جلسة مع رئيس جمهورية مالطا

شباك مفتوح

رؤوف قبيسي

ما زلت أذكر حواراً بيني مع  رئيس جمهورية مالطا السابق أوغو بونيتشي. كانت جلسة بعيدة عن السياسة، وكانت في قصر الرئاسة التاريخي في العاصمة فاليتا. حين دخلت عليه بادرني السلام بالعربية وقال »أهلا وسهلاً«.  وحين علم أنني من لبنان، بدأ يتحدث وكأنه يستقبل ضيفاً يعرفه منذ ثلاثة آلاف سنة وقال: »أجدادكم القرطاجيون والفينيقيون كانو أول من حط الرحال في هذه الجزر، وفي وجداننا الشيء الكثير من بلادكم«. حين سألته ما إذا كان وجود مالطا في المجموعة الأوروبية ينسيها وشائج القربى التي تربطها بتلك البلاد أجاب: »نحن أوروبيون، وأوروبا قدرنا ومصيرنا، لكن روح مالطا ستبقى دائماً على المتوسط. هكذا كنا، وهكذا سنبقى إلى آخر الدهر«. أضاف : »حضارتنا متوسطية، والبحر المتوسط أعطى أوروبا حضارتها، واسم هذه القارة جاء من الساحل المتوسطي الذي أعطى العالم الأبجدية«.

درس الرئيس بونيتشي العربية في مطلع صباه. يذكر من أسماء هذه اللغة وأفعالها الشيء الكثير. قال لي إنه معجب بالعربية وآدابها. تحدث عن الأدب العربي، الحديث منه بنوع خاص، وقال إنه يقرأ جبران خليل جبران، ويعجبه أدب المهجر )قالها بالعربية(. آثر بونيتشي البالغ اليوم، السادسة والثمانين من العمر، والذي كان في فترة من الزمن رئيساً لتحرير مجلة أدبية، أن يخبرني عن تاريخ مالطا وحضارتها فقال: »تراث مالطا قديم وشعبها مشبَع بحضارة البحر الأبيض المتوسط، وفي الجزيرة معابد تعود إلى العصر الحجري الحديث، وفيها نحو 38 معبداً لا يزال شكلها سليماً، إلا أننا لا نعرف شيئاً عن الذين عمّروها ومن أين جاؤوا، وفي لغتنا السامية كثير من الكلمات أخذناها من لغات الشعوب التي استوطنت الجزيرة«.

أخبرني الرئيس بونيتشي أيضاً إن اسم مالطا فينيقي ومعناه المكان الآمن، وأن في طقس المالطيين الكنسي الكاثوليكي كلمات مصدرها ماروني ويوناني، مثل المعمودية والقسيس والأسقف )قالها بالعربية(، وفيها أيضاً آثار إسلامية تعود إلى حقبة حكم العرب التي دامت 200 عام، وآثار أدبيات عربية عمرها أكثر من ألف عام، لشاعر عاش في صقلية اسمه موسى المالطي، كان من كبار شعراء عصره. وقال: »بعد العرب جاء النورمنديون الذين لا تزال آثارهم ظاهرة، ثم الإسبان، وأخيراً فرسان القديس يوحنا الذين أبحروا من جزيرة رودوس، بعدما تعقبهم الأتراك في عكا والقدس ورودوس نفسها، ولحقوا بهم إلى مالطا، وأحكمواعليهم الحصار العظيم، لكنهم فشلوا في القضاء عليهم، فبقي الفرسان في مالطا ومكثوا فيها 260 عاماً، وتركوا فيها آثاراً فنية رائعة تمثل عصر النهضة في أوروبا، وسمات الفن الباروكي بنوع خاص، وبنوا العاصمة فاليتا بكنائسها وقصورها البديعة، وطبعوها بطابعهم الذي عكس في فترة من الزمن، حضارة أوروبا في عز تألقها، خصوصاً في فرنسا واسبانيا وإيطاليا. ثم جاء الفرنسيون في عهد نابليون، ومكثوا في الجزيرة ردحاً من الزمن قصيراً، إلى أن قام الشعب بثورة ضدهم، مستنجداً بالقائد الإنكليزي نلسون، الذي كان في نابولي، فهب هذا الأخير لمساعدتهم، وضرب حصاراً على المرفأ بمساعدة البرتغاليين الذي كانوا أعوان الإنكليز، حتى لا يتمكن الفرنسيون من الدخول إلى مالطا والخروج منها، إلى أن أجبروا أخيراً على الاستسلام«. ثم قال ضاحكاً » لكن البريطانيين الذي أخذوا مكان الفرنسيين لم يتركونا، فبقوا في مالطا حتى 1964، العام الذي حصلت فيه الجزيرة على استقلالها«.

حين سألت الرئيس إذا كانت الوحدة مع أوروبا ستؤثر في هوية الجزيرة التي لا يزيد عدد سكانها عن 450 ألف نسمة أجاب: »لا يراودني قلق في شأن الوحدة مع أوروبا، فنحن أوروبيون أولاً وأخيراً، والشعب المالطي صمد عبر تاريخه أمام المؤثرات الثقافية التي هبت على الجزيرة من كل حدب وصوب، لذلك تجد في مالطا اليوم شخصية أوروبية جماعية بفعل الأثر الذي تركه فرسان القديس يوحنا، الذين مثلوا في حينه  أهم الدول الأوروبية«. ثم استدرك قائلاً: »هذا لا يعني أن الوحدة مع أوروبا لن تؤثر فينا. أوروبا تؤثر فينا كل يوم، ونحن نستقبل من أوروبا ملايين السياح على مدار السنة، ونشاهد قنوات تلفزيوينة أوروبية كل يوم، لكن هذا التأثر لن يقضي على هوية الجزيرة. الاتحاد بأوروبا مع ذلك ضرورة تفرضها الجغرافيا وتمليها المصالح. بريطانيا على سبيل المثل، كانت أمنا الحنون على مدى 164 عاماً، واتصالنا الثقافي معها جزء أساس من ثقافتنا، وإيطاليا هي المكان الأقرب إلينا، وفي وقت صافي الأديم يمكنك أن ترى من مالطا جزيرة صقلية التي لا تبعد عنا أكثر من 60 ميلاً، واللغة الإنكليزية عندنا رسمية، أما الإيطالية فهي جزء أساس من اللغة المالطية، كذلك الفرنسية وثقافتها حاضرتان بقوة في لغتنا وفي مظاهر حياتنا العامة. ثم إن أوروبا والمتوسط ليسا ضدين؛ أوروبا هي ابنة المتوسط، وحضارتها متوسطية كما ذكرت آنفاً، والبحر المتوسط أعطى القارة حضارتها في ميادين الفن والقانون والفلسفة والرسم والموسيقى، حتى أسس الحضارة في الدول الأوروبية القابعة في أقصى الشمال الأوروبي، مثل فنلندا وإيسلندا، مدينة للمتوسط، ونحن المالطيون لا نجد فرقاً بين ولائنا لأوروبا وولائنا للمتوسط«.

لاحظت وأنا اتجول في العاصمة كثيرا من الكلمات العربية في لغة الناس، ولم أشأ أن أترك قصر الرئاسة دون أن أسأل الرئيس بونيتشي ما إذا كان الاتحاد بأوروبا يعني تخلي مالطا عن علاقاتها مع جيرانها من الدول غير الأوروبية على المتوسط، خصوصا العربية منها فأجاب: »وجودنا  في المجموعة الأوروبية لا يعني تخلينا عن جوارنا، خصوصا مع أصدقائنا العرب في ليبيا وتونس، لأن علاقتنا بهم قوية دائماً، وستبقى كذلك. الأوروبيون يدركون هذه الحقائق، ويعرفون الكثير عن الوشائج القوية التي تربطنا بأصدقائنا العرب، لا بل أن وجودنا في أوروبا الموحدة يعطينا فرصة المشاركة في دور الحفاظ على المتوسط، منطقة أمن وسلام، وإبراز دورالبحر المتوسط الحضاري الذي أثر في ثقافات العالم كله، كما أن هذا الوجود يضيف بعداً آخر للغة الحوار العربي- الأوروبي، وهو سبب آخر للتذكير بالبعد الأوروبي المتوسطي لأوروبا الكاملة، لأن هذه القارة هي متوسطية بقدر ما هي بلطيقية وأطلسية. على أصدقائنا العرب في الشمال الإفريقي وفي العالم العربي الواسع أن يعلموا أن ما بين أوروبا وبلاد العرب من الوشائج والتبادل الحضاري، ما يمهد السبل دوماً لعلاقات قوية تقوم على الود والاحترام«.

مرت أعوام على ذلك الحوار الشائق، بيني وبين ذلك الرئيس القدير، الواسع الثقافة والمعرفة، وحين عدت إلى أوراقي لأنقله مجدداً على الورق، لم أتمالك إلا أن أقرن بينه وبين زعمائنا اللبنانيين والعرب، لأدرك أسباب فشلنا وتأخرنا، وكم نحن بحاجة إلى قادة من نوع أخر، ينقلون بلادهم إلى مصاف الدول الراقية، ويحدثون التغيير المطلوب الذي تحتاجه هذه المنطقة الحزينة من العالم.