يسرى البيطار: الشّاعر هو شاعر بالولادة

في حوار مع الدكتورة الشّاعرة يسرى البيطار لمجلّة الحصاد ذ لندن

يسرى البيطار:  »الشّاعر هو شاعر بالولادة«

بيروت من ليندا نصّار

تعدّ الشّاعرة يسرى البيطار من التّجارب الشّعريّة الشّابّة اللافتة في المشهد الثّقافيّ اللّبنانيّ، إذ استطاعت عبر قصائدها أن تبدع لونًا خاصًّا بها ينطلق من رؤيا لم تقف عند حدود معيّنة تمتلكها المرأة، بل تخطّتها لتعبّر بوعي جماليّ عن مواضيع تلامس التّجربة الإنسانيّة وقضاياها عامّة…الشّعر بالنّسبة إليها مرادف للسّعادة، وهو تعبير عن المشاعر والانفعالات الّتي يختبرها كلّ شاعر حقيقيّ ليبدع من خلالها شكلًا خاصًّا لقصائد صادقة مستوحاة من مشاهد الكون الّذي تتّسع فيه إمكانيّات التّعبير.

 يسرى البيطار، بالإضافة إلى أنّها شاعرة، هي على احتكاك مباشر بالنّصّ الأدبيّ انطلاقًا من تجربتها كأستاذة في الجامعات، كما أنّها حاضرة في الوسط الثّقافيّ دائمًا.

 وفي لمحة عن سيرتها، يسرى البيطار شاعرة من قرية كفيفان شمال لبنان. حائزة شهادة الدكتوراه اللبنانية في اللغة العربية وآدابها، وشهادة الكفاءة في التربية، ودراسات عليا في الحقوق. أستاذة اللغة العربية في الجامعة اللبنانية، وفي الجامعة اللبنانية الأميركية LAU. نالت جائزة ناجي نعمان الأدبية العالمية للإبداع عام 2016 عن قصائد من مجموعتها  »أكاد من المحبة أسقط«. مثلت لبنان في عدد من مهرجانات الشعر العربي.

 »الحصاد« التقت الشاعرة يسرى البيطار في بيروت، وكان لها معها الحوار الآتي:

 »الحصاد«: في بعض قصائدك استعادة للمكان فحضوره يوحي بالشعر، بحيث تتبدّى النّظرة الرّؤيويّة والانفعالات والأحاسيس. برأيك إلى أيّ مدى تؤثّر جماليّة هذا المكان في توسيع مخيّلة الشّاعر؟

يسرى البيطار
يسرى البيطار

يسرى البيطار: لقد نشأْتُ طفلةً ومراهقةً في القرية، وهي مكانٌ جميل. كنْتُ شديدةَ التّأثّر بمشاهد الحقول عند تغيّر الفصول. والشّعراء، والمبدعون في الفنّ إجمالاً، هم الأشدُّ تأثّرًا بالجمال. لذلك أعتقد أنّ جماليّةَ المكان قد تُشعِلُ الانفعال، وتؤجّجُ الخيال، لكنّ الشّاعر هو شاعرٌ، بها أو من دونها. وإذا أثّرَت الطّبيعةُ فيه، فلأنّه قابلٌ للتّأثّر، ولأنّه شاعرٌ بالولادة.

الشِّعر يخرجُ من الدّاخل، ولا يصحُّ العكس؛ فالحالة النّفسيّة والعاطفيّة هي التي تلوِّنُ المشهدَ الخارجيَّ كما تشاء.

لستُ أنكرُ أنّ الإطارَ الجميلَ قد يَرفدُ الشّاعرَ بالمزيدِ من الشّحناتِ الخياليّة والقدرة على التّصوير، فقد استقَيْتُ بعضَ الصّورِ من الزّهرِ، والنّهرِ، والشّلاّل، والوادي… قلْتُ في قصيدةٍ عنوانُها  »حُزن«:

 »أليومَ أنسى أن أصلّي

أنّني كنتُ الجميلهْ

أنّني مثلُ الخميلهْ

ونسِيتُ أنِّي كنتُ كالشّلاّلِ

محتفلاً يَسيلْ

وإذا مشى، فَلهُ هديلْ«.

 »الحصاد«: ماذا تعني لك الكتابة وكيف شرّع لكِ الشّعرُ أبوابَه؟

يسرى البيطار: الكتابةُ تعبيرٌ عن الانفعال. ومن ذلك الشّوقُ، والحبّ، والحزن، والفرح، والغضب، والانفعال أمامَ قضيّة وطنيّة، أو قضيّة إنسانيّة…

أمّا القصيدةُ الأولى التي نشرْتُها فقد كتبْتُها ذاتَ حزنٍ، وكانت هي البداية. عندها اكتشفْتُ أنّني شاعرة، بعد أن كنْتُ أظنُّ نفسي خَطيبةً وأديبة. لم أقصدْ يومَها أن أكتبَ قصيدةً. فقط تناولْتُ ورقةً وقلمَ الحبرِ، ففاضَ ما في القلب.

 »الحصاد«: تربطُكِ بالرّجل علاقة حبّ مبنيّة على الشّوق والغزل والاحترام طبعًا… ألا ترَين أنّه على الرّغم من هذه الرّومنسيّة في العلاقة، ظلّت شخصيّة المرأة المتمرّدة القويّة حاضرة في شعرك؟

لا يستطيعُ الشّاعرُ أن يقيّمَ شِعرَه من هذه النّواحي، وأن يطلقَ حكمًا، لأنّها مهمّةُ النّقّاد. لكنّ دراساتٍ أشارَت إلى أنّ يسرى البيطار قد ظلّت هي صاحبةَ المبادرة، وصاحبةَ القرار، في الحبِّ، وفي الشّوقِ، وفي الهجر أيضًا. أمّا الرّجُل فكان وجودُه سلبيًّا ومتلقّيًا. وأظنُّ أنّ هذه النّظريّة تحتاجُ إلى بحثٍ خاصّ في اللّغةِ وعلم النّفس. وعلى أيِّ حالٍ فلكلِّ قصيدةٍ أجواؤها وظروفُها. لكنّني أُقِرُّ بأمرٍ غيرِ محدّدِ الأسباب لديّ، هو أنّ الرّجلَ لا يوحي إليّ بقصيدةٍ، ما لم يكنْ على مستوًى عالٍ من العلمِ والمَكانةِ، والخُلق. وإنّني أحاولُ، أحيانًا، أن أحلّلَ هذا الأمرَ، فأفترضُ ربّما أنّ احترامي لشخصِ الرّجلِ، هو الشّرطُ لكي يجعلَني أرتدي أمامَه ثوبَ القصيدة.

 »الحصاد«: يعيش الشّاعر في صراع مع اللّغة. هل طاوعتك هذه الأخيرة للتّعبير عن حالات المرأة الشّاعرة بكلّ تجلّياتها؟

يسرى البيطار: قد تكونُ اللّغةُ العربيّةُ من اللّغات الأكثر طواعيةً والأوسع معجمًا وقوافي. وإنّي عاشقةٌ للعربيّةِ ومتخصّصةٌ بها. لذلك أشعرُ بلذّةٍ وأنا أكتبُ الشّعرَ الموزون، حيث يكونُ التّقديمُ والتّأخير والاستبدالُ في التّركيب… أحيانًا تكونُ اللّغةُ أحدَ أسلحةِ الشّاعر في صراعِه مع ذاتِه المعبَّرِ عنها، ولا يكونُ صراعُه مع اللّغةِ ذاتِها.

وإليكم هذا الأبيات من قصيدةٍ تمنّيْتُ فيها  »لو كنْتُ ماءً«، حيثُ سَالَتِ اللّغةُ كالماءِ تعبيرًا عن المرأةِ الشّاعرة، في أبياتٍ موجَّهةٍ إلى حبيبٍ شاعر.

 »لو كنْتُ ماءً لَمَا أفنانِيَ المللُ

وكانَ وجهُكَ بي يَصفو ويغتسلُ

وكنْتُ أجلسُ في كوبٍ على مهَلٍ

وأنتَ تكتبُ شِعرًا، والهَنا مَهَلُ

وأَسمعُ الشّوقَ للأوراقِ تَقرأُهُ

وكيف مِن بعدِنا أَزرَتْ بكَ السُّبُلُ

فما يَهُمُّ إذا مَزَّقْتَها فأنا

سمعْتُ ما تَشتهي الأنفاسُ والقُبَلُ«.

 »الحصاد«: تكتب يسرى البيطار قصيدة التّفعيلة محافظة على إبداعيّة النّصّ. إلى أيّ مدى أسعفك هذا النّوع في التّعبير عن قضايا الإنسان والوجود؟

يسرى البيطار: أنا أكتبُ الشّعرَ الموزون. والموزون، تقليديًّا، هو الشِّعرُ العموديّ. أمّا في العصر الحديث فقد برزَت قصيدةُ التّفعيلة، وهي تُعتبرُ من الشّعر الموزون أيضا. لديَّ حتّى الآن عشرون قصيدة على نظام التّفعيلة، تقريبا، أمّا العشَراتُ الأغلب فهي من الشّعر العموديّ.

يقولُ سعيد عقل:  »في البداية يسيطرُ عليّ نغَمُ القصيدة«. أتبنّى هذا الموقف بشكلٍ كامل لأنّه حقيقيّ. فالشّاعرُ لا يقرّرُ على أيِّ وزنٍ أو تفعيلةٍ سيكتبُ القصيدة، لكنّ الحالةَ الشّعريّةَ تفرضُ إيقاعَها.

وأعتقدُ أنّ اتّساعَ المجال، في قصيدة التّفعيلة، من البيت إلى السّطر الذي قد يقصُرُ أو يطول وفقَ مقتضيات التّعبير كان سيفا ذا حدَّين. فهو يُسعِفُ الشّاعرَ من ناحية ليونتِه، لكنّه لدى غير المتمكّنين قد يُغرِقُ في التّطويل )أقصدُ تطويلَ الجملة الشّعرية(، ولزوم ما لا يَلزم، والإملال. لذلك أشعرُ، أحيانا، بأنّ التّكثيفَ والإيجاز هما أكثرُ احتمالا في القصيدةِ العموديّةِ المعاصرة، منذ سعيد عقل، إذا كانت الإطالةُ في قصيدة التّفعيلة ستُذكّرُ بالنّظْم في مطوَّلاتِ القصائدِ العموديّة.

 »الحصاد«: كيف تقيّم يسرى البيطار التجاربَ الشعريّة الجديدة على مستوى إبداع المتخيّل في الكتابة الشّعريّة، وما هي علاقة هذه الكتابات الجديدة بكتابات الرّوّاد؟

يسرى البيطار: لا شكَّ في أنّ الكتاباتِ المعاصِرة قد انفتحَت بشكلٍ أكبر على الرّمز. لكنّ العاطفةَ المعبَّرَ عنها ليست أكثرَ زخما ولا أكثرَ شِعريّةً من كتاباتِ الرّوّاد، كما أنّ الصّورةَ ليست أكثرَ عمقًا، وإنْ كانت أكثرَ تعقيدًا. فالعمقُ ينبعُ من العاطفة، برأيي، وليس من التّعقيد.

ولقد توصّلْتُ إلى هذه الخلاصة في بحثٍ أكاديميٍّ أنجزْتُه عن  »تركيب جملة الحبّ في الشّعر العربيّ، دراسة ألسنيّة«، حيث تبيّنَ أنّ إبداعاتِ المعاصرين لم تفُقْ، مثلاً، شِعرَ المتنبّي، وهو الذي كتبَ الشِّعرَ منذ أكثرَ من عشرة قرون.

 »الحصاد«: ما هي الرّؤية الإنسانيّة التي تحملها الشاعرة يسرى البيطار والّتي من شأنها إعلاءُ القيم لتحسين الإنسان والمجتمع؟

يسرى البيطار: إذا كان هناك ما يجبُ تقديسُه من القيم فهو الصّدقُ، والمحبّة. أنا أمارسُهما، وأكتبُ الشِّعرَ بهما. يَعتبرُ أدونيس أنّ العالمَ كلَّه ليس سوى الذّات، فإذا بلغْتَ عمقَ ذاتِك عرفْتَ حقيقةَ العالم. وأنا أعتبرُ أنّ الإنسان، إذا كانَ مُحِبًّا وصادقًا، فهو رسولٌ بالمِثالِ، وليس بالوعظ. هكذا أُحِبُّ أن يكونَ الشِّعر، موقفًا صادقًا يقدِّسُ العاطفةَ الإنسانيّة، ودرسًا ساطعًا في ذلك أمام الأجيال. فالتّجاربُ الإنسانيّةُ العاطفيّةُ الصّادقةُ يُقاسُ عليها. وهُنا أحِبُّ أن أقدّمَ لقرّائكم قصيدتي التي تحملُ عنوانَ المجموعةِ الأخيرة:  »أكادُ من المحبّةِ أسقطُ«.

أكادُ من المحبّةِ أسقُطُ

مَنْ قالَ إنّي اعتدْتُها النّكَباتِ والنّكَساتِ

لا

لا تَسْهُلُ الأوجاعُ بالتّكرارِ

بلْ تزدادُ إيلامًا

أكادُ من المحبّةِ أَسقُطُ

ماذا ستُجْديني الكتابةُ

أو سَيُجْديني بقاءُ الشِّعرِ للأجيالِ إنْ مُتُّ؟

ليتَ السّعادةَ نلْتُها في عالَمي مِن دونِ شِعرٍ

إنّني بالحزنِ أخْتَطُّ الحروفَ من القصيدهْ

باللهِ

كيفَ سَقطْتَ من قلبٍ بحجمِ الرّيحِ نحوَ العقلِ مقهورِ الحدودْ؟

وأنا كطفلةِ نرجسٍ

فكأنّني ما عشْتُ ما جَرَّبْتُ ما ذُقْتُ المرارةَ ما خَبِرْتُ النّاسَ

أنظرُ صوبَ أقصى الرّيحِ يا وجَعي

وأعرفُ أنْ

سيَشتدُّ الصّقيعُ

ولن تغطّيَني يَـدُ.