نشيد البراءة لمحمد السّناني صرخة في مواجهة الموت

بيروت من ليندا نصار

تشكّل تجربة الشاعر محمد السّناني تميّزا لافتا في الشّعر العمانيّ وهو الذي يملك حسّا مرهفا جعله يؤسّس ليكون ديوانه »نشيد البراءة« صادرا من ضمن كتب مجلة نزوى »مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان«   2018العدد 95، وهو من الدّواوين الّتي تتمتّع بخصوصيّة التجربة.

 يكتب الشّاعر قصيدة النّثر على درجة عالية من الجمالية والتّكثيف، إذ يحشد الصّور الشّعريّة فتأتي نصوصه بالغة الثّراء، ويستحضر المشاهد من العالم الذي يصوّره كمسرح للشّخصيات التي تمثّل أدوارها، فتأتي قصيدته غنية بالاستعارات والجموع التي تتضمّن معاني الكثرة والامتلاء، وهذا الامتلاء لا يتمّ إلا بالكتابة التي تعتبر فعلا إيجابيّا يمنح الشاعر التوازن ليتمسّك بأمل يعمل على هندسة عالم جميل تصنعه القصائد، إذ تنتصر على كلّ التّشوّهات. للشّاعر رؤية شعريّة خاصّة وتعتبر تجربته من التّجارب الناضجة، وقد ظهرت واضحة في ديوانه الذي يتضمّن القصائد الآتية: من وصايا الرحالة الميت ذ ضجيج الموت ذ رؤوس مقطوعة ذ الكثير من اكتب ذ شبكة صيد قديمة ذ الحمقاء السعيدة- حياة طويلة ذقلب شاغر للحبّ ذ نهارات مكدّرة ذ إعلان سياحيّ متخيّل ذ أفراح صغيرة ذ نصيحة لمسافر جوّال ذ الرّكوة على النّار ذ الحديقة الصغيرة الجرداء- الرمة الأزليّة ذ التّأرجح ذ الأسلاف يستريحون في جسدي ذ هامشيّ أكثر من الهامش ذ يوما ما ذ حيرة الاصطفاف ذ مروحةالسقف ذ دمى شمعية ذ إلى سجين آخر ذ حارس الحصن ذ الأسرة المرتبة جيّدا ذ شبق للهمجيّة ذ شعراء منكودون ذ نصيحة الجثّة المهشّمة- أودّ أن أتكلّم ذ نشيد البراءة.

لقد حملت قصائد الشاعر محمد السناني زخما من التّعبير القويّ والمؤثّر النّاجم عن وعي وإدراك بالأمور الحياتيّة والأسئلة وجوديّة، وقد تبدّت هنا على شكل تساؤلات في قصائده الّتي توثّق الأثر وتجعل من الذاكرة حافظة له.

بنيت قصائد هذا المنجز الإبداعيّ على جماليّة ظهرت من خلال التّكثيف، فضمّت قصائده عالما عامرا بالمجاز أيضا، وقد وظّف فيها أدوات محيطه وطبيعته وكائناته، ليحصل في نهاية الأمر على كرة محصورة فيها مفردات أدّت وظيفة المعنى على الرّغم من مشاكستها للّغة. كذلك يمكننا أن نقول إن  ديوانه تأسّس على ثيمات تنطلق من الإنسان، وتضمّ الحب والحياة والموت.

في الدّيوان معان رمزيّة تجعل من الكتابة عميقة، وتمثّل لقطات اقتنصها عبر الزّمن وراقب وتابع صيرورتها. فمن الزّمن الماضي زمن الأسلاف، انتقلت الأفكار إلى زمن الصغار أو الأحفاد، ونلاحظ أنّ هؤلاء لم يستطيعوا إلا أن يستقرّوا في أجساد الجيل الجديد الذي ورثهم.

 لم تقف مفردات القصائد عند حدود الحالات الإنسايّة التي سبق أن ذكرناها، بل اتّسعت إمكانات التّعبير، لينتقل الإنسان الشّاعر نحو ترميم الحيوات النّاقصة والأجزاء المعطوبة فيها.

تغلب صور الموت على الدّيوان منذ بدايته وحتّى نهايته. وهنا يوظّف الشّاعر مفرداته ويحشد المعاني القويّة ليعرض لنا صور الموت الرّمزيّ بأشكاله المختلفة وبأسبابه المختلفة. تراه يضعنا أمام موت الحبّ وموت الآمال والأحلام؟ وما الذي يجمع هذه الصور؟ تراه لون الدم الأحمر؟ كذلك تبدّت لنا التّعابير والمفردات القاسية وبالتّالي تحوّل فعل الكتابة بالنّسبة إلى الشّاعر إلى فعل توازن وامتلاء للنّقص الّذي يتسبّب بالألم والخذلان بعد الانهيارات النفسيّة الإنسانيّة.

يقول في قصيدة »رؤوس مقطوعة«: الموت المتربّص خلف كلّ ناصية وزقاق/ينتظرنا بصبر فارغ كحبيب ناحل في انتظار حبيبته،/ مستبدلا زهرة الحبّ بمنجل صدئ من الدّم المتجلّط.

كذلك في قصيدته »حياة طويلة« يمثّل الشّاعر الإنسان السّاعي لبلوغ المعنى وتحقيق الكمال، عبر مسيرة من الشّقاء فيتقصّى العبث، ويتابع بثّ رؤيته عبر مقارنة الحياة بالمسرح، حيث نلحظ حركة إنسان سائر إلى العدم من دون أن ينتبه إليه أحد، وكأنّ هذا العدم أصبح مقدّرا لإنسان فاقد الحرّيّة:

 ماذا أفعل بهذه الحياة الطّويلة البلهاء/ أنتظر موتي التافه غير المثير للانتباه / كي أنسى تماما / كدحت لبلوغ المعنى/ وما إن بلغته حتى اتّضحت عبثيّته المطلقة…/ أدمنت ألا أدمن على شيء /… الحياة كنصّ رديء يؤدّيه ممثّلون سيّئون/على خشبة مسرح متهالك/حيث لا حضور سوى أشباح الماضي/وتصفيق العدم الطّويل.

كذلك في مكان آخر من الدّيوان، تطالعنا قصيدة »الرّمة الأزليّة«، وهي خير دليل على معاني الشّقاء والفراغ اللّذين يصبّان في الاتجاه نفسه، وهنا تتّضح لنا أكثر فأكثر صور الموت التي لا تبارح الشاعر الذي شهد على حروب نفسيّة وخارجيّة، جعلت منه شخصا متأمّلا، صامتا، عاجزا كميت فقدت صلاحيته، مرّ مرور الكرام يوم كان على قيد الحياة:

 ما الّذي تجيده أجيد اللاشيء/أبدع في الاستلقاء/طوال أيام بلياليها على سريري الصّلب/محدّقا في الفراغ مثل ميت لم يكتشف/أتفنّن في البطالة الأبديّة.

ويتابع الشاعر في قصيدة »التّأرجح« حالة التّناقضات التي يتأرجح بينها. فالحرّيّة لا تحتمل معاني الحزن، بل تدلّ على الفرح ضمنيّا. ويحوّل النهر الذي يحمل معاني العذوبة والجمال إلى هاوية سحيقة فيجد نفسه خاضعا، ومهما جدّف في الحياة سيستسلم في نهاية الأمر إلى العبث عبر زمن يتحكّم بالإنسان:

 بين حرّيّة حزينة وحبّ تعيس أتأرجح/كأنّهما قاربان يندفعان بي/لهاوية النهر السحيقة/في كليهما لا سبيل للنجاة/الزمن تيّار ماء مزبد مرعب جارف/والذراعان كلّتا من عبث السباحة.

في قصيدة »الأسلاف يستريحون في جسدي«، يحشد الشّاعر الزخم الأكبر من المعاني، وكأنّه يصوّر لعنة انتقلت إليه من روح أجداده لتستقرّ في جسده. وهنا تتّضح لعبة الزّمن إذ ينطلق من الماضي مرورا بالحاضر المستقبل، وفي كلّ هذه الحالات نجد استعراضا للإنسان وحالته عبر الزّمن. وهنا يتبدّى لنا فقدان القدرة على التّحكّم. هذا الموروث لا يترك الأحفاد وشأنهم ومهما دعوا إلى الحرّيّة يبقى حاضرا متمكّنا من أفكارهم وعقولهم:

 أفتح باب بيتي المتهدّم/وأجلس أمامه كما يفعل الكتّاب الممتنعون عن الكتابة/علّني أحظى بحوار عابر/مع غريب هو جدّي القديم/في متاهات الجذور ومقابر الأسلاف/المبعثرة في الرّيح/يقترب أحدهم حاملا حقيبة/مثقلة برصاصات السفن الاستعمارية/مخفيا رصاصات أخرى في الروح والجسد/… ليس من مكان يذهب له الأسلاف/سوى أجسادنا الصغيرة/مستودعين فيها لعنة الدّهر وفظائعه.

ويأخذنا الشّاعر في قصيدة »شبكة صيد قديمة« إلى حياة متشابكة، يحدّق في كفّه لتتدركها ميتولوجيا العين وتترك له روح المغامرة. هكذا العمر لحظات تجعلنا نسلّم أنفسنا للصّدف والمغامرات، الحذر هنا مفقود  كي لا نضيّع لذّة المجاذفة:

 هذه الحياة المتشابكة المهلهلة/كشبكة صيد قديمة في يدي/لا أستطيع فردها ونشرها من جديد/أفضل الذهاب للبحر دون قارب أو شباك أو سترة نجاة/وحدها الصّدفة ترجعني حيّا أو ميتا للشّاطئ المهجور

ويغلق الشّاعر ديوانه بالقصيدة الأخيرة التي تحمل عنوان »نشيد البراءة«، حيث يكثّف فيها معانيه ويحمّلها التّضمينات التي تحمل في طيّاتها الدلالات المتناقضة، فيجد القارئ نفسه وسط معاني الموت التي لم تبارح الديوان، مركّزا على الطّفولة التي تنضج مبكّرا وسط سيّارات الإسعاف، والأمّ التي فقدت ولدها وما زالت تعيش عمره المتخيّل والشّاعر الذي يحمل كل تجميل الحياة… ويحمل هذا النّشيد صرخة الإنسان إزاء صور الموت وما يرافقها من دمار وأمل في الوقت نفسه تماما كالمقاومة الفلسطنيّة التي لم تكلّ يوما برغم كلّ الحروب. هو نشيد بريء لأنّه ينظر بعين طفل بريء، لا يعرف وجوه القتلة وما زال يظنّ سلاح الجنديّ لعبة يتسلّى بها. يسمّي الشّاعر نشيده ناقصا مرتجفا لأنّه مهما علا صوته، لن تسمعه إلا آذان العتمة الصّمّاء.