هدايا

سهير آل ابراهيم

قد تكون المبادرة بتقديم الهدايا للآخرين واحدة من أقدم الفعاليات التي مارسها الانسان، اذ يعود تاريخها الى أزمان ما قبل نشوء الحضارات، عصور الانسان البدائي الاول الذي سكن المغارات والكهوف.

اختار الانسان القديم هداياه مما كانت تجود به الطبيعة حوله، ما كان يروق له منها؛ مثل حجر غريب الشكل او ناب حيوان او غصن او جذع شجرة، ويُعتقد ان الهدف من تقديم تلك الهدايا كان للتعبير عن مشاعر الحب والتقدير. ومع تطور الانسان وشروعه بصنع الأدوات، تطورت الهدايا واصبحت تحمل تفاصيلا اكثر؛ على سبيل المثال صار الانسان يحفر ثقوبا في الأحجار التي يلتقطها أو في الأسنان التي يجمعها من الحيوانات التي يصطادها، كي يتمكن من تعليقها في قلائد حول عنقه.

لقد تطور مفهوم الهدايا، او لنقل تغير مع تطور حياة الانسان وتغير طبيعتها وتنوع اساليبها. فلم تعد الهدية في الزمن المعاصر مجرد وسيلة للتعبير عن الحب او عن مشاعر البهجة او الامتنان او غير ذلك من المشاعر الطيبة، وإنما اصبحت في احيان كثيرة صورة من صور النفاق الاجتماعي، او وسيلة للمباهاة، أو ربما لكسب ود الآخرين، وقد يعمد البعض الى تجميل مفهوم الرشوة القبيح بمنحه صفة الهدية!

 طالما استرعى فعل تقديم الهدايا اهتمام الباحثين في مختلف المجالات التي تتعلق بالانسان وسلوكه، فقد دُرس من قبل المختصين بعلم النفس والأنثروبولوجيا وكذلك من قبل الاقتصاديين والمختصين بتسويق البضائع. بينت تلك الدراسات ان تبادل الهدايا مع الآخرين، وان بدا لنا فعلا بسيطا واضحا، الا انه يشكل في الواقع جانبا مهما ومعقدا من جوانب العلاقات الانسانية، يُبين ويحدد احيانا شكل العلاقات بين الناس، ويساعد على تقوية الروابط بين الاصدقاء أو الأقارب أو بين أفراد الاسرة الواحدة. يؤكد المختصون بعلم النفس ان للهدية الكثير من الفوائد الإيجابية من الناحية النفسية، وان مانح الهدية يجني القدر الأكبر من تلك الفوائد قياسا بمتلقيها!

تبين الدكتورة مارجريت روكار، المختصة بعلم نفس المستهلك، والتي تُدرس في واحدة من جامعات كاليفورنيا، ان الرجل يهتم بالقيمة المادية للهدية وبفائدتها من الناحية العملية، سواء أكان هو مانحها او متلقيها، بينما تهتم المرأة بقيمتها المعنوية والعاطفية. وتذكر روكار مثالا حول ذلك عن شاب تسلق شجرة ليلتقط بيضة من عش طائر الروبن ليقدمها هدية لحبيبته، لان لون قشرة البيضة الأزرق يماثل لون عيني الحبيبة! تقول الدكتورة ان معظم النساء اللواتي سمعن تلك الحكاية عبرن عن اعجابهن بمبادرة ذلك الشاب، ووجدن في تلك الهدية قيمة عاطفية كبيرة، على العكس من الرجال الذين اعتقد معظمهم ان تصرف ذلك الشاب كان بمنتهى البلادة، وتساءلوا اذا كانت الطير الام قد افتقدت بيضتها المسروقة!

يتضح الاختلاف في تقديم الهدايا بين الذكور والإناث منذ عمر مبكّر. فقد اجريت دراسة حول ذلك على مجموعة من الاطفال في واحدة من المدارس، تراوحت أعمارهم بين الثلاث والأربع سنوات، تمت دعوتهم جميعا الى حفلة عيد ميلاد أحدهم. وجد الباحثون ان الفتيات ذهبن مع الأهل لشراء الهدية، وكان لهن رأي بانتقائها، كما ساهمن في تغليفها، بينما لم يعلم الصبيان محتوى الهدية التي قدموها، وعند سؤالهم عن سبب عدم معرفتهم كانت الاجابات متقاربة؛ ان الام ذهبت لشرائها، أو انه استسلم للنوم اثناء ذلك.

قد يُبين تبادل الهدايا بعض اضطرابات الشخصية لدى الأفراد المصابين بها، فَلَو اخذنا الشخص النرجسي مثلا، نجد ان الدراسات تبين صعوبة إرضائه وإسعاده بأي هدية، حتى وان كان قد عبر عن رغبته في الحصول على شيء ما، لن يرضيه ذلك الشيء عندما يُقدّم اليه كهدية، بل قد يتهم الشخص الذي قدمها اليه بعدم المبالاة او عدم احترام مشاعره. من الناحية الاخرى، عندما يقدم النرجسي هدية فكأنه يقدمها لنفسه، إذ يختار الهدية التي تروق له بغض النظر عن مدى فائدتها للطرف الآخر، لان تفكيره دائما يتمحور حول ذاته. وقد تكون هداياه التي يمنحها للآخرين غالية الثمن في احيان كثيرة، لان ذلك التصرف يشبع لديه الحاجة للشعور بالقوة والتسلط، فالإنسان العادي يقدم الهدايا بدافع الكرم والمحبة للآخرين، بينما يقدم النرجسي الهدايا مدفوعا بحب الذات والغرور، اذ يحاول من خلالها ان يكون مركز الاهتمام، فيعمد الى ان يتفوق على الاخرين بأن تكون هديته الاغلى بين هداياهم!

يستخدم البعض الهدايا كوسيلة للتقرب من الآخرين بدافع المنفعة والمصلحة الشخصية، ونجد عبر التاريخ الناس وقد التفت حول الثري الذي يجود على الاخرين بعطاياه، فما اكثر الشعراء الذين يحدثنا عنهم التاريخ، والذين كانوا يقطعون المسافات الطويلة بين البلاد سيرًا على الأقدام، او على ظهور الدواب، لغرض الوقوف بين يدي حاكم او خليفة لم يكونوا قد التقوا به سابقا، فيلقوا في مجلسه ما كانت تجود به قرائحهم من مديح له، ويسبغون عليه اجود صفات الكرم والشجاعة وغيرها، حتى وان لم يكن يتحلى بها. لكن ذلك المديح قد يتحول الى هجاء مباشرة ان لم يحصل الشاعر على ما كان يطمح اليه وما يرضيه. ومن الطرائف التي تذكر في هذا الصدد ان أبا نؤاس ذهب لمدح الخليفة آنذاك بقصيدة كان قد ألفها طمعا بما قد يجود به من مال او عطايا، ولكن الخليفة كان منشغلا حينها مع جارية سمراء اسمها خالصة، يتدلى من عنقها عقد مزين بجواهر ثمينةً، فلم يعر الشاعر انتباها، مما اثار حنقه فكتب على باب الخليفة عند خروجه:

لقد ضاع شعري على بابكم   كما ضاع الدر على خالصة

و قد أغضب ذلك البيت خالصة، فأخبرت الخليفة بهدف الانتقام من ابي نؤاس، والذي عالج الامر بذكاء، حيث عاد الى حيث كتب البيت ومحى الجزء السفلي من حرف العين ليحوله الى همزة، فصار البيت؛

لقد ضاء شعري على بابكم  كما ضاء الدر على خالصة

و قد أعجب الخليفة بذكاء أبي نؤاس وقال: هذا شعر قُلعت عيناه فأبصر!

الهدية، كما أراها، موقف جميل يعبر مانحها من خلالها عن مشاركته الفرحة في حدث سعيد طرأ على حياة صديق أو قريب، او للتعبير عن اعتزازه بذلك الشخص او ربما الامتنان له، وقد تكون هناك اسباب اخرى كثيرة تدفع البعض منا الى المبادرة بتقديم هدية الى شخص تكون له في الغالب مكانة طيبة في القلب. ومن المؤسف ان نجد الهدية احيانا وقد تحولت الى واجب اجتماعي يشكل عبئا على كاهل البعض، فلا أجمل من الهدية التي تقدم بمحبة خالصة ورغبة صادقة في مشاركة الآخرين أفراحهم، وبرأيي فان الهدية في هذه الحالة تكون هي الاثمن، بغض النظر عن قيمتها المادية الفعلية.