناخ الذي ينمو ويتشكل فيه المبدع أروع وأهم. ان الذين أبدعوا وازدهروا في الخمسينات والستينات كانوا في الحقيقة نتاج حقبة ما قبل ثورة 23 يوليو، انهم نتاج الحقبة الليبرالية بين 1922 و1952 بمن فيهم جمال عبدالناصر نفسه وزملاؤه من الضباط الأحرار وهو ماينطبق على أغلب رموز تلك الفترة من الفنانين والأدباء والكتاب، ويستعرض الدكتور اسامه سنوات ميلادهم )مثلا عبدالحليم حافظ مواليد 1929 ويوسف ادريس 1927 وصلاح عبدالصبور 1931 وبليغ حمدي 1932 ومحمد الموجي 1923 وسناء جميل 1930( انهم ببساطة أبناء الحقبة الليبرالية، ,ثم يمضي في الأستطراد ليقدم في النهاية الحكم الناجز.. ان الزمن الجميل هو الزمن الحر، الزمن الديموقراطي، الزمن الليبرالي، الذي شهد عام 1949 فيلم )عفريته هانم(وقد تضمن خلال احداثه أغنية فريد الأطرش الخالدة عن )الربيع(.

مصر في العصر الليبرالي

الحفاء هو المشروع القومي

انهى الدكتور اسامه الغزالي مقاله بالحديث عن فيلم )عفريته هانم( 1949 والأغنية الخالدة)الربيع(

واحب بداية وقبل اي محاولة للرد او التعقيب ان اوجه عنايته ايضا واهتمامه مادام معنيا بالسينما وتأريخها للأحداث آملا ان تترك تأثيرها في احكامه إلى فيلم )القلب له واحد( 1945 أول افلام صباح وسيجد في الفيلم حوارا لايخلو من معان ويبعث من دلالات جرى بين )محمد كامل( وكان يقوم بدور الخادم والباشا )سليمان نجيب( ويقول الخادم )ياسعادة الباشا لقد بحثت عن الحرامي الذي يدخل الفيلا بعد نص الليل واكتشفت انه ليس فلاحا ولكنه واحد )بيه( ويسأله الباشا وازاي عرفت انه واحد )بيه( ويرد قائلا )لأنه ترك أثرا على الأرض وعرفت انه يلبس )جزمه( وده معناه انه واحد بيه وليس فلاحا ياسعادة الباشا(، ذلك بالأضافة إلى افلام أخرى)أولاد الفقراء( عام 1942 بطولة يوسف وهبي وأمينه رزق عام وفيلم أولاد الشوارع عام 1951 بطولة يوسف وهبي ومديحة يسري، وأسماء الأفلام تشي بموضوعاتها وطبيعة القضايا التي تشير اليها. يعرف الدكتور أسامه وهو أستاذ في العلوم السياسية أن المشروع القومي في العهد الليبرالي )الجميل( كان )مكافحة الحفاء( وكان يرد ذلك في كل خطاب يلقيه رئيس الوزراء أمام الملك في افتتاح الدورة البرلمانية )وسوف تعمل حكومتي على مكافحة الحفاء(.

يتساءل الشاعر الكبير فاروق جويده عن الخضرة التي كانت تظلل مصر من فواكه وخضراوات و كانت تملأ شوارع القاهرة. هل غاب عن الشاعر الكبير أن نسبة عدد السكان قد ارتفعت، وأن مستوى الدخل عموما قد ارتفع خلال عقدي الخمسينات والستينات، وكان يمكن ان يكون

الدكتور اسامه الغزالي حرب الزمن الجميل.. هو زمن التكوين للمبدعين
الدكتور اسامه الغزالي حرب
الزمن الجميل.. هو زمن التكوين للمبدعين

اكثر ازدهارا لولا الثورة المضادة التي قادها الرئيس الراحل انور السادات في مايو عام 1971، ويذكرني ذلك بأحد خطبه اي الرئيس السادات حين تساءل ايضا في قوله )هي البلد جرى فيها ايه..كان زمان الفلاحين تطلع على الطرقات يبيعوا الجبنه والزبده والبيض..هي راحت فين الحاجات دي !(، وقد رد عليه الراحل الكبير احمد بهاء الدين )لقد ارتفع مستوى المعيشة للفلاحين بعد الثورة واصبحوا يأكلون الجبنه والبيض والزبده ولايبيعوها(. قامت ثورة 23 يوليو وكان تعداد مصر 18 مليون نسمة تعاني من ظاهرة )الحفاء( وما يترتب عليها من أمراض متوطنة وهي )البلهارسيا » التي مات بسببها عبدالحليم حافظ »نجم العصر الليبرالي كما يذكر الدكتور الغزالي والأنكلستوما والأسكارس(. حين قام عباللطيف البغدادي)بعد الثورة على العهد الليبرالي بعام واحد( بعمل كورنيش للنيل، واضفاء جوانب من الجمال على العاصمة العريقة كانت الشعارات المناهضة تردد)الرغيف قبل الرصيف يا عبداللطيف(، وكان بعض خريجي كليات الحقوق والآداب والتجارة يعملون بشهاداتهم المتوسطة )انتظارا لخلو وظيفة( لأنه لامجال للشهادات العليا ولتلك التخصصات في المؤسسات المختلفة، وكانت البطالة تمد أذرعها لتضرب الكثير من خريجي الجامعات، اللهم الا لأبناء طبقة النصف في المائة، فكانت لهم وظائف السلك الدبلوماسي ثم السياسي باعتبار أن كلية الحقوق هي الطريق للوزارة.ترى ماذا كان يدبر القدر لو ان العهد الليبرالي الميمون قد امتد به العمر، ولم تقم ثورة 23 يوليو بكل انجازاتها في بناء المصانع واستصلاح الارض ومعالجة التفاوت المذهل بين الطبقات.ترى هل كانت ثورة الجياع سوف تكسو الارض بمزيد من الخضرة أم سترويها بطوفان من الدماء ؟.

صور لاتسقط من الذاكرة

لا ينبغي كذلك ان نسقط من الذاكرة ثورات الفلاحين في )بهوت( و)كفورنجم( وقد عرضت جريدة )الجمهور المصري( التي كانت تصدر في الأربعينات ويرأس تحريرها )أبو الخير نجيب( صورا لما كان يتعرض له الفلاحون من تعذيب واكراه، وروت كيف كانت توضع العصي في دبورهم، وتمزق جلودهم من الضرب، كما كان يقذف بهم خارج قراهم مادام الياشا ألأقطاعي قد غضب على عبيد الأرض .كما ان هناك دراسة قيمة للمؤرخ الكبير الراحل الدكتور رءوف عباس تحت عنوان )الحركة الوطنية في مصر 1918 ذ 1952( يوضح فيها كم بلغت نسبة المعدمين من سكان الريف عام 1937 وكانت النسبة 76، وهي تمثل نسبة 80 من مجموع السكان المصريين عام 1952، كما . نشرت كذلك جريدة حزب مصر الفتاة الذي كان يرؤسه احمد حسين وقد أطلق عليها اسم )ألأشتراكية( على صفحتين كاملتين عدة صور لمواطنين مصريين حفاة عراة تحت عنوان تم تحريره بالبنط العريض )رعاياك يامولاي(.وبالمناسبة تحدث الدكتور مصطفى الفقي في معرض الكتاب باكيا عصر الملكية، وقال أن الملك فاروق كان يمكن تقويمه فقد كان مازال شابا !!!!!(.

ديموقراطية العصر الليبرالي

شيء يثير العجب أن نتحدث عن العهد الليبرالي الديموقراطي بينما يبلغ عدد السنوات التي حكم فيها حزب الوفد )الأغلبيه( منذ صدور دستور عام 1923 وحتى قيام ثورة 23 يوليو النذر اليسير من السنوات، انها تبلغ فقط ست سنوات على وجه التقريب، وكان الحكم خلال كل الفترة لأحزاب الأقلية في معظم السنوات، فمن أين جاء مفهوم الحكم الديموقراطي مادامت الأقلية هي التي تحكم ؟ ولايفوت

الدكتور اسامه ان دستور 23 قد تم الغاؤه لكي يتم عمل دستور آخر هو دستور عام 1930، وكان الانتخاب فيه على درجتين، ثم تم الغاء الدستورين معا حتى عام 1935، أي خصم ما يقرب من خمس سنوات ايضا من عمر )الديموقراطية الليبراليه( المعنية )بالزمن الجميل( فتصبح

الدكتور احمد زويل التعليم في الستينات كان جيدا
الدكتور احمد زويل
التعليم في الستينات كان جيدا

المحصلة اربع وعشرون عاما فقط للحكم الديموقراطي الرشيد بين عامي 1923 و1952.

الموهبة بين الضمور والتوهج

الموهبة تولد مع الانسان، وهي كالزهرة يمكن ان تنمو وتتفتح وتغمر ما حولها عبقا وأريجا، كما يمكن أيضا ان تضمروتذبل وتموت، والفرق في الحالتين هو مايحيطها من رعاية واهتمام، حتى لاتوأد في مهدها.ترى هل يمكن ان نحصل على احصائية تكشف لنا عن عدد المواهب التي وأدت أو اجهضت في ذلك العصر الجميل قبل ان تينع أو تزهر؟ ثم اتساءل ترى لو لم يصادف عبدالوهاب امير الشعراء احمد شوقي، الذي تولاه برعايته واهتمامه وقدمه للمجتمع المفتوح وصحبه في زياراته للخارج، ودفعه دفعا للأهتمام بصنع موسيقى جديدة قائلا له )آذننا قديمة، فلا تلتفت لما نسمعه ونحبه، طور فنك وموسيقاك وانظر دائما للأمام وقدم لنا الجديد( هل كنا سنعرف عبدالوهاب الذي عرفناه ؟ في حوار مع الراحل الكبير احمد بهاء الدين حول نفس الموضوع، قال )ان كل الذين لمعوا في سماء الآداب أو الفنون أو العلوم اثناء ثورة يوليو هم ابناء الثورة بالفعل وثمارها، فالقضية لاترتبط بسنوات الميلاد انما بالمناخ الذي أتاح التوهج والأنتشار، وحين سألته إلى اي عصر ينتمي احمد بهاء الدين ؟ قال بالتأكيد انتمي لعصر الثورة( ُثم أشير إلى ماجاء في كتابه )حوارات مع السادات( قال ذهبت بعد تخرجي من الجامعة، في محاولة للعمل في دار الهلال، والتقيت بأحد أصحابه، وعرضت عليه بعض كتاباتي، فاعتذر عن عدم النشر لأنها لاتتناسب مع ماينشر في الدار، ويستطرد فيقول وخرجت من دار الهلال بعد ان فشلت في الحصول على عمل لكي أعود لها بعد عشرين عاما رئيسا لمجلس الأدارة ورئيسا للتحرير.

الموهبة..وصناعة النجم

في مقال للدكتور اللواء سمير فرج في جريدة )الأهرام- 17 اغسطس 2017( وتحت عنوان كيف تصنع نجما ذكر محاولته وقت ان كان رئيسا لدار الاوبرا المصرية أن يرعى الفنانة ذات الصوت الرائع )آمال ماهر( بتكليف من وزير الثقافة فاروق حسني ويروي كيف حاول بمنهج علمي، ان يطبق ما توصل اليه من دراسة في تحقيق تلك الغاية، ولكن للأسف فان القصة لم تكتمل، ودون الدخول في التفاصيل تبقى النتيجة واحدة، وهي عدم استفادة مصر من هذه الموهبة الشابة كما ينبغي وفي نفس الوقت لم تحصل هذه الموهبة على مايليق بصوتها من مكانة. لقد تفتحت موهبة )صلاح جاهين( مواليد عام 1930 بل اقول تفجرت على الجانبين )الرسم والشعر( على صفحات مجلة )صباح الخير( عام 1956، وتحت رعاية الراحل الكبيراحمد بهاء الدين، ولذلك اطلق صلاح جاهين اسم بهاء على أبنه الشاعر)بهاء جاهين(.

في النهاية ان الزمن الجميل لايتحدد بشهادات الميلاد، ولا بالمواهب الفطرية، لأنها مجرد استعداد وتطلع، وهي قد تضمر وتموت ان لم تجد الببئة الحاضنة، ولكن بالرعاية والأهتمام يمكنها ان تصقل وتتفتح وتزهر، ولايتوفر ذلك الا بالمناخ الذي يفتح الأبواب، ويشعل الحماس، ويدفع إلى الاجتهاد الذي يثمر في النهاية الأبداع والازدهار، والكتاب والفنانون الذين عني الدكتور اسامه بذكر تواريخ ميلادهم لم يتوهجوا الا في احضان النهضة التي تحققت في انحاء البلاد من زراعة وصناعة وآداب وفنون وبشهادة الدكتور احمد زويل مواليد 1946 والدكتور مجدي يعقوب مواليد 1935، كان التعليم في مرحلة الستينات جيدا، وتلك كلها كانت البيئة أو التربة التي اثمرت، والتي وفرتها ثورة 23 يوليو عام 1952، فلم يعد هناك حفاة ولاعراة، نتوهم انهم يمكنوا ان ينتجوا فنا او ادبا او يتقدموا علما، أو يصنعوا زمنا جميلا !!.

صبية لاتستقبلهم المدارس لدواعي فقرهم..هل هذا عنوان لزمن جميل ؟

الدكتور اللواء سمير فرج تحدث عن صناعة النجم
الدكتور اللواء سمير فرج
تحدث عن صناعة النجم