العراق مجددا ساحة حرب المصالح

د. ماجد السامرائي

يبدو إن عدم الاستقرار والفوضى والحروب تلازم العراق، فوعود الأمريكان بانشاء النظام الديمقراطي كبديل عن النظام الفردي الاستبدادي تحولت إلى صفقات لتقاسم السلطة وغنائمها بعيداً عن تحقيق الحد الأدنى من حقوق الشعب في الحياة الآمنة والصحة والتعليم. يعود العراق بعد خمسة عشر عاماً من الاحتلال العسكري الأمريكي الذي احرق الأخضر واليابس في هذا البلد من صانع ومؤثر بالأحداث كما تتوجب امكانياته وطاقاته وموقعه الجيوسياسي المهم إلى بلد تتقاسمه المصالح الدولية والإقليمية وساحة صراع لتلك المصالح.

والأخطر ما يحصل الآن من تبلور الصراع الأمريكي الايراني إلى جعل العراق ساحة له. فإدارة )ترامب( تحاول في سياسات احتواء ايران الجديدة أن تجعل من العراق كنقطة متقدمة لتقليص النفوذ الايراني في خارطة التاثير الاستراتيجي )العراق وسوريا ولبنان( بعد إعلان )ترامب( للكثير من الحقائق السياسية عما قدمه سلفه )اوباما( من تسهيلات وصفها بالمريبة لأنها منحت إيران قدرات مالية وجيوسياسية كثيرة وفتحت لها الأبواب الواسعة في العراق لكي تصبح ذات هيمنة كاملة على مقدراته.

وهذا ما برر للرئيس )ترامب( الخروج من الاتفاق النووي وتقديم شروط تعجيزية عبر نقاط الاذعان الاثني عشر التي أعلنها )بومبيو( وزير الخارجية الأمريكي. وحين تقرر الادارة الأمريكية جعل العراق ساحة حيوية لهذا الصراع الجديد فهذا يعني إنها تنقل الهجوم الاقتصادي إلى فعاليات في تشديد الحصار على طهران من داخل العراق وهو المرحلة الأخطر، والتي ستصيب الوضع العراقي أيضاً خصوصاً في مجالات انتقال الأموال عبر شبكة القنوات البنكية التي تربط العراق بطهران، فتم التقييد على بنك )البلاد( الذي يديره الفائز في الانتخابات البرلمانية )آراس حبيب( والذي كان أحد قادة حزب » المؤتمر« بقيادة الراحل)أحمد الجلبي( ويوصف هذا الشخص بأنه سمسار للأموال العابرة للحدود ما بين ايران والعراق ولبنان والمقصود هنا )حزب الله( وتبدو عملية احتواء إيران ناقصة دون إشراك العراق في هذه الشبكة المعقدة، وهنا يدخل العامل الإسرائيلي بقوة على الضفة العراقية بعد أن وضحت الضفة السورية من خلال عمل إسرائيل على تقطيع شبكة القوة الصاروخية الايرانية على الأراضي السورية بسلسلة الضربات الجوية الصاروخية على نقاط وصفت بانها مراكز إيرانية، ومعروف إن روسيا تلتزم الصمت تجاه ذلك البرنامج الاسرائيلي، لأنها موافقة على مبدأ الحفاظ على الأمن الاسرائيلي في المنطقة.

ولهذا تحاول أمريكا القيام بدور تفطيع الشبكة الايرانية الممتدة بين ايران ولبنان عبر سوريا والعراق. أما اذا تمنكت ايران اضعاف الدور الأمريكي في العراق فإن سطوتها على سوريا ولبنان ستتعزز، وتنقل ساحة الصراع إلى أبواب إسرائيل وتنهي بذلك قصة منع تطوير الصواريخ الإيرانية لكي لا تطال تل أبيب، لأن إيران حينها وبدلاً عن توسيع مديات أسلحتها بعيدة المدى، ستختزل المسافة بين تلك الأسلحة وبين إسرائيل. وهذا هو سبب الصراع الذي حصل في بغداد حول منصب رئيس الوزراء ومدى تعاطيه مع الطرفين الأمريكي والإيراني. ذلك إن طهران لا يمكن أن تفرّط بانحياز حكومة بغداد إلى طهران التي تحتاجها بقوة في معركتها الحالية والمقبلة مع واشنطن.

وقد حصل خلال الأيام الماضية حدثان سياسيان واعلاميان يلقيان بعض الضوء على ما يجري من تطورات خطيرة في الساحة العراقية، الأول التقرير الذي نشرته وكالة )رويترز( الأمريكية المتضمن قيام إيران بنقل صواريخ » بالستية » بمديات متفاوتة إلى الأراضي العراقية وتسليمها إلى قيادات لمليشيات » شيعية » موالية لطهران وكشف التقرير تفصيلات ذات أهمية كبيرة من بينها ذكر مواقع عراقية كانت مملوكة للجيش العراقي السابق في مناطق » الزعفرانية وجرف الصخر » ببغداد تحولت إلى معامل لانتاج أنواع من تلك الصواريخ وهذا ما أكده مجموعة من الخبراء العراقيين في هذا المجال، رغم النفي الذي صدر من الجانبين العراقي والإيراني،وعبر وزير الخارجية الأميركي )مايك بومبيو( عن قلقه إزاء هذا التقرير وكتب على »تويتر«: »إذا كان هذا التقرير صحيحاً، فهذا انتهاك صارخ للسيادة العراقية ولقرار مجلس الأمن الرقم 2231« الذي صادق على الاتفاق النووي المبرم مع إيران عام 2015« وأوردت شبكة »سكاي نيوز« أن إسرائيل كانت على علم بالخطوات الإيرانية، إذ ذكرت تقارير أن سلاح الجو الإسرائيلي يجري طلعات منذ نحو عامين في سماء العراق، لتصوير المصانع التي تستخدم لإنتاج الصواريخ الإيرانية أو تطويرها، وهذا يعني بالنسبة لإسرائيل إن الساحة العراقية أصبحت من الخطورة على أمنها ما يتطلب منع حصول أي تطور ذي بعد تسليحي قد يهدد أمنها. أما الحدث السياسي المهم فهو تصريحات وزير الدفاع الاسرائيلي )افيغدور ليبرلمان( الذي وضع العراق » في مرمى النيران الاسرائيلية وإن قوات بلاده قد تهاجم قطعا عسكرية يشتبه في أنها ايرانية في العراق« مثلما فعلت بشن عشرات الضربات الجوية في سوريا. ولم يصدر تعقيب رسمي مباشر من الحكومة العراقية على هذا التهديد.

ويعيد موقف ليبرمان إلى الأذهان ما حصل عام 1981، حين دمرت القوات الجوية الإسرائيلية مفاعل »تموز« النووي الذي كانت تنشئه فرنسا قرب بغداد. وخلال حرب الخليج عام 1991، أطلق العراق العشرات من صواريخ »سكود« على إسرائيل. ولتعزيز هذا المناخ التصعيدي بوضع العراق تحت دائرة الضوء الأمريكي والإسرائيلي، تم في نفس الوقت نشر وثائق خاصة بالمخابرات الأمريكية تتعلق بمحضر تحقيق مع زعيم مليشيا عصائب أهل الحق )قيس الخزعلي(  الذي كان معتقلا لدى القوات الأمريكية في العراق عام 2007 واطلق سراحه، تحدث فيها عن كيفية تجنيد إيران له ولسائر الجماعات وقيامها بتحويل العراق إلى ساحة للميليشيات المتناحرة واندلاع الحرب الأهلية.وذكرت »صحيفة وول ستريت جورنال« إن الخزعلي اعترف بقيام الحرس الثوري الإيراني بتدريبات للميليشيات العراقية في ثلاث قواعد بالقرب من طهران، بينها قاعدة »الخميني« التي زارها الخزعلي.

هناك سيناريوهات يتم تسريبها عن احتمالات الصدام المسلح، وتقرير وكالة رويترز لم يخرج بالصدفة حول زرع صواريخ باليستية إيرانية في العراق وبيد الميليشيات الموالية لها، يرافقها تصريحات رئيس كتلة فتح، هادي العامري، المهدّدة بإسقاط أيّ حكومة عراقية مقبلة قد تبتعد ولو قليلا عن طهران، والتهديدات الإيرانية بغلق مضيق هرمز، فهذا يعني أن هناك استحضارات لوجستية أكثر منها حربا إعلامية.وفي هذا السياق تحدث في إحدى القنوات الأميركية المحلل العسكري الأميركي )بوب هامرايت( وهو قريب من مراكز القرار العسكري الأميركي قائلا »إن الوضع في الشرق الأوسط والخليج وإيران معقد جدا وأن الولايات المتحدة ستعمل على منع إغلاق ممر مضيق هرمز وباب المندب لتأمين الملاحة البحرية إذا قامت إيران بإغلاق المضيق ومنعت السفن من عبور ممر الخليج الذي هو شريان حيوي للاقتصاد الدولي ويشكل حوالي 20 في المئة إلى 30 في المئة من تجارة العالم«. إن هذه الحرب لا بد منها والولايات المتحدة لن تغرق في أيّ حرب في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بقرار من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بل ستترك الأمر إلى الجيش الإسرائيلي الذي بات عنده من الأسلحة الأميركية والتدريبات والتقنيات التكنولوجية ما يكفيه لإدارة حرب بالصواريخ والطائرات والغواصات والغارات الجوية من الطائرات الحديثة، وبالتالي ترى الولايات المتحدة أن ذلك سيؤدي إلى انهيار إيران وإلى إسكات حزب الله في لبنان بعد ضربات عسكرية كثيرة تنهي الوضع المتوتر منذ 20 سنة في محور الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وأن روسيا لن تتدخل في هذه الحرب ولا الصين، وواشنطن تعرف ذلكس. وانسجاما مع هذه السيناريوهات المخيفة التي تتربص بالعراق قبل إيران، فإن القوة التسليحية الأميركية لا يمكن لطهران مواجهتها بتهديدها للقوات الأميركية المتواجدة في العراق عن طريق الميليشيات التابعة لها، فملامح القدرة الأميركية ليست عسكرية فقط، بل إن للولايات المتحدة مصادر نفوذ مختلفة في العراق، فهي على سبيل المثال من تولى تدريب أعداد كبيرة من القوات العراقية سواء في الجيش أو الشرطة، ويمكن توقع أن تنشأ خلال ذلك فرصة للأميركيين من أجل تشكيل قدر مهم من التأثير وكسب الولاءات على مستوى القيادات العليا والوسطى في الجيش العراقي.

العراق وشعبه هو الضحية للسيناريوهات الجهنمية إذا ما حصلت لا قدر الله  فليست وحدها »ليلى« المريضة في العراق، إنها حسنة وعائشة وفاطمة وكوثر، وليس وحده »قيس بن الملّوح« يتمنى أن يكون طبيبها، إنه محمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ومظفّر النواب.