الاعلام العراقي من الشمولي إلى الطائفي

د.ماجد السامرائي

ليس الاعلام بمعناه الاجتماعي هو تلك الرسائل المجردة المبثوثة من وسائله التقنية التقليدية أو الرقمية الحديثة في المعلومات والأخبار حسب  وإنما هو رمز للتواصل الانساني من أجل أهداف سامية أخلاقية وسياسية واجتماعية واقتصادية . في الاعلام العراقي امتزج مفهومان تقليديان في المضامين  الأول إعلام شمولي طرفاه الدولة والنظام السياسي من جهة والجمهور من جهة ثانية . والثاني الاعلام الحر الذي إنفتحت أبوابه بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وتحول فيما بعد إلى إعلام طائفي إلا ما ندر . الاعلام الشمولي امتد عمره مع عمر الدولة العراقية 1921 – 2003 برزت أكثر خصائصه وضوحا خلال الخمس وثلاثين سنة الأخيرة تحت حكم حزب آديولوجي هو حزب البعث  حمل وفق نظريته رسالة إلى الشعب العراقي ذات أهداف للتغيير الاجتماعي والقومي  واستخدم الوسائل التقليدية في الاعلام )إذاعة وتلفزيون وصحافة( قبل وصول ثورة الاتصالات إلى هذا البلد . كانت سمة الاعلام الشمولي هي الالتزام الصارم بالتوجيهات المركزية من رأس النظام  ومنع مُطلق لأي صوت إعلامي خارج تلك التوجيهات . كان على الاعلام أن يدير وينفذ مهمات التعبئة الجماهيرية للمعارك السياسية والعسكرية التي رافقت الحكم السابق منذ عام 1968 وحتى 2003 عبر الصورة في القناتين الوحيدتين )السابعة والتاسعة( وإذاعتي بغداد وصوت الجماهير والصحف المركزية )الجمهورية والثورة والعراق( ومجلة ألف باء . وكجزء من التعبئة الشعبية كان على المسؤول الاعلامي القيام بدور الحارس والوسيط لتلك التوجيهات  واذا أخّل بواحدة منها فمصيره العزل . وكان للمعارضة العراقية في الخارج وسائلها الاعلامية وهي أقرب من المنشورات إلى الصحافة . وحدث انفجار الصدمة في العراق عام 2003  حيث انفتحت أبوابه لتدفق اعلامي فوضوي ساهمت فيه الجهات الأمريكية والايرانية كل حسب مصالحه واستراتيجياته فالأمريكان إدعو تقديم الحرية والديمقراطية لشعب العراق فأسسوا ودعموا بالمال القنوات الفضائية وسلموها لبعض المتدربين على الاعلام من معارضي النظام السابق .والإيرانيون حملوا بذور التفرقة الطائفية وزرعوا في بغداد والمحافظات الجنوبية عددا من الفضائيات والاذاعات الطائفية والصحف والمنتديات الدعوية .

لقد ألغى الحاكم الأمريكي )بريمر( وزارة الاعلام وتم تسريح آلاف الموظفين من الاعلاميين والصحفيين والفنيين  وأسس )شبكة الاعلام العراقي( التي أصبحت فيما بعد تابعة للحكومة وهي التي أشرفت على ثلاث فضائيات عراقية ومن بينها )قناة الفضائية العراقية( وصحيفة )الصباح( وباتت لكل وزارة في الحكومة قناة فضائية . وأصبحت الأكثر انتشاراً وسائل الاعلام الدينية والطائفية وهي القنوات الفضائية والمحطات الاذاعية والصحف التي يمولها مراجع الدين أو التجمعات والطوائف الدينية وهذه القنوات أصبحت هي الأخطر من حيث تأجيج الصراع الطائفي وبث التطرف الديني بين الناس  إلى جانب القنوات والإذاعات الممولة من طهران مباشرة .وأعيدت فكرة الاعلام الحكومي الرسمي مثلما كانت عليه وزارة الاعلام قبل عام 2003  وحاولت سلطة الاحتلال تنظيم العمل الاعلامي عن طريق تشريع القوانين لكن سمتها كانت الفوضى حيث سمح في المرحلة الأولى لأي من كان إصدار صحيفة دون الحاجة إلى ترخيص  وانتشرت الاذاعات في كل مكان . وأنشئت نقابة الصحفيين التي ألزمت جميع الصحفيين والعاملين في الحقل الاعلامي الانتماء اليها . ورغم إن الدستور قد ضمن للصحفي والاعلامي حرية الكلمة والبحث عن الأخبار والمعلومات  لكن المناخ السياسي المضطرب  قد وضع الصحفي أمام فوهة نار القتل أو الاعتقال أو التغييب  فقد جرت عمليات اختطاف وقتل مُمنهج ضد الصحفيين العراقيين من قبل الميليشيات، والسبب كتابة رأي أو مقال أو منشور معين على مواقع التواصل الاجتماعي  وتم قبل أشهر اختطاف احدى الصحفيات بسبب منشور نشرته في مواقع التواصل الاجتماعي انتقدت فيه الأجهزة الأمنية واستهتار حملة السلاح في المدارس  وتم اختطافها كما أصبح الصحفي العامل في العراق ضحية النزاعات الطائفية  وقد قتلت الصحفية العراقية )أطوار بهجت( خلال انفجار الحرب الطائفية في 22-6-2006  كما قتل وخطف المئات من الصحفيين . وقد صنفت لجنة حماية الصحفيين الدولية العراق في تقريرها الذي أصدرته نهاية العام الماضي بأن العراق ثاني أخطر دولة على الصحفيين. وعلى الجانب المهني أظهرت دراسة صحفية نشرها مركز الحريات الصحفية في العراق عام 2016 أن الاهتمام بالمعايير الصحفية لا يزال هو الميزة المفقودة الأهم، وأن الغموض في مصادر التمويل المالي يتنافى مع استقلالية العمل الصحفي ويقلل فرص النجاح الإعلامي وتشير الدراسة إلى أن أكثر من 50 مؤسسة إعلامية محلية مجهولة التمويل بينها محطات تلفازية وإذاعية وإصدارات مطبوعة بشكل يومي ومواقع إخبارية إلكترونية، فضلاً عن وجود قرابة 70 مؤسسة إعلامية محلية أخرى تتلقى دعماً فنياً ومالياً من حركات سياسية وأحزاب عراقية وجهات إقليمية بشكل سري مقابل فرض توجهات معينة على سياسية المؤسسة الإعلامية . وأقتصر الاعلام المستقل في السنوات الأولى من العهد الجديد على بعض الصحف وعدد من الاذاعات في بغداد والمحافظات التي أصدرها صحفيون او شركات اعلامية، وأغلب التجارب من هذا النوع فشلت في الاستمرار بسبب عدم حصولها على التمويل والخسائر الفادحة للناشرين، اذ كان أمام مالكي الصحف خيارين الأول غلق الصحيفة وتسريح العاملين، والثاني هو بيعها إلى أحد الاحزاب او الاتفاق المبطن مع رئيس الحزب بأن يبقى ظاهرها مستقل وهي في الحقيقة تتبع أحد الاحزاب او السياسيين أو دولة خارجية ويتم استخدامها في الترويج أو مهاجمة الطرف الاخر . لم تتح الفرص أمام الاعلام المستقل لأن ينمو ويتطور تماهياً مع المنهج الديمقراطي المفترض بسبب طغيان المد الطائفي السياسي  والفوضى في جميع ميادين الحياة . لقد ألقى التطرف والكراهية بظلالهما على الشأن الإعلامي العراقي، وقد خلق ذلك نوعاً من الطائفية البغيضة التي جاءت متذرعة بالمُقدّس تستوطن العقول وتوغل من إنتاج أنساق مختلفة من التحزب السياسي والطائفي والمذهبي الذي ألحق ويلحق أفدح الأذى بوحدة التاريخ والمصير العراقي، وكانت التغطية الإعلامية المتواصلة للأنشطة المتطرفة وعرض مواقف أصحابها قد عززا الاستخدام المتداول لأساليب العنف والاغتيال، وسهّل على الحركات المتطرفة تمرير خطاباتها وتنظيم شبكاتها ودعم وسائلها مستفيدة في ذلك من قيم الغرب في حرية الرأي. لقد أصبح الإعلام الحر في العراق سفينة ضائعة في بحر العراق المتلاطم بالانهيار الأمني والتوتر السياسي والطائفي، وابتعد عن مسيرته الرامية إلى تحقيق النضج المهني والأخلاقي في فعالياته، ولعل من أسوأ مظاهر الاعلام ما بعد عام 2003 سيطرة الجهلة والمتخلفين على مرافق الأجهزة الاعلامية  وتكفي التزكية من هذا الحزب أو ذاك ليتحول مبتدئون إلى نجوم في الفضائيات سواء كمقدمي برامج أو ما يسمون بالمحللين السياسيين . وهذا الإعلام الذي يعيش في مأزقه الراهن يثير شكوك العالم الخارجي المعني بمراقبة مسيرة الديمقراطية الناشئة في العراق، خصوصاً أميركا التي تعتقد وتسوّق دعوات كونها أودعت في العراق معايير وقواعد سليمة توفر لشعبه قدراً كافياً من النمو والتطور الديمقراطي الحر، وليس الانكفاء إلى مراحل إعلام الحزب الواحد والنظام السياسي الواحد.فشمولية الاعلام تجددت في العراق عن طريق هيمنة الأحزاب الطائفية  لقد وقع العراق أسير نمطين من الاعلام »الشمولي والطائفي« وما زالت الطريق طويلة ليتم بناء إعلام حر حقيقي في العراق .