بعد عقدٍ كاملٍ… محمود درويش مدويّ الحضور في  حضرة الغياب

سناء بزيع

أقامت الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم  MUBS حفل لاطلاق كرسيّ محمود درويش للأدب والشعر وذلك بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيل شاعر  »الجدارية« الملحميّة. تم الإعلان  عنه في حفل أقيم في قصر الأونيسكو يوم الجمعة 10\8\2018 برعاية وحضور وزير الثقافة غطاس خوري الذي كانت له كلمة إلى جانب السفير الفلسطيني أشرف دبور نائب رئيس مجلس الوزراء الفلسطيني زياد أبو عمرو رئيس مجلس أمناء جامعة MUBS أمين عام اتحاد الكتّاب اللبنانيين وجيه فانوس والشاعر شوقي بزيع بالاضافة الى وصلة غنائية قدمتها المغنية سمر كموج. وعلى جانب منه عدة عمل الرسام التشكيلي برنارد رنو، الذي طوال مدة الاحتفال كان يرسم مباشرة لوحة للراحل كما قدمت فرقة الكوفية للفنون الشعبية الفلسطينية، عرضا راقصا على موسيقى وكلام لدرويش.

وقد يحاجج امرؤ أن موت محمود درويش لم يكن سوى قفزة أخرى له على نسيج الكون في حياته المليئة بالقفزات والتحولات المفصلية. وربما لم يكن الموتُ القفزة الأقسى في مسيرة درويش. فالشاعر قد هزم الموت بعد أن عرف دواءه الذي استطاع أن يركّبه قصيدةً قصيدةً ليعلن أن  »هزمتكَ يا موتُ الفنون جميعها«.

 إن القساوة في حياة درويش متجددة أو لنقل مستدامة باستدامة النكبة الفلسطينية التي لم تكن حدثا في التاريخ وقع قبل سبعين عاما من الآن وانتهى. إنما كانت استمرارا متجددا بالمآسي والنكبات.

محمود درويش الذي اقتُلع مع شعبه من أرضه على يد العصبات الصهيونية الإرهابية عام 1948 ثم كما الكثيرين من أبنائه عادوا وتسللوا كالجداول إلى فلسطين-البحر. ثم قفزات عديدة المنفى مرة أخرى ثم النكسة ثم بيروت. بيروت التي عن أيام حصارها الطويل والقاسي يقول

جانب من الحضور

درويش:  »وحدي أدافع عن جدارٍ ليس لي وحدي أدافع عن هواءٍ ليس لي«. ولكن ردّا لا بدّ منه هنا على درويش أشبه بتصويب لقوله هذا. فدرويش مع المقاومة الفلسطينية التي دافعت عن بيروت بوجه الاجتياح الاسرائيلي الهمجي عام 1982 اكتسبوا بلا ريبٍ أحقيّة الانتساب لتاريخ المدينة بعد أن انتسبت المدينةُ لنضالهم ودمائهم.

ومن هنا فإن احتفاء بيروت بمحمود درويش لا يمكن وضعه في مجرد سياق أكاديمي أو ثقافي موضوعيّ بارد. هو ليس احتفاء المدن بالشعراء فقبل أن يكون لمحمود درويش كرسيّ للأدب والثقافة في جامعة في بيروت كان قد اقتعد هو مجدَ هذه المدينة وافترش قلبها. يأتي هذا الاحتفاء كتأكيد على توحّدالمدينة مع  »شاعرها بالتبنّي«.

كذلك فقد مارس درويش في ميدانه الشعري هواية القفز النوعي. فهو من أولى قصائده التي غذّت شعارات المقاومة الفلسطينية. غير أن درويش لم يستسلم لهتاف الجماهير وتصفيقها بل انبرى يجترح مسالك جديدة لتتكشّف له الحجب على طريق الشعر. هو القفز على أرخبيل شعريّ متباعد الجزر مارسه درويش منذ  »سجّل أنا عربي« إلى  »جدارية« وحتى انغماسه والتماهي مع شركائه في نُدبة الخنجر أي سكان أميركا الأصليين الذين كذلك عانوا من الإبادة الجماعية وشتى أساليب الاستعمار وكأن هذا التمرين الذي مارسه درويش ما هو إلا نظر في مرآة نكبة شعبه.

يأتي الإعلان عن كرسي باسم محمود درويش كمحاولة للاستدراك والتفاتة لبيروت ولنا جميعا والعالم من حولنا يسناب مرتاح الضمير صوب الاستسلام لوحشيّة الجلّاد. هي شهقة التذكّر. ليست شهقة الرجوع إلى محمود درويش بل استرجاعه إلى زمننا. ليس هذا هذا التذكّر إزاحة للغبار عن قبر محمود درويش وتذكره بل دعوة له لينفخ في رحمنا واستسقاء لشعره في زمن يأخذ فيه شعر محمود درويش شكل مفتاح لأقفال عديدة.

قدّمت الشاعرة لوركا سيبيتي الحفل  شكرت كل من ينير قناديل الظلام الدامس وكل من يساهم بنشر الوعي من اي منبر، ورحّبت بأعضاء لجنة كرسي محمود درويش،

وقد تركّزت كلمات المتحدثين على الاحتفاء بالشاعر الذي ما يزال بعد عقد كامل على غيابه مدوّيّ الحضور.

 تحدث وزير الثقافة د غطاس خوري قائلاً:  »نجمةَ فلسطينَ والعرب… والمستمرّ في إضاءَتِه كلِّ كلمةٍ، ونغمةٍ، ولونٍ وطنيّ…، فنحن نقفُ فعلاً بكلِّ محبةٍ واحترامٍ وإجلال. هذا الكبير الذي تحتفلُ جامعةً لبنانية بإطلاقِ كرسيٍّ باسمِه، للأدبِ والشعر، بإدارةِ نخبةٍ من المبدعينَ الأعلام، نريدُه، كما تريدُه هي، قدوةً للوطنية، للعروبة، للنضال…. فالجامعة ليست فقط للتعليم،  بل للتربية، وللتنشئة الوطنية، ولتعميقِ المعرفةِ ونشرِها، فليست جودةَ التعليمِ العالي هي المطلوبة فقط، بل جودةَ مثلِ هذا العملِ نوعاً وقيمةً. وفي هذا فلتتنافس الجامعات.

ألم يُـنشدْ محمود درويش:

 »أرضُنا ليست بعاقر

لها ميلادُها

وكل فجرٍ له موعدٌ ثائر«

نعم، نحن ننتظرُ مَن يسير على خطى محمود درويش، في الصمود، في الثورة على الكسل، والفساد، والانهزام، وفي محبةِ الغدِ الأفضل للإنسانِ العربيّ، وللوطنِ العربيِّ الكبير، هذا الوطن الذي كانَ في شعرِه كلِّه،  »القضية«، عاشَ وماتَ دونَها، ألم يقل :  »الوطنُ ليس سؤالاً تجيبُ عليهِ وتمضي، إنه حياتُك وقضيتُك معاً«، وقد طبّق قولَه تماماً في كلِّ حياته«

كلمة دولة فلسطين ألقاها السفير د أشرف دبور  شكر وزير الثقافة على رعايته والجامعة الحديثة للإدارة والعلوم على المبادرة التي تعكس الوفاء لمحمود درويش ،  »هذا الصوت الهادر بالثورة على الظلم والإحتلال لفلسطين… كم تليق بك فلسطين، أم البدايات وام النهايات، كانت تسمى فلسطين، وصارت تسمى فلسطين، وكم تليق بك بيروت، خيمتنا ونجمتنا، وهي تكرمك في العقد الأول لرحيلك بل وتخلدك حضوراً وإرثاً ثقافياً في ذاكرتها«.

كلمة كرسي محمود درويش ألقاها أمين عام إتحاد الكتاب اللبناني ، د وجيه فانوس مؤكدا على العلاقة العضوية بين  هذه الجامعة وبين العلم والثقافة من خلال تقديمها  كرسياً أكاديمياً للشاعر محمود درويش في جامعة تسعى إلى تخصص علمي لطلابها في مجالات الإدارة والعلوم ، وهذه العلاقة الممارسة ومن منظار أكاديمي مسؤول ، تؤكد ان العلم بلا ثقافة تؤازره ، هو علم ضعيف في آفاقه الإنسانية ، كما أن الثقافة ، من دون علم يعضدها ، هي ثقافة مائعة في وجودها  الإنساني الفاعل..

كلمة مؤسسة محمود درويش ألقاها نائب رئيس مجلس الوزراء أ د زياد أبو عمروالذي أشار أن هذا القرار من قبل مؤسسة أكاديمية لبنانية بإطلاق كرسي الشاعر محمود درويش للأدب والشعر له وقع خاص ومميز ، حيث أن لبنان وشعبه له مكانة خاصة لدى درويش ولدى الشعب الفلسطيني ، وما الإحتفال بذكرى مرور عشر سنوات على رحيله إلا ودلالة واضحة عن المكانة التي إستحقها في فضاء الثقافة العربية والإنسانية.

ثم القى الشاعر شوقي بزيع كلمة نذكر منها   »لكأن شعره لا يتلهف بالتشويق بل بالآهات، يأتي اليه الاطفال ليكبروا بظلاله والفقراء ليهتفوا معه نحن نحب الورد ولكننا نحب القمح اكثر، عاش في هذه الدنيا وكأنه ضيفا عليها، لبنان وفلسطين في تزاوج وكأنهما شطران لبيت شعر واحد«. واضاف  »حيث كتب محمود أخيراً في قصيدته الوصية« وضعوا على التابوت سبع سنابل خضراء إن وجدت وبعض شقائق النعمان إن وجدت  » ، لم يكن  الإيقاع وحده هو الذي أملى عليه ذلك الإستدراك الأخير في نهاية الجملة بل لأنه كان يحدس بموته في قيظ آب ، حيث لا سبيل للسنابل إلى الإخضرار وللشقائق إلى التفتح ،وربما كان يحدس في الوقت ذاته بأن الربيع العربي الذي مهد له بشعره سوف يتم إخلاؤه من البراعم والأحلام ليصبح مساحة لنفايات الثورات وخردة الشعارات العجفاء ، وليتحول  إلى ساحة المواجهة الضارية بين سياط الجنرالات وسواطير الانبياء الكذبة ، ومع ذلك فإن الجغرافيا التي نعرفها ليست دائماً على حق ، فحيث تنخفض الجبال إلر أدنر مستوياتها ، يتكفَل الشعر بتصحيح المشهد ، حتى ليسأل أحدنا قائلاً  »ماهي القمة الأكثر إرتفاعاً في بلاد العرب ؟« فيجيبه الآخر دون تردد :  »قبر محمود درويش«.