أنا و أمّي و القرآن

     قد يبدو الحديث عن القرآن غريباً أو باعثاً على الدهشة – في أقلّ تقدير – و بخاصّة إذا جاء على لسان من يأنسُ في نفسه نزعة لادينيّة طبيعيّة و نفوراً شديداً من المؤسّسات الدينيّة – كيفما تلوّنت مرجعياتها -، و يزداد الباعث على التعجّب إذا ماعلمنا أنّ هذا الّلادينيّ هو مسيحيُّ النشأة نما وسط بيئةٍ ترى في المسيحيّة دين الخلاص الأوحد  رغم تسامحها و نزوعها الطبيعيّ للتعايش و المحبّة مع الآخرين، كما ترى في يسوع المسيح مثالاً لايُبارى في النزاهة و المسالمة و الجود بالنفس و القيم الإيثاريّة طبقاً لمقتضيات اللاهوت المسيحيّ الذي يحتكم – كغيره من المنظومات اللاهوتيّة – إلى مجموعةٍ مقفلة من القواعد التي تعدُّ بمثابة ) لاهوت الخلاص ( الفرديّ الذي لاخلاص مرتجى خارج فضائه، و من الطبيعيّ أن تشكّل هذه القواعد  مرجعيّة إقصائيّة لمُخالفيها جرياً على عادة كلّ المنظومات اللاهوتيّة المقفلة التي يَسِمُها الفكر الإقصائيّ و مثال ) الفرقة الناجية ( العتيدة و يدمغها بتوقيعه الباتر. كان الأمر هكذا على الصّعيد الجمعيّ في بلدة ) بعشيقة ( التي ولدتُ فيها  و لم يختلف الأمر كثيراً عندما إنتقلت عائلتي إلى بغداد، أمّا على الصّعيد الفرديَ فتلك حكاية مختلفة تماماً و لا بأس من سرد أجزاء منها.

     لاحظتْ والدتي – بنباهتها المعهودة – في السنوات الأخيرة من عقد الستينات من القرن الفائت – وأنا لمّا أزلْ في سنّ ماقبل المدرسة – ميلي الطاغي إلى سماع التراتيل القرآنيّة و الإنصات  إليها بشغف عظيم مع بداية البثّ التلفزيونيّ في حوالي الساعة السادسة من مساء كلّ يوم : كان إيقاع البرامج التلفزيونيّة آنذاك بطيئاً رتيباً و كان البثّ بأكمله لايمتدّ لأكثر من ستّ ساعاتٍ تبدأ منذ السادسة و حتى الثانية عشرة ليلاً – و أحياناً قبل هذا الموعد – مع نهاية فلم السهرة التقليديّ أو ربّما حلقة يتيمة من مسلسلٍ ما تضاف الى سهرة الفلم العربيّ أيّام الخميس فحسب، و كانت قراءة جدول البرامج في بداية البثّ تقتطعُ أحياناً ربع ساعةٍ من البثّ أو ربّما أكثر !! ؛ لكنْ ظلّت قراءة القرآن هي التقليد الذي تفتتح به برامج التلفزيون كلّ يوم. إعتدت التسلّل عند موعد بثّ القرآن كلّ عصرٍ إلى ) الهول ( حيث يوجد تلفزيون ماركة ) بلوبونت Blaupunkt ( الألمانيّ المحكم الصناعة، و ما أن كانت القراءات القرآنيّة تبدأ حتى كنتُ أغيب في جوّ من النشوة و التحليق في طوافٍ حول الفضاء و أنا أستمع إلى آياتٍ من مثل : ) هو الّذي خلق لكم الليلَ لتسكنوا فيه و النّهار مُبصِرا…. ( للشيخ العظيم محمّد رفعت الذي وُصِف على الدوام بأنّه يرتّل القرآن و كأنّه جالسٌ في حضرة ملائكة !! . أعجِبتُ تلك الأيام أيضاً بسورة النجم : ) أفرأيْتَ الّذي تولّى، و أعطى قليلاً و أكدى، أعنده علمُ الغيب فهو يرى، أوَلمْ يُنبّأْ بما في صحف موسى، و إبراهيم الذي وفّى،،،،،، و إنّا خلقْنا الزّوجين الذّكر و الإنثى، من نطفةٍ إذا تُمنى،،،،،،،،، و أن ليس للإنسان إلّا ماسعى، و أنّ سعيه سوف يُرى، ثمّ يُجزاه الجزاء الأوفى،،،،،،، ( للشيخ عبد الفتّاح الشعشاعي الذي كنتُ أتلذّذُ بغلاظة صوته المتين بخلاف صوت الشيخ أبو العينين شعيشع ذي الطبقة النسائيّة الرهيفة المحبّبة. كنتُ أستمع إلى تلك الألحان الباذخة الجمال و أقرأ في الوقت ذاته معاني المفردات المكتوبة على الصفحة القرآنيّة المرافقة لتلك القراءات و من هنا بدأ عشقي للغة العربيّة و لو أنّ هذا العشق قد طاله لاحقاً تبدّلٌ جوهريّ، و للأسف كانت المدرسة تخرّبُ ماكان يبنيه القرآن من حبّ للمفردة اللغويّة و تقديرٍ لمحمولاتها و قدرة موسيقاها على هزّ مكامن الروح و تطريب النفس و العقل في حين كانت المدرسة تقتل كلّ رغبة في التلذّذ بمذاق الكلمات و تحوّل اللغة إلى محض قواعد غبيّة جامدة لايمكن إجتراح دفاعٍ عنها أو لذّة من ورائها. لا أزال أذكر تلك الإيقاعات الموسيقيّة القرآنيّة و أذكر النشوة المصاحبة لها، و لن أنسى بالتأكيد الشيخ عبد الباسط عبد الصمد وهو يجوّدُ في سورة الحاقّة فيجيدُ أيّما إجادة : )الحاقّة، ماالحاقّة، و ما ادراك ما الحاقّة، كذبت ثمود و عادٌ بالقارعة، فأمّا ثمود فأهلِكوا بالطاغية، و أمّا عادٌ فأهلِكوا بريحٍ صرصرٍ عاتية، سخّرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيّامٍ حسوماً ترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخلٍ خاوية،،،،،،،(، كان الرجل يميل إلى إستعراض قدراته القرائيّة بإستخدام صوته الرّفيع الذي له متانة خيط كتّان و كان رائعاً إلى أبعد تخوم الرّوعة المتصوّرة، لكنّي في كلّ الأحوال كنتُ أفضّلُ شيخ القرّاء محمد رفعت على سواه لسببين : الأوّل أنّ صوته كان يبدو خليطاً ساحراً من أجمل الأصوات التي يمكن أن تجود بها الطبيعة، و ثاني الأسباب أنّ الرجل كان هادئاً لايميل إلى الإستعراض و كسب النقاط على حساب الآخرين، و لازال عشقي لصوته محفوظاً حتى اليوم إلى جانب عشقي لأصوات المقرئين الآخرين، و هنا لابدّ من القول بأنّني لم أحب المدرسة العراقيّة و أقطابها المعروفين في التلاوة القرأنية لانّها كانت أقرب إلى الأداء الملّائي الباكي في حين أنّ المدرسة المصريّة كانت تقرن التجويد القرآني بالشغف و النشوة حتى في بعض المواضع التي تقترن فيها الصورة القرآنيّة بالخوف أو الوعيد أو سواها من الصور السلبيّة.

     أدركت أمّي – كما قلت من قبل – شغفي بالقراءات القرآنيّة، و كانت تحرصُ على أن تدعني وحدي مع التلفزيون لأتلذّذ مع تلك القراءات كمن ينفرد بلقاء عشيقته، و يا ويل من كان يجرؤ على إقتحام خلوتي أو تعكير صفوي الروحي !!! بل ذهب الأمر أبعد من هذا : جاءت لي أمّي أحد الأيّام بنسخة من القرآن رائعة الطباعة و ذات غلاف شديد الأناقة و مخطوط عليها بخطّ ذهبيّ على خلفيّة حمراء، و علمت لاحقاً أنّ أمّي أوصت لي بتلك النسخة القرآنيّة من مكّة بواسطة إحدى صديقاتها الحاجّات حديثاً و التي كانت جارةً لنا، و لكم أن تتصوّروا حجم الدهشة – لا لأنّ أمّي أهدتني نسخة من القرآن، بل لأنّها لم تطلب منّي يوماً أن اصلّي الصلاة الربّانيّة مثلاً و لم تهدِني يوماً نسخة من الإنجيل و هي المؤمنة المسلكيّة التي ماوضعت رأسها على الوسادة لتنام في الليل إلّا بعد أن تردّد ) أبانا الذي……………( عشر مرّات. سلكت المرأة بهدي روحها المضيئة – لابوحي العصبيّة الدينيّة السقيمة – و أرادت أن تسعدني بالقرآن طالما كنت آنسُ إليه و تلك كلّ المسألة و لاشيء غير هذا.

     ظلّ حبّ التلاوات القرآنيّة ملازماً لي حتّى اليوم، و السرُّ في هذا يكمن في الموسيقى القرآنيّة الساحرة التي تزيدها الحناجر الذهبيّة المتمكّنة سحراً فوق سحر. دفعتني تلك القراءات لحفظ الكثير من الآيات القرآنيّة بطريقة سهلة و يسيرة و غاية في البساطة و من غير قسرٍ أو ضغطٍ نفسيّ، و أذكر يوماً عندما كنتُ عسكريّاً في البصرة أيّام الحرب العراقيّة – الإيرانيّة أنّني سمعت أحد الأيّام قراءة قرآنيّة تختلف جوهريّاً عن القراءات السبع التقليديّة المعهودة  في القرآن، كان الوقت فجراً و كان صوت المقرئ ينبعثُ من مكبّر الصوت اللابث في منتصف ساحة العرضات، لم أتمالك نفسي من السؤال عن إسم المقرئ هذا فجاءني الجواب بعد لأيٍ : هو الشيخ عنتر و هو مصريّ الجنسيّة، و منذ ذلك الحين أحببت الشيخ عنتر و أضفت تسجيلاته إلى بكرات التسجيل التي كانت بحوزتي و التي إستبدلتها لاحقاً بالاقراص المدمجة بعد شيوع الثورة المعلوماتيّة التقنيّة في تسعينات القرن الماضي. يبدو الشيخ عنتر صاحب مدرسة غنائيّة في تجويد القرآن ؛ فهو يغنّيه و لا يرتّله، و لكنّ غنائيّته القرآنيّة محكومة بدقّة و صرامة بعيدتين عن الشطط و الإنزلاق في مهاوي التجاوز على القراءة القرآنية و ما تتطلّبه من خشوع.

     لطالما سألني الكثيرون من معارفي و أقربائي : لِمَ لا تحفظُ من الإنجيل – او الكتاب المقدّس بعامّة –  بمقدار عشر معشار ما تحفظ من القرآن ؟ فأجيب على الفور : دعوني أصدقكم القول و بلا مراوغات تلفيقيّة : ليست المادّة الإنجيليّة طيّعة للحفظ إلّا في بعض أجزائها ) مثل موعظة يسوع على الجبل Sermon On The Mount  التي صارت الدستور الأخلاقيّ للمسيحيّة وباتت تجري مجرى الأمثال الراسخة (، و إذا كان الأمر بهذا السوء مع الأسفار الإنجيليّة، فكم بالحريّ سيكون مبلغ السّوء مع الأسفار التوراتيّة ؟ هذا جانب في الموضوع، و الجانب الآخر يمسّ طبيعة القراءة القرآنيّة و الإنجيليّة ؛ إذ لم أشهد أحداً يقرأ الإنجيل بتلذّذ و إجادة بل يبدو الأمر و كأنّه إنجاز لمهمّة وظيفيّة !!. أذكر في زواج أخي الأكبر أنّ المطران راح يقرأ من إنجيل متى ذلك الجزء التقليديّ الذي يُقرأ في العادة عند كلّ مراسيم زواج، وهو من الأجزاء الإنجيليّة القليلة التي أحفظها، لكنّي لم أفهم كلمة واحدة ممّا قالها المطران !! ربّما كان يستعجل إنجاز مهمّته و الحصول على ) مقسومه ( من أتعاب عقد القران !!.

     ثمّة مسألة جوهريّة غاية في الأهميّة و سأحكيها بوضوح كامل :  لم ألتقِ في حياتي كلّها بمن يتلذّذُ بسماع الموسيقى القرآنيّة بمثل ماأفعلُ أنا، و الحقُّ قد إلتقيتُ بالكثيرين ممّن يقرؤون القرآن بطريقة آليّة لايبدو فيها أنّهم يلقون بالاً إلى الموسيقى القرآنيّة تلك، و أظنُّ أنّ من نشأ على التلذّذ بالموسيقى الخالصة و سحرها الطاغي سيلاحقها في كلّ مظانها أينما كانت و بلا عُقدٍ من مخلّفاتٍ دينيّة او آيديولوجيّة بل سيحتكم فيها الضمير إلى الذائقة غير الملوّثة و تأثيرها الساحر في النفوس فحسب، و كم أتمنّى أن يخفّف المسلمون من محض الغلوّ في التركيز على الفقه القرآنيّ و الاحكام الشرعيّة،،، الخ و يولّوا إهتمامهم الأكبر نحو هذه الموسيقى الساحرة، فذاك أجدى و أكثر فائدة للجميع، و لكنّي موقنٌ أنّ هذا الأمر يقع في باب الإستحالة !!!. لِمَ صار الأمر كذلك ؟ تلك واحدةٌ من أوجه مشكلةٍ أكبر بكثير و ربّما كانت ميداناً لكتاباتٍ لاحقة.