قطار

جاد الحاج

ثالثة فجراً. محطة فارغة. رجل يركض بملء ساقيه نحو قطار بدأ يتحرك. في يده حقيبة صغيرة. يدرك الحافلة الأخيرة. يتمسك بمقبض الباب. تنزلق قدمه على درج المقطورة. يثابر ويصعد ويدخل لاهثاً. للوهلة الأولى لا يرى سوى مقاعد فارغة. ثم يلمح في آخر الحافلة امرأة تمشط شعرها. مرآتها زجاج النافذة. يتجه نحوها بلا تردد. المرأة لا تنفعل. لا تلتفت. تكمل تسريح شعرها الاسود الطويل. يركن حقيبته في الرف العلوي. يخلع ترانشكوته. يطويه . يلزه فوق الحقيبة. يرفع قبعته ويضعها فوق الترانشكوت. يجلس في المقعد المواجه للمرأة. المرأة تضع المشط في حقيبة  يدها. تتناول أحمر الشفاه.

– مساء الخير، يقول الرجل كابتاً لهاثه.

– صباح الخير، تصححه بشفة واحدة.

– صحيح. الليل غشاش، ينظر الى ساعة يده.

المرأة تهز رأسها على سبيل المجاملة. يخترق القطار ضواحي مدينة غارقة في النوم. أضواء مصابيح الشوارع برتقالية. أنوار البيوت صفراء، قليلة، متفرقة.

– نيام، يقول الرجل.

تعيد المرأة قلم الحمرة الى حقيبة يدها.

– إنني لا أصدق، يقول الرجل.

المرأة تبتسم علامة إستفهام.

– فعلاً غير معقول، يضيف الرجل.

تلتفت المرأة الى النافذة. تكتم ابتسامتها.

– أعني أنا وأنت وهذا القطار. أراهنك انه يسير بلا سائق، يقول مازحاً.

المرأة تتوتر.

– عذراً، يقول.

– أنا في عطلة، تقول المرأة أخيرا.

– صوتكِ ليس غريباً.

– ماذا تعني؟

– أليف.

– أليف…

– متزوجة؟

– كلا.

– لديك حبيب؟

– لديّ عشاق.

–  ممكن إضافتي الى اللائحة؟

– قلت لك إنني في عطلة.

– هل أنت محترفة؟

– تماماً.

– لا يهم ابداً.

– بل يهم كثيراً، صدقني.

– بالنسبة اليّ. انتِ هنا. الآن. وأنار

– انتَ، ماذا؟

– أشعر أن ما جمعنا…

المرأة تضحك. أسنانها البيضاء غير متساوية تماماً، لكنها ناصعة البياض.

– أنت غير طبيعي.

– أنا طبيعي جداً. إلمسيني.

المرأة تضع راحة يدها على جبينه.

– أنت محرور.

– بالعكس. أنا عصفور. أنا سعيد. نتزوج؟

تضحك.

– تظنينني أمزح؟

– لا، أنت تلعب. أجدك مسلياً.

– رسمياً أطلب يدك. بشرط واحد: في العام الاول لا اريد أطفالاً.

– اعتقدتُ انك فهمت: أنا في عطلة.

– لنتفق على شيء آخرر

– أَلا نعود الى هذا الهراء.

يدخل القطار في نفق طويل. يلفه الظلام. القطار يهتز ويومض. تغيب ملامحهما. يستشف أحمر شفتيها ويسترجع صوتها الاليف. هي تتذكر نحول اصابعه. تحاول أن تحزر مهنته. لكن خبرتها الطويلة لم تكن كافية لتدرك أنه وكيل مستحضرات خاصة بإذابة مسامير الأقدام. يقرع الابواب في المدن والقرى ويعتاد روائح لا يستسيغها حتى أصحابها.  تشعر بعينيه تثقبان العتمة الى عالمها المحتشد بظلال عبرتها وأفلت. تتمنى لو ينتهي النفق. يتمنى لو يطول فهي في العتمة على مسافة شعرة من العناق.  تستمر الرحلة بصمت.  وجهه مغسول ببهجة من يفاجىء نفسه بعد انطواء مديد. من يقول ما لا يقال للمرَة الأولى في حياته. وجهها ساكن كوجه تمثال. كوجه من بدلت وجهها كثيراً حتى أصبحت بلا وجه. كوجه من يسبقها وجهها الى الزاوية عينها كل مساء مليئاً بفوات الأوان. بأنا في عطلةا، تتمتم وتميل كأنها تذوي. تستلقي على طول المقعد. يسقط حذاؤها على أرض القطار. الرجل ينحني. يلم الفردتين. يركنهما جانباً. المرأة تغمغم شاكرة. يقف الرجل. يأتي بترانكشوته. يغطيها. المرأة تحس بحرج. تنكمش محاولة إخفاء قدميها تحت الترانشكوت.

– لا تقلقي. رائحتهما طيبة، يهمس الرجل.

يبزغ القطار من النفق. السماء ملاءة بنفسجية على عتبة الفجر. يمر القطار بولدين في الطريق الى مدرسة. يمر بفلاح يشعل كومة قش. يمر بصيادين يلقون شباكهم. يعبر جسراً فوق مياه خضراء. مخَيم لاجئين. قافلة غجر.

يمخر القطار جبالاً وبحيرات وسهولاً الى ان يختفي في بهاء شروق الشمس.

إنني لا أصدق، تهمس المرأة في منامها.