سرير – لــلشاعر أدهم الدمشقي

نسرين الرجب- لبنان.

 يخترق »أدهم الدمشقي« في كتابه »سرير«، الصادر عن دار نلسن في طبعة حديثة 2018، المألوف والمعروف من نظام الكتابة أو النوع الأدبي من جهة، ومن نظام المجتمع وقوانين الذكورة فيه من جهة ثانية، إنه نص ينفتح على ذكريات وتجارب أثّرت وأثمرت سردا مبدعا في ارتسام تفاصيله، إذ أنّ ما يؤذي يعيش في الداخل، وينعق في الخاطر ليُكدِّر البال، ويُثبط أيّة محاولة لفهم هذا الآني القديم في نزعاته، الراغب بالتطهُّر والخلاص.

لا أريد أن أصير أبا

 تُشكل الأبوّة عامل قلق في حياة الشخصيات، وقد ترابطت في مواقف عديدة مع مفردة سرير، التي إضافة إلى كونها عنوانا، هي علامة دالة حاضرة في أكثر المشاهد تأثيرا، لتكون أثاثا ضمن مشهد وصفيٍّ نفسي:

 »الغرفة فارغة إلا من سرير ومنا..« راوٍ يتحدّث بأنا الكاتب كشخصيّة حاضرة وداخلة في زمن الحكي، تتشارك مع شخصيّة اسمها »رمانة«، في وضع جنسي يوضح حالة لا إنسجام وتداعي أفكار، ناتجة عن خوف من أن يصير أبا: »ودَبيبٌ يعجُّ في رأسي / لا أريدُ أن أصيرَ أبا«

وفي مشهد آخر ظهرت جثّة الأب مُلقاة على السرير، في مشهد حيادي، صامت: »وجثة بييي الساكتة عالتخت«، وفي مشهد كان السرير فيها جزءا من تجربة تحرشٍ قاسيّة: »نمت عالتخت جامد../ دايما كنت إجمد متل ما كان جامد بيي عالتخت/ لما مات«.

 هناك رابط يجمع بين الجمود كصفة متلازمة مع وضعيّة السرير، والأبوّة التي شكّلت عامل قلق واضطراب في حياة الشخصيّات هنا، شخصيّة رمانة التي افتتحت مسار الحكي : »لا أعرف لما فتحت لي رمانة ذاكرتها«، لتحكي عن علاقة مضطربة بالأب وغير متوازنة، هي لا تعرف عنه سوى بكاءه على الهاتف: »كل ما أعرفه عن أبي بكاؤه في الهاتف، وما حكته لي جدتي عنه«، ولا تفهم سوى أنّه يُلهيها عن اللعب، إذ لا وجود لعاطفة ما تجاهه: »قاطعني عن اللعب ليُسمعني بكاءه المُمِل«.

والأبوّة في صوت الراوي تمثّل العنف:

 »… إمّي عم تْوَلِّع الصوبيا / هجم ومِسِكا مِن شَعْرا«

الفقد، ونقمة ما بعد الفقد حيث تلاحقه صفات الأب، والتي يتوجّب عليه العمل لنفيِها عنه.

سرير شاهد على كل حالات الانسان، وهو يلقى عليه سواء ألقاه الموت أو الرغبة أو التسلط الفوقي، كجزء من مشهد لا بد منه، هو أكثر من مجرد أثاث هو الشاهد، يتآلف مع الحدث يشهد كل الخيبات والأزمات، ولحظات الاستسلام للمصير، والهروب من الجسد إلى الحلم أو اللاوعي.

سردٌ على الطريقة الشعريَّة

 الكتاب هو سردٌ كثيف على الطريقة الشعريّة، يُقارب عدَدُ صفحاته الأربع وثمانون صفحة، تتلاحق المشاهد فيه كصُوَر تتداعى من الذاكرة، يمكن إدراجه ضمن أدب الاعتراف، فيه إشارات واضحة الدلالة عن ملامح لسيرة ذاتيّة شخصيّة: »عم بكتُب عن تحرش جِنسي- تعرضتِلّو لمّا كان عمري12 سنة« .

تؤدي كثافة المعاني التي تُحيل على صُوِر فنيّة بليغة حالة شعريّة خالصة، كقوله: »تكاثرت الأصوات في أذني/ عيونُهم من كلّ صوبٍ تنبحُني«، يزخر الكتاب بأشكال بلاغيّة على مستوى الاستعارة والتشبيه: » ليت لي فما طويلا مثل ذئب«، » أريد أن أنام / كطفل / أتعبه البكاء…«.

 لا يمكن قراءتها على حياد بل تبعث على التأمل والغياب في الفكرة، ويفيض بكنايات ورموز ذات دلالات عميقة منها يقول في مقطع:

»أُلقي نُطفي في ثقوب حمر وأتوه…«!!

ويقول في مقطع آخر:

» تنتابني الصحراء/ وقلبي البدوي / يهيم في ليل المدينة«.

 تحمل هذه الجمل الشعريّة جدّا، على قسوة التصوير، دلالة الاستهانة بالجسد وعدم الشعور بالألفة والإنسجام، فهي أي المرأة تتماهى مع صورة الغريب فتغدو غريبة لا تمس القلب، هذا الثقب هو دلالة الفراغ الشاسع، إنه ثقب في الروح، الجسد تائه وغير مُشبع، يكتسب عادات البداوة يتصحر ويرتحل عن محبيه فلا يستقر في علاقة حب.

هذه الأشكال البلاغيّة تمارس الإنزياح ببراعة حاذقة يُزيحها المؤلف عن مقصديتها المباشرة إلى دلالة أبعد من السردية الواضحة التي تتوالى في سياق يحمل فكرة الخذلان :

»… أحببت بصمت/ أحببت من فرّوا/ من الشبابيك كالخفافيش فرّوا/ لأن لي ضوءين، عينين/ أرى بهما الضوء والحجاب«

أضفى تكرار بعض الجمل التعبيريّة كلازمات شعرية، إيقاعا خاصا يشبه الموسيقى التصويريّة في الأفلام:

»خانني الأصدقاء فاقتربي«، »حدا يقول للأرض توقف بدي إنزل«، »صيصان صيصان… لعب معلقة عالحيطا«، »هلق سافر ما رح يرجع بقا«

وكأنّها رجع الصدى، والنقيق الذي يؤجّج الذكريات البعيدة والحزينة، مع ما تحمله من عمق موسيقي، يُدوزن نَفَس الكتابة وهي تلهث في صدر الدمشقيّ، لتخرُج إلى الملأ مُعلنة انتحابها.

أمّا القصْ فقد تمثّل في السرد المُكثّف، وحضور شخصيات كثيرة: )الأنا الحاضرة في كل مراحلها، الأم، الأب، الأختين، والجد، والرجل البعيد القرابة الذي لا اسم له، رمانة، العمّة، ..( لم يكُن الحديث عن هذه الشخصيات مُتوازيا، فحضور بعضها تمثّل في موقف أو جمل عابرة، فلكل منهم حضوره المُختلف باختلاف التجربة المُثارة، الكاتب يكتُب بوعي مُدرك لكُل التفاصيل، يدع نفسه للكتابة فتتحرك وتيرة السرد في مشاهد مكثّفة: مشهد الأب الذي يضرب الأم، مشهد العمة، مشهد الرجل العجوز في دار المسنين، مشهد حادث السير الذي أودى بحياة صديقه، مشهد فقدانه للوعي وهو ممدد على السرير، وغيرها من المشاهد.

حدّد المؤلف الزمن من خلال سنوات عمره التالية )8، 9، 10، 12، 17( وحتى الرجل البالغ، فينتقل عبر عملية الإسترجاع بين مرحلتين عمريتين، أدهم الرجل البالغ وما يحمله من ثقل ورؤيا ضبابية لـــ الله والحب، والجسد والطفل الذي يكبر متنقلا من مرحلة الكمون وبدء البلوغ حتى البلوغ، يسرد ما عنده من تجارب ترتبط بالجنس والموت، والواقع السيء، زمن السرد أقل من زمن الحكاية فهو يُغيّب الكثير من التفاصيل ويعمد إلى حذفها تاركا الإحالة على بياض المشهد الذي يستفز خيال المُتلقي ويدفعه لتصوّر أبعاد ما تكتنفه الأسطر السرديّة القليلة، »ملأ الصمتُ فمي..«.

أمّا المكان فهو، أيضا، متنوّع ومُتنقل بين الضيعة والغابة، إلى الأبنية، والنُزل الشعبي، والمدرسة ودار المسنين. هذا التنقُل يدُل على تشتت وعي المؤلف، وسرعة تذبذب حركة الذاكرة، ولكن التركيز على مكان مُعين هو الغرفة الإسمنتيّة في الغابة وتعمُد وصف ما يُحيط بها: )الكلب الجربان، الباب الأسود الذي شبهه بباب المقبرة، الزواريب والطرقات المؤديّة إليها(، هذا الوصف التدقيقي يحمل دلالة التوتر وما يحمله المكان من ذكريات كريهة.

التبئير هنا داخلي، المؤلف هو شخصيّة فاعلة في النص، يعبّر عن رؤية خاصة، فلا يُقدم تفسيرات، ويستخدم ضمير المُتكلم ليحكي عن أشياء تخصه، وضمير الغائب أو الغائبة عندما يتحدث عن آخر سواه، فيغلب استخدامه للحوار الداخلي، حيث تتحول الشخصيّة إلى بؤرة يرى المتلقي المشاهد والأحداث من خلالها.

إذا، يجمع المؤلّف في كتابه بين نوعيْ الشعر والقصة، قد يُصنف قصّة بلغة شعريّة، تتنوع بين الفصحى والعامية لغة المحكي اليومي، لغة الإنفعال الفطري الصادق، هذا المزج يُغني المُحتوى، ويُعزز التفاعل بين المتلقي والنص المروي، فينفتح على موضوعات متنوعة.

التمرّد على المجتمع الأبويّ الذكوري

يُعلن المؤلف تمرّده على قيَم الذكورة، الطفل الشاهد على عنف وقسوة الأب ذو الطباع العكِرة، الذي يمارس تسلطه وقهره على الأم، العنف الجسدي الذي تُمثله الذكورة ضربا وانتهاكا، هو دليل على حجم الجهل واللاوعي الذي يُسطّر حياة أب، وأم ضعيفة ومستكينة، تمنآها الابن لو التفتت إلى نفسها يوما واهتمت بأنوثتها : » كان عبالي مرة وحدي شوفك واقفة عالمراية عم تحطي حمرا…«.

موت الأب شكّل نهاية للعنف على الأم، وافتتح بداية فرض قيم الذكورة على الطفل الصغير المتعطّش للّعب، هذا المجتمع الذي يفرض على طفل في الثالثة عشر العمل أوقات العطل في دار للعجزة ومساعدة طبيب في تحنيط جثة ميت، هو نفسه الذي يصم أذنيه عن إدراك ما سببه الرجُل المُغتصب من شرخ نفسي وجسدي عميق جراء علاقة حيوانيّة أُرغم الطفل على الدخول فيها »علاقة حيوانية في الخرب المهجورة«.

فهو الصبيّ الوحيد في العائلة، فُرضت عليه الرجولة بعد موت الأب »رجال البيت«، كيف له أن يفضح تسلط الرجل الغريب عليه، وقهره جنسيا؟!! ففي حين كان يرفض الذهاب معه كانت الأم تدفعه عن جهل بما يحدث لابنها للذهاب، وتعيّره بالكسل »قليل الخصية«، فيجد نفسه مرغما على الذهاب، يصارع عقدة الشعور بالذنب كونه كان مستسلما وربما خائفا من كونه مستمتعا أثناء العلاقة، فهل تماهى الطفل فيه مع صورة الأم التي كانت تستسلم لعنف الزوج؟؟

لكل شاعر رؤياه الخاصة التي ينطلق منها ليحيك تصوراته عن العالم، وفي »سرير« رؤيا ضبابيّة، منشؤها التجربة السلبيّة التي يعرض لها الدمشقيّ في مؤلّفِه، غضبٌ وحزنٌ كثيف، وعلاقة مُشوّشة مع الواقع : »ما دام الأرض بتبرم/ تعوا ناكل بعض تنخلص بسرعة«.

 رغبةٌ في الخلاص والإنتهاء، نقمةٌ على الموت الذي أخذ الأب والصديق الوحيد »و رفيقي الوحيد عم يقطع الطريق صوبي/ خبصو كميون قدام عيني« وسخريّة من هذا الواقع الذي يدفع إلى الإنتحار فيما لو تعامل المرء معه بواقعيّة:

»خلص بكرا بس صير واقعي / رح إنتحر«

يجيب متسولّة تدعو عليه بعقاب الله، فيرد عليها »وأنا كمان رح حاسبو لمن نلتقي..«، يسأل الطفل أمه عن الله فتجيبه أنه في السماء يراه وكذلك جوابها عند سؤاله عن موت أبيه، فيستنتج أنّه يتيم الأبوين، لا يجد المؤلف أثرا لأحدهما في حياته: »بحثت عنهما كثيرا ولكثرة ما تعبت تناسيتهما«، العلاقة مع الله مضطربة، لأن كثافة الحزن يمنع الروح أن تدرك ما خلف كل هذا الأسى، فالذاكرة مثقلة بوجع عميق ومُتعب هذا البوح، ومربك حتى يعتقد أنّه لم يحن موعد ما يريد قوله بعد!!

»ليت لي فما طويلا مثل ذئب/ لأمد في الصحراء عويلي« الرغبة في العويل تحمل دلالة الجرح العميق، والحاجة لإطلاق كل هذا الصراخ في الصحراء حيث لا صدى يُرجع الصوت، يبدو أنّ المؤلف ما زال يعيش مأساته وهو عبر الكتابة يكشف عنها ويتطهر من رجسها.

 »يؤلمني هذا الوعيُ/ هذا الحنينُ/ هذا التذكّر والخيبَة«!!

 إن صدق التجربة يُعبّر عنها المؤلف من خلال هذه الإنفعاليّة التي يحياها في نصّه، انفعاليّة تتراوح بين السردي والشعري، بين المحكي والفصيح، بين الأمس واليوم، هذا التنقل يُفصح عن ضجيج يخرج من الذاكرة ويلصتق بالورق.

 لقد آن للذاكرة أن تغتسل من عبء الماضي، فالغريب »ما بقا يرجع«. ولكن الروح ما زالت تهجس وتُصارع في الآني، فيعمد المؤلف إلى إثارة فضول وحماس المتلقّي إلى أن هناك لا مقول أكثر وجوبا بالاعتراف ولكن لم يحِن حينه: » يمكن ما إجا الوقت يلّي لازم قول فيه يلّي بدي قوله«.

 على ما يحويه هذا الكتاب من خمائر سرديّة بالغة الأثر، يمكن لها أن تنضج في مساحة روائيّة أكثر تفصيلا واكتِمالا.