سائق التاكسي وجبران باسيل

رؤوف قبيسي:

سائق التاكسي )أو الطاكسي بلغة المغاربة( كائن فريد، خصوصا في بلد مثل لبنان. يحدثك في السياسة كأنه محلل ضليع، مع أنه قد يكون من أشباه الأميين، لكنه يسمع ما يدورعلى القنوات العربية من تحليل وتنظير، فيبدأ إلقاء درره عليك وعلى الباقين من ركبان سيارته، كأنه أحد الخبراء في علم الاجتماع والسياسة. هذا ما يحدث لي أحياناً مع السائقين كلما زرت لبنان، لكن موسم الانتخابات الأخيرة زاد الطين بلة. وصلت إلى بيروت قبل موعد الانتخابات، وكانت صور المرشحين والمرشحات تملأ الفضاء، وكادت أن تحجب الأشجار، وأعمدة الكهرباء وشرفات المباني. لم يقتصر ذلك على العاصمة، بل أن البلد كله ازدان بالصور، وكان لكل مرشح شعاره الخاص، مثل »همًنا همًكم«، »نحن الخرزة الزرقاء في عين الفتنة«، »بيروت لأهلها«، أو »بيروت ما يهمًك«، وهذا الشعار الأخير كان لوزير الداخلية نهاد المشنوق، في حين كان شعار وزير الخارجية جبران باسيل »أقوالنا أفعال«، أما رئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس الحكومة سعد الحريري، فقد حفلت صورهما بعدد وافر من الشعارات، أهمها »الضمانة«!

لم أعرف هذه الضمانة إلا في بلاد الأجانب التي عشت فيها العدد الأكبر من سنوات عمري، لأن الضمانة هناك ضمانة دولة، ولا تأتي من أفراد مهما علا شأنهم! أما في »الوطن الحبيب« فهي مفهوم أجوف، ولا أذكر أني »قرفت« من بلدي كما هذه المرة، وأرجو المعذرة عن استخدام هذه الكلمة الهجين، فمعظم الوجوه »الثقيلة« التي عانى منها لبنان في سمعته واقتصاده وأمنه، عادت لتحتل المسرح السياسي من جديد، وهذه العودة، ذكًرتني بقصة الراعي والغنم، وكيف أنها ساعة ترى الذئب، تلتف حول راعيها لتحتمي به، وهي لا تدري أنه سيقودها آخر المطاف إلى المسالخ، ليفترس لحمها وصوفها وجلودها، بعد أن يكون قد استدر لبنها وهي حية ترعى، إلى يوم تأخذها السكاكين!

أمضيت في لبنان ثلاثة أسابيع كانت كافية! كنت أظن أن نتائج الانتخابات ستسفرعن ظهورعدد كبير من الوجوه المدنية، يتناسب وحجم الشكوى التي يظهرها اللبنانيون من النظام الطائفي وأعيانه وممثليه، ومن التلوث وندرة الطاقة، والغلاء والماء الشحيح، وزحمة السير والفساد المستشري في الإدارات، فخاب أملي وخاب أمل كثيرين من اللبنانين، من ترجح كفة الأحزاب التقيلدية على كفة الوجوه الجديدة، حتى صارهم هذه الأحزاب، الاستيلاء على الوزارات »السيادية« كوزارة المال، ووزارة الداخلية، ووزارة الأشغال العامة، أما وزارة التربية، فليست في نظرهم »سيادية«، مع أنها يجب أن تكون الأهم، في بلد يحتاج أهله إلى قدر كبير من التأهيل التربوي والثقافي والاجتماعي! لكن أصحاب السلطة، لا يكترثون لهذه الوزارة، ولا لوزارة الصحة، أما وزارة المال فهي عندهم من أهم الوزارات، إن لم تكن أهمها على الإطلاق!

جبران باسيل

أراني قد ابتعدت عن الحديث عن سائق التاكسي، فلأعد إليه، لأنه »عينة« تعكس تصرف الكثيرين من اللبنانيين، وموقفهم من النظام والأحزاب. كان سكني في بيت شقيقتي بمدينة الشويفات المتاخمة لبيروت، والمطلة على الطريق البحري المؤدي إلى الجنوب، وكان علي وأنا في الطريق يومياً إلى العاصمة، أن أركب التاكسي لوحدي، وأحياناً »السرفيس« الذي يسع اربعة، أو سبعة ركاب، حسب حجم السيارة. سائق التاكسي كغالبية سائقي سيارات الأجرة، يحدثك في السياسة من دون أن تكون لديك الرغبة في خوض غمارها. يشكو من السياسيين، من زحمة السير، من الناس »اللي ما عندهم ذوق«، ولا يتقيدون بالنظام العام، ويقطعون الطريق على غيرهم، وفجأة، فيما هو يشكو ويتزمر، يبدأ بالتدخين، مع أنه ممنوع في السيارات والحافلات العامة. يبصق من شباك السيارة، أو يتجاوز السائق الذي أمامه، يضغط على الزمور بشدة تكاد تفجر الأذنين. يشتم أهل الحكم، وينعتهم بأبشع الأوصاف، حتى إذا حل موعد الانتخابات، فتش عمن يدفع له ثمناً لصوته، وإذا كان من غير المرتشين، قادته غريزته إلى انتخاب زعيم طائفته التقليدي!

 لست أدري كم مع العقود نحتاج إلى أن نبرأ من هذه العلل والأمراض، لنحتل موقعاً لنا بين الأمم الراقية. حالنا في لبنان على أي حال، ليست فريدة في هذه المنطقة الفريدة من العالم. إنها حال بلاد العرب كلها، حيث النزعات القبلية والعشائرية والمذهبية فوق سلطة العقل والمصحلة الوطنية. أتذكر جلستي مع النائب الحالي، وزير خارجية لبنان الأسبق جان عبيد، وهو يحكي لي قصة طريفة عن ذئب وثعلب، كانا كلما أرادا أكل دجاجة، هجم عليهما أهل القرية، حتى قررا ذات يوم أن يذهبا إلى رئيس البلدية، للحصول على رخصة تجيز لهما أكل الدجاج. كتب لهما رئيس البلدية فرمانا يسمح بذلك، ويعاقب كل من يتعرض لهما بسوء. علق الذئب لوحة الفرمان حول عنقه، وخرج والثعلب من مبنى البلدية وهما في غاية الفرح، واتفق وهما في الطريق، أن وجدا دجاجة فلحقا بها، فشاهدهما بعض رجال القرية، وبدأوا يركضون خلفهما وبيدهم العصي. تفرس الثعلب بوجوه الرجال، ثم بدأ يعدو، فقال له الذئب وقد تملكته الحيرة: لماذا تخاف ولدينا تصريح بكلمات عريضة، يسمح لنا بأكل الدجاج؟ أجابه الثعلب الداهية: أنا أدرى منك بشعاب هذه القرية أيها الرفيق، وأعرف هؤلاء الرجال حق المعرفة؛ إنهم أميون، ولا أحد منهم يعرف القراءة!

حالنا في لبنان ليست كحال رجال تلك القرية. كلنا يقرأ ويكتب. عشرات الآلاف منا تخرجوا في الجامعات، لكن الكثيرين مصابون بمرض عبادة الشخصية ويا للأسف. مرض أصاب حتى طبقة »المتأدبين والمثقفين«، وبعض هؤلاء يصفق بحرارة لهذا الزعيم أو ذاك! قبل أسابيع زار وزير الخارجية اللبنانية جبران باسيل العاصمة البلجيكية لحضور مؤتمرعن الأقليات في الشرق الأوسط، واجتمع على هامش المؤتمر، بعدد كبير من أبناء الجالية اللبنانية، وألقى فيهم كلمة في أحد الفنادق، حثهم فيها على شراء البضائع اللبنانية، وخاطبهم بلهجة المعلم أمام تلاميذه وقال:«شجًعوا الصناعات الوطنية. لا تشربوا النبيذ البلجيكي، بل اشربوا النبيذ اللبناني«. رددها غير مرة، فيما كان بعض الحاضرين، من اللبنانيين طبعاً، يصفق له بشدة، وبدا أنهم من مؤيدي تياره السياسي. كنتُ بين الحضور، أسمع باسيل بإحدى أذنيً، وأصطنع مقارنة، تخيلت فيها وزير خارجية بلجيكا في بيروت، يخاطب أفراد الجالية البلجيكية المقيمين في لبنان، ويقول لهم:« شجعوا الصناعة الوطنية. لا تشربوا النبيذ اللبناني، اشربوا النبيذ البلجيكي«! كان باسيل يتكلم بعامية لبنانية مسطًّحة، تدل على المعايير المزدوجة التي يتقنها زعماء لبنان، الذين لهم في كل مقام مقال مختلف، ما يجعل المرء يتساءل:، لو قال باسيل بالفرنسية ما قاله بالعربية، وكان في القاعة مواطن بلجيكي، كيف سيكون شعور هذا الأخير، وهو يسمع وزيراً أجنبياً يلقي موعظة ينهي بها سامعيه عن شرب النبيذ المحلي؟! سيعتبرها مشمئزة من غير شك، وفارغة إلا من قلة الأدب، ومجحفة بحق بلد تعيش فيه ألوف العائلات اللبنانية!

جاء باسيل إلى بروكسل ليحضر مؤتمراً عن الأقليات الدينية في الشرق، ويبدو أنه من أشد الحريصين على هذا النوع من المؤتمرات التي هدفها النهائي أن تكون المنطقة أقليات دينية، لا أوطاناً متجانسة في خلقها وتربيتها وثقافتها وروحها الوطنية! لكن من مصلحة الوزير الخطير، أن يستمر لبنان في هذه الحال المدمرة لكيانه، وهو خير من يعرف أن منصبه كوزير، يرتكز قبل كل شيء على كونه »مارونيا« بالهوية، مثل نظرائه الآخرين، الذين تقوم مناصبهم على هويات طائفية.

حين كنا صغاراً في مدارس الصغار، كان يأتينا ممرضون يلقحوننا بأبر مضادة للأمراض. كانت لدغة الأبر خفيفة، ولم نكن نشعر بالوجع في جلودنا إلا في اليوم الذي يلي. أعتقد أن زمناُ طويلا سوف يمر على لبنان، يشهد فيه اللبنانيون مزيداً من التلقيح، قبل أن يفيقوا من سباتهم العميق، ويشعروا بالوجع الحقيقي، ويدركوا أن ما فعلوه كان جريمة بحق أنفسهم وحق الوطن، وأن أصواتهم التي أودعوها صناديق الانتخابات، وأعادت هذه الشريحة من الزعماء إلى سدة الحكم، لن تجلب عليهم وعلى البلاد، إلا المزيد من الفساد والخراب، وربما المزيد من الدم أيضاَ!