هل انتهت الحرب في اليمن؟

معركة الحديدة واجهة لخطة دولية لترتيبات جراحية موازية للتك في سوريا

محمد قواص *

تكشف معركة الحديدة في اليمن عن تحول دولي كبير لم يكن يسمح بخوض هذه المعركة قبل سنوات. ويفصح الحدث عن تطور في المشهد الدولي العام على ما يستنتج في قمة سنغافورة بين الزعيمين الأميركي والكوري الشمالي وقمة هلسنكي بين الزعيمين الأميركي والروسي. ويتضح من تقاطع المواقف الدولية مع تلك الإقليمية بشأن الحديدة ميل نحو مقاربة تسعة لطي الملف اليمني الذي لم يعد مقبولا التراخي في إيجاد مخارج خلاقة لتسوية تنهي الحرب المندلعة منذ سنوات.

يمثل قرار خوض معركة الحديدة تطورا مفصليا على طريق وضع حد للحرب في اليمن. ويكشف أمر هذه العملية عن مقاربة مشتقة من منطق عملية »عاصفة الحزم« التي قاربت اللجوء إلى القوة بصفتها الحل الوحيد لبسط طاولة مفاوضات لحلّ الأزمة اليمنية. بيد أن جديد الحديدة هذه المرة أن المعركة تخاض بتغطية من عواصم القرار الكبرى التي لطالما ماطلت وتلكأت ووضعت العراقيل القانونية والإنسانية والسياسية أمام حرب هدفها تحرير أهم منفذ بحري لليمن كمدخل لتحرير اليمن كاملا.

تميط عملية الحديدة اللثام عن مزاج دولي متغير تجاه التعامل مع الحالة الإيرانية. كان اليمن جزءاً من ميادين عديدة بسطت طهران نفوذها عليها وضمت صنعاء إلى مجموعة العواصم العربية التي فاخرت طهران باحتلالها. تعاملت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مع

معركة الحديدة تحدد مصير اليمن المقبل

اليمن بصفته غنيمة من غنائم المنطقة المتنازع عليها مع السعودية وحلفائها ولا حلّ لقضاياها إلا بـ »اقتسام النفوذ مع إيران« حسب »عقيدة أوباما« الشهيرة التي توسّع في شرحها في مقابلته الشهيرة في صحيفة »ذي أتلانتيك« الأميركية عام 2016.

قبل عام تماما كانت مسألة الحديدة مثار نقاش في واشنطن وباريس ولندن. سألت هذه العواصم كثيرا شخصيات يمنية وخبراء في شؤون اليمن في ملفات الأمن والعسكر والسياسية حول رأيهم بمعركة عسكرية يقترحها التحالف العربي بقيادة السعودية لتحرير الحديدة ومينائها. كان دبلوماسيو تلك العواصم يستمعون ويصغون باهتمام دون أن يشي ذلك أن المزاج الدولي يميل إلى حسم عسكري. قدمت العواصم حجج الخوف من الكارثة الإنسانية لحجب الضوء الأخضر عن العملية. فما الذي جرى حتى تبدل رأي الدول الكبرى وباتت مشاركةً بشكل أو بآخر في تقديم الدعم اللوجيستي والاستخباراتي لمعركة تحرير الحديدة، تاركة إلى الجمعيات الإنسانية المتخصصة أمر التحفظ والقلق؟

والحقيقة أيضا أن جدل المعركة قبل عام لم يكن غربيا دوليا فقط. جرى الجدل داخل الغرف المغلقة لقوات التحالف العربي. بدا أن الرياض وحلفاءها يستمعون إلى ضجيج مجلس الأمن وتحفظات الدول الكبرى ولا يستخفون بالجوانب الإنسانية التي قد تجرّها معركة كبرى بهذا الحجم.

حين بدأت العمليات العسكرية فجر 25 مارس 2015 أعلن عادل الجبير من واشنطن، وكان حينها سفيراً للسعودية في واشنطن، بدء انطلاق عملية »عاصفة الحزم«. لم يكن القرار السعودي على رأس التحالف العربي يحظى برضى إدارة أوباما. لم تعترض واشنطن لكنها لم تقدم في الدبلوماسية والعسكر ما يجب أن توفره دولة حليفة لحلفائها. لم تعوّل الرياض كثيرا على دعم أميركي كامل ذلك أنها وحلفاءها الخليجيين اعتبروا أن أمر هذه العملية يفرضه منطق الأمن الاستراتيجي الداهم الذي قد لا تتّسق إيقاعاته العاجلة مع حسابات الولايات المتحدة وبقية دول العالم. غير أن الرياض كانت تدرك أيضا أنها لا تريد خوض معركة تبتعد عن رعاية دولية أو تنفصل عن السياق الدولي العام.

لم يتغير أمر مصير الحديدة والمقاربة الأميركية للأزمة اليمنية كثيرا حين تبوء دونالد ترامب سدة الرئاسة في بلاده. ما تغير هو موقف واشنطن لاحقا من طهران وانقلاب الموقف الأميركي جذريا من الحالة الإيرانية. فككت الإدارة الحالية حجرا بعد حجر جدار استراتيجية »الاحتواء« القديمة للإدارات الأميركية المتعاقبة في التعامل مع طهران منذ قيام الجمهورية الإسلامية. انقلب مفهوم الأمن الاستراتيجي في الولايات المتحدة بحيث باتت الحالة الإيرانية لا تمثل فقط أخطارا على حلفاء واشنطن في المنطقة، بل بات نظام الولي الفقيه يشكل خطرا مباشرا على أمن الولايات المتحدة الاستراتيجي.

في 18 يونيو الحالي ألقى مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي محاضرة في نادي ديترويت الاقتصادي. تحدث الرجل كثيرا عن علاقة السياسة الخارجية لبلاده بالنمو الاقتصادي للشركات داخل الولايات المتحدة. قال: »كتب وزير الخارجية توماس جيفرسون في العام 1790 أن حماية التجارة الأمريكية في البحر الأبيض المتوسط كانت مركزية بالنسبة إليه وأشار إلى أنها كانت تعاني بسبب هجمات قراصنة شمال أفريقيا على سفننا التجارية. المشكلة مختلفة بعض الشيء اليوم ولكن ما زالت سرقة أغراضنا تشكل تحديا مركزيا للولايات المتحدة«.

باتت »أميركا أولا« في عرف الرئيس الأميركي دونالد ترامب وفريقه تمر بالقوة التي تملكها »أميركا« في الخارج. يروّح بومبيو أكثر من ذلك، يقول: »تشير استراتيجية الرئيس ترامب إلى أن الأمن الاقتصادي يوازي في الواقع الأمن القومي. الأمنان مترادفان كما وصفهما«.

عبد ربه منصور هادي: معركة الشرعية في اليمن

على هذا بات وفاء رجل أميركا الأول بوعوده الانتخابية لرفع الأداء الاقتصادي ومعدل النمو وخفض معدلات البطالة تمر حكما من خلال القوة في الخارج.

في 21 مايو الماضي أعلن بومبيو للعالم استراتيجية بلاده حيال إيران. أتى الإعلان مكمّلا لقرار ترامب في 8 من نفس الشهر بالانسحاب من الاتفاق النووي. قدم بومبيو شروطا لا يمكن اعتبارها إلا وصفة لإسقاط النظام في طهران. جاءت شروط تصويب الاتفاق الشهير عرضية مقارنة بأخرى لا يطل منها إلا خريطة طريق لتبديل جذري لنظام الجمهورية الإسلامية. لن تقبل طهران بشروط بومبيو، لكن واشنطن وتيار متصاعد في العالم )قد لا تكون موسكو بعيدة عنه( لن تسمح باستمرار الحالة الإيرانية في وقت يجري فيه التعامل مع حالة كوريا الشمالية.

تبدَّل مزاج واشنطن بما بات يقترب من مزاج الرياض وحلفائها في مقاربة الحالة الإيرانية. لا تعتبر السعودية العراق وسوريا واليمن ولبنان مناطق متنازع عليها مع طهران بما يسمح بنقاش مسألة »تقاسم النفوذ مع إيران« العزيزة على قلب أوباما. بدا أن الولايات المتحدة صارت تدرك الآن أن اليمن بلد يجب أن يكون ذا سيادة تخصّ اليمنيين وحدهم وأنه في الوقت عينه حديقة أمن خلفية للسعودية ودول الخليج وأن لا مكان لإيران به ولا غنائم فيه ممكن التفاوض لاقتسامها.

تأتي معركة الحديدة متطابقة تماما مع منطق الأمور لجهة تحرير اليمن من أي نفوذ يسمح للنظام في إيران بامتلاك أوراق تتيح له أن يكون شريكا في ملفات المنطقة. لليمنيين والرياض والحلف العربي أسبابهم لتخليص اليمن من نفوذ إيران. ولواشنطن وباريس وحتى لندن أسبابها لإعادة الأزمة اليمنية إلى مربعها المحلي.

في محاضرته في ديترويت يقول بومبيو: »نحن نعمل أولا على الحفاظ على السيادة الأمريكية على الساحة الاقتصادية العالمية، ذلك أن ما نخسره اقتصاديا في العالم سيكون لصالح الصين«. ترى واشنطن أمور العالم من منظار مصوّب نحو الصين ومن هذا المنظار تماما تقارب استراتيجياتها في الشرق الأوسط. وفي الطريق لرد المارد الصيني المتعملق تزيل واشنطن معوقات إعادة ترتيب الشرق الأوسط بما يعيد إيران إلى إيران وينهي ظاهرة الاستثناء التي حظيت بها منذ حوالي 4 عقود. هنا فقط نفهم معركة الحديدة.

على هذا فإن الحالة اليمنية تتعرض حاليا لما تتعرض له الحالة السورية. تجمع العواصم على سلوك معابر مختلفة للوصل إلى حل ولو بالقوة ينهي الحرب في البلدين. لن تكون الحلول على مقاس المتقاتلين إلا أنها تتيح العودة للتنافر بأدوات أخرى غير أدوات الموت المستخدمة. ولا شك أن ورشا دبلوماسية دولية كبرى ستنشط لاجتراح مخارج خلاقة يعيد ترتيب شؤون المنطقة. بيد أم أمر ذلك مرتبط أيضا بترتيب شؤون العالم المتوتر. ولهذا فإن لذلك شروط أخرى قد تفاجئنا في الأشهر المقبلة.

فككت الإدارة الحالية حجرا بعد حجر جدار استراتيجية »الاحتواء« القديمة للإدارات الأميركية المتعاقبة في التعامل مع طهران منذ قيام الجمهورية الإسلامية. انقلب مفهوم الأمن الاستراتيجي في الولايات المتحدة بحيث باتت الحالة الإيرانية لا تمثل فقط أخطارا على حلفاء واشنطن في المنطقة، بل بات نظام الولي الفقيه يشكل خطرا مباشرا على أمن الولايات المتحدة الاستراتيجي.

تعاملت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مع اليمن بصفته غنيمة من غنائم المنطقة المتنازع عليها مع السعودية وحلفائها ولا حلّ لقضاياها إلا بـ »اقتسام النفوذ مع إيران« حسب »عقيدة أوباما« الشهيرة التي توسّع في شرحها في مقابلته الشهيرة في صحيفة »ذي أتلانتيك« الأميركية عام 2016.

بدا أن الولايات المتحدة صارت تدرك الآن أن اليمن بلد يجب أن يكون ذا سيادة تخصّ اليمنيين وحدهم وأنه في الوقت عينه حديقة أمن خلفية للسعودية ودول الخليج وأن لا مكان لإيران به ولا غنائم فيه ممكن التفاوض لاقتسامها.

شروط مايك بومبيو ضد إيران فتحت معركة الحديدة

تأتي معركة الحديدة متطابقة تماما مع منطق الأمور لجهة تحرير اليمن من أي نفوذ يسمح للنظام في إيران بامتلاك أوراق تتيح له أن يكون شريكا في ملفات المنطقة. لليمنيين والرياض والحلف العربي أسبابهم لتخليص اليمن من نفوذ إيران. ولواشنطن وباريس وحتى لندن أسبابها لإعادة الأزمة اليمنية إلى مربعها المحلي.

كادرات

النفوذ الإيراني في اليمن

نشر مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات مؤخرا دراسة موسعة وهامة للباحث عاتق جارالله حول »النفوذ الإيراني في اليمن والفرص الموهوبة«، نستعرض هنا أبرز محاور الدراسة وتوقعاتها لمستقبل النفوذ الإيراني في اليمن.

يذهب جارالله إلى أن النفوذ الإيراني في اليمن حتى عام 2011 ظل محصورا في أدواته الناعمة )الإعلامية والسياسية والثقافية(، وكان من الصعب التيقن من حجمه، لكنه تسارع بعدها بقوة، حتى أصبحت ملامحه واضحة بقوة، وتهريب الأسلحة إلى الحوثيين وصل إلى مستوى الصواريخ البالستية، وانتقل من الاهتمام المحلي إلى الإقليمي والدولي.

ورأى الباحث أن إيران تعتمد في مد نفوذها إقليميا على إطارين أولهما يمر عبر الهيكل السياسي الرسمي لدول الإقليم كالعراق، والآخر عبر الهيكل السياسي غير الرسمي أو بالتوازي معه، عبر دعم أذرع عسكرية تعمل على تقويض هذه الدول كما هو الحال مع الحوثيين في اليمن، وأن إيران مأسورة باستدعاء إرثها الإمبراطوري الفارسي ومحاولة إحياء تمدده في الإقليم.

على مستوى اليمن، قال جارالله إن الاهتمام الإيراني بها ارتفع فجأة بعد ثورة الخميني )1979(، خاصة مع وقوف صنعاء إلى جانب بغداد في حربها مع طهران )1980-1988(، وأن الأخيرة عملت خلال الثمانينات والتسعينات على استقطاب طلاب يمنيين إلى جامعاتها وحوزاتها العلمية وإلى جامعات مرتبطة بها في سوريا ولبنان، لكن دورها في اليمن ظل غامضا حتى لا تستفز السعودية للتدخل كما حدث مؤخرا عند ارتفاع حدة الدعم الإيراني للحوثيين بعد 2014، وأيضا لأن المذهب الزيدي في اليمن لا يتطابق مع المذهب الإثنى عشري، ولا يمتلك الحوثيون الشجاعة على إظهار ميلهم له لوجود فوارق بينه وبين الزيدية في اليمن.

عزز ما ذهب إليه جارالله تحليلا لعملية التشييع في اليمن للكاتب محمد شرف نشره في موقع البيت الخليجي للدراسات قبل أيام، وأكد فيه وجود 40 »حسينية« في صنعاء وحدها منذ دخول الحوثيين إليها، وأن الاستجابة لهذا العمل الطائفي من بعض اليمنيين جاء بدوافع سياسية غالبا ونفعية أيضا وأن الدافع الديني ضعيف مقارنة بها.

قسمت الدراسة مراحل التمدد الإيراني في اليمن إلى ثلاث مراحل، بدأت بـ»التموضع الناعم« بين 2001، و2011، نتيجة الصراع السياسي وضعف الدولة في اليمن، ثم انكشفت بعد 2011 بالدعم العسكري المباشر بالأسلحة النوعية كما كشفت حادثة السفينة جيهان في 2012،

مارتن غريفيث المبعوث الدولي إلى اليمن: ما هو موقف الأمم المتحدة؟

لتصل إلى مرحلة الاستقواء والسيطرة منذ سيطرة الحوثيين على صنعاء، التي نتج عنها تدخل عسكري سعودي مباشر في اليمن ويتحدد مستقبل النفوذ الإيراني في اليمن على نتائجه.

إن تحول اليمن إلى موضع ارتكاز للنفوذ الإيراني في الإقليم، حدث نتيجة 3 عوامل رئيسية حسب الدراسة تمثل أولها في »صراع النخب وتنامي قابلية الدولة للاختراق«، حيث نتج عن صراع القوى التقليدية في اليمن فراغ كبير استغلته إيران للتدخل بدعم قوى جديدة ثملت في الحركة الحوثية وبعض فصائل الحراك الجنوبي.

أما العامل الثاني فوصفه الباحث بـ»الانكفاء السعودي«، أي تراجع النفوذ السعودي التقليدي في اليمن، وخلافات اليمن مع محيطها الخليجي نتيجة موقفها من حرب الخليج الثانية، وشعور الرياض بتراجع المخاطر المحتملة عليها من اليمن خاصة بعد توقيع اتفاقية الحدود عام 2000، وتراجع الدور السعودي مجددا بعد 2010 في ظل التغيرات التي شهدتها المنطقة المعروفة بثورات الربيع العربي، والتي تدخلت الرياض فيها عبر المبادرة الخليجية ثم عاد دورها للانكماش منذ 2013، وهي مرحلة محورية في تمدد الحوثيين ونشاط إيران في اليمن.

وتمثل العامل الثالث بالتطورات الدولية وأبرزها دخول أمريكا للعراق ثم سيطرة إيران عليها، وتوقيع اتفاق إيران النووي مع القوى الدولية ومرونة واشنطن معها بشأن تدخلاتها الإقليمية، خاصة وقد تزامن ذلك مع الصراع الجاري في اليمن والإقليم.

وصنفت الدراسة أدوات إيران لتعزيز نفوذها في اليمن على أدوات مختلفة أبرزها الأدوات الفكرية والدينية التي مثلت الأرضية الرئيسية لاستخدام أدوات أخرى سياسية وإعلامية، جعلت الأدوات العسكرية أكثر سهولة، وأن إيران تعتمد على نشر الطائفية وإثارة الصراعات الداخلية كسياسة لزعزعة البلدان التي تمد نفوذها وأذرعها الاستخباراتية إليها كما هو حاصل في العراق وسوريا ولبنان.

وأتت الأدوات الإعلامية والسياسية تالية للطائفية، عبر دعم إيران لقضايا حلفائها وتأسيس قنوات إعلامية تتبنى مواقفهم تديرها من الضاحية الجنوبية غالبا خاصة بعد 2011، والترويج لأذرعها في سياستها الخارجية.

بعد هذه المقدمات تأتي الأدوات العسكرية والأمنية التي ظهرت بجلاء في اليمن عبر التهريب المنظم للسلاح إلى الحوثيين، كما كشف التقرير الأممي الأخير، ومراكز الأبحاث المهتمة بالتسلح، وباعترافات قيادات إيرانية عليا بدعم ما تصفه بالمقاومة في البلدان الحليفة لها، وما كشفته دوريات الدول الكبرى في المياه الإقليمية من حمولات أسلحة متعددة، يتم تهريبها عبر البحر العربي والقرن الإفريقي بشكل مستمر، وأن الأمر لم يتوقف على تهريب الأسلحة بل وتهريب خبرائها لتدريب الحوثيين على استخدامها وتركيب المجزأة منها كالصواريخ التي تهرب على أجزاء صغيرة ويعاد تركيبها في الداخل، كما أكدت شظايا الصاروخ الذي أطلقه الحوثيون على الرياض في نوفمبر الماضي.

وقد وضعت الدراسة 3 سيناريوهات متوقعة لمستقبل النفوذ الإيراني في اليمن، كلها تعتمد على نتائج التدخل العسكري للتحالف العربي في اليمن وهي:

سيناريو »التراجع الإيراني« في اليمن، وهذا السيناريو متوقع بقوة في حال تحقيق التحالف انتصارا يضرب القدرات العسكرية والتنظيمية للحوثيين في اليمن، ويصيب نفوذ إيران بمقتل حسب وصف الباحث.

السيناريو الثاني، تمثل في »الفوضى الخلاقة« وسيحدث في حال عدم حدوث حسم عسكري من قبل التحالف، وقبوله بتسوية سياسية يكون الحوثيون جزءا منها، مع احتفاظهم بقوتهم العسكرية وحضورهم الشعبي، واستخدامهم لدعوة الحق الإلهي في الحكم وبالتالي عملهم لإضعاف الأطراف الأخرى بالدخول في حروب محدودة، تؤدي إلى استمرار عدم الاستقرار وهو السياق المثالي للتدخلات الإيرانية لتمكين حلفائها في بلدان المنطقة.

السيناريو الثالث، هو »الهيمنة« والذي بات مستبعدا بعد تراجع الحوثيين وانتقالهم من موقع الهجوم إلى مواقع التقهقر والدفاع.

اليمن: الجذور التاريخية للأزمة

قليلون هم القراء الذين يعرفون خلفية الصراعات السياسية والمذهبية في اليمن، وقليلون من يعرفون الخلفية المذهبية لجماعة الحوثي، هذا ما حاول أن يوضحه أستاذ التاريخ في جامعة البلقاء التطبيقية الدكتور محمود الجبارات في كتابه »الجذور التاريخية للأزمة اليمنية« الصادر مؤخرا عن الآن ناشرون وموزعون في عمّان.

يضم الكتاب دراستين متصلتين بذات الموضوع: الزيدية، وهو المذهب الذي ينتمي إليه الحوثيون، وغيرهم من العشائر اليمنية، والجذور التاريخية للأزمة اليمنية المعاصرة.

يقول الباحث محددا أهمية البحث الذي يقدمه: »كان تاريخ اليمن الحديث والمعاصر، وما يزال، مجالاً بكراً، قلًما تستوفى أدواته ووثائقه وشروط الكتابة التاريخية في موضوعاته؛ وذلك لتعقيدات مدخلاته وتشابك علاقاته الداخلية والخارجية، إضافة إلى المزاج العام المرتبط باتجاهات ورؤى دارسيه، فضلا عن رؤى أبنائه ومواقفهم من هذا التاريخ ومآلاته«.

وقد بيّن الكاتب أن الأزمة اليمنية منذ اندلاعها عام 2011 كشفت عن بعض مكنونات المجتمع اليمني ورؤاه واحتقاناته المتماهية مع واقع مكوناته الداخلية وعلاقات قواه الحيّة مع محيطها الإقليمي، وشكّلت الأزمة، بصورة عرضية، ظاهرة تشي وتُغري بإعادة قراءة صيرورة تاريخ اليمن المعاصر بمناهج وأدوات وطرائق تفكير جديدة.

أما الدراسة الثانية فقد اهتمت بالمذهب الزيدي، من خلال المصادر التاريخية والفقهية، وفي مختلف مراحل تاريخ اليمن، وبيان تاريخ علاقات الزّيدية مع التيارات السياسية والاجتهادات الفقهية في اليمن، وطريقة أداء الإمامة الزيدية السياسي كدولة، وتطور اجتهادها المذهبي خلال الظروف السياسية المستجدة بمنظور تاريخي.

كل ذلك في محاولة للإجابة، المباشرة أو غير المباشرة، على التساؤلات الهامة التي أثارتها تطورات الأزمة اليمنية وهي: هل تتطور الزّيدية، بتجلياتها الحالية بصفتها حركة حوثية، وتتحول إلى حزب سياسي يمني يقبل التشاركيّة في الحكم، والتبادل السلمي للسلطة في دولة يمنية مدنية حديثة؟ أم أن استعادة الزيدية المذهبية، كما ظهر في الحركة الحوثية، سيتجسد مجددا في تأسيس إمامة زيدية؟ وفي كل الأحوال، كيف ستتعامل الزيدية الحوثية مع بقية المكونات السياسية والفقهية والمناطقيّة في اليمن؟

لعل أبرز ما توصل اليه الباحث فيما يتعلق بثنائية المذهب والدولة عند زيدية اليمن هو أن المذهب الزيدي في اليمن تطور تاريخياً كجزء من تطوّر المعارضة السياسية الإسلامية للدول الإسلامية المركزية على اختلاف توجهاتها، ووظّف القبائل اليمنية في الوصول إلى السلطة و/أو الحفاظ على هذه السلطة، وأنه لم يؤمن يوما بالمعارضة السلمية والفكرية للدولة الإسلامية المركزية، أو للدول الإسلامية التي نشأت في اليمن وتعايش معها؛ بل إن صراعات عسكرية دامية ومستمرّة قادها الأئمة للوصول إلى السلطة في اليمن ضد الدول اليمنية؛ وصراعات عسكرية بين الأئمة المتنافسين على الإمامة؛ كان كثير منها داخل البيت الفاطمي ولأئمة متعارضين، وأن المذهب الزيدي أقرب المذاهب الشيعية إلى السُنّة؛ تطور فكرياً واجتهادياً على ضوء مدرسة المتكلمين المعتزلية، وركز على الإمامة ودور الإمام في السلطة السياسية )الدولة(؛ ولكن ما أن تقوى سلطة الإمام ودولته، ويجد أي مبادرة خارجية من دولة شيعية إمامية اثني عشرية؛ المختلفة في اجتهادها الفقهي عن الزيدية؛ فإنّ الإمام يستقوي بها، وينسق معها سياسياً وربما عسكرياً في مواجهة الدول المجاورة له، ويرافق ذلك تطبيق اجتهادات الفرقة المطرفية أو الاثني عشرية في اليمن، ومنها شروط الإمامة والموقف من خلافة الشيخين، وحديث الغدير، والإضافة على الأذان، والصرخة.

وأن الإمام الزيدي كان أحياناً يلجأ لعقد اتفاقات على شكل هُدن مؤقتة مع دول يحاربها وتحاربه، وأن هذه الهدن لا تستمر، وغالبا ما يبادر الإمام إلى نقضها بعد أن يُعِدّ العُدّة إلى جولة جديدة من الحرب.

وأن شروط تولي الإمامة المعتبرة عند الزيدية لم تكن تطبق غالباً عند خروج الإمام للدعوة أو توليه الإمامة، وتولى أئمة الإمامة بدون توفر أي شرط أحياناً، وبتوفر شرط أو شرطين أو سبعة شروط، وأحياناً بنقص شرط واحد، كما أن الإمام كان في كل الحالات يستولى على السلطة بالقوة العسكرية والسيف؛ ولذلك كانت اليمن في حالة حروب دائمة.

أما الفصل الثاني فقد تضمن المحاور التالية: مقدمات الأزمة، انطلاق ثورة الربيع العربي في اليمن، المبادرة الخليجية لاحتواء الأزمة. وقد خلص إلى أن الحل السياسي في اليمن يقوم على التوافق السياسي الوطني اليمني على أجندات سياسية محددة المدى الزمني، والعمل بروح الفريق هامة جدا في ظروف اليمن الحاضرة، كما أن التوافق على خارطة طريق للمرحلة الانتقالية، وحل المليشيات الحزبية والطائفية والقَبَلية المسلحة، وبناء جيش وطني، وإعادة النظر في تطبيق تقسيم الأقاليم للمرحلة النهائية من بناء الدولة اليمنية، حيث إن تطبيقه يتطلب وجود دولة مركزية قوية وقادرة ماليا.

ويؤكد الباحث على أن المبادرة الخليجية وآلياتها المزمنة ما زالت صالحة لأن تكون إطاراً متوافقاً عليه، وقابلاً للتطوير عليه في حل المسألة اليمنية، كما أن قرارات مجلس الأمن المتصلة باليمن كانت توافقية في الأفق الدولي، ويمكن تفعيلها وصولا إلى حل في المسألة اليمنية.