البصرة إيقونة الحضارة والصمود بوجه الظلم

د. ماجد السامرائي

لعلها المرة الأولى في التاريخ الحديث التي تأخذ فيها مدينة البصرة العراقية هذا التفرّد بالأخبار اليومية بعد تلاشي نيران  »داعش« عن الموصل وصلاح الدين والأنيار وديالى. للبصرة مكانة تاريخية في أرقى حلقات الحضارة العربية الإسلامية. فالبصرة لم تصنع اليوم إنها إمتداد لذلك الإرث الحضاري والمدني الذي ارتبط بالفكر والثقافة والمعرفة، فهي مدينة )سيبويه والجاحظ والأصمعي والفراهيدي( وهي المركز لأهم مدرسة عربية في علوم اللغة الى جانب )الكوفة(.

كما كتب لها التاريخ أن تشهد إنقضاض الدولة العباسية على حركة الفتنة  »للقرامطة« التي استخدمت أبشع وسائل القمع والتدمير ضد معارضيها من دعاة التوحيد الاسلامي. وتتكرر دلالة  »صمود البصرة« في مشاهد تاريخية ثلاث امتدت ما بين 1980 الى 2003 وما بعدها ففي حرب الخليج الأولى 80-88 وقع ثقلها الانساني والبنيوي على البصرة لقربها من المناطق الإيرانية الحيوية  »الكارون والفكة والمحمرة« وقدم أهلها شبابهم الذين استشهد الألوف منهم في حرب لم يكن أمامهم فيها إلا الدفاع عن الأرض والوطن وكان شعب هذه المدينة العظيمة يتلقون يومياً الصواريخ والقذائف الايرانية ثم التضحيات الكبيرة في معركة  »شرق البصرة« عام 1982 التي كانت إيران تهدف من خلالها الى احتلال البصرة والوقوف على مشارف الكويت.

وبعد شهور قليلة من انتهاء تلك الحرب الطاحنة لم تمسح البصرة عنها غبار تلك الحرب ولم تجف بعد دماء شهدائها الأبرار حصلت مغامرة صدام باحتلال الكويت عام 90 وكانت نتيجتها الهزيمة العسكرية عام 91 وسحق الجيش العراقي من قبل التحالف الذي قادته الولايات المتحدة والذي كان المقدمة العملية لسقوط العراق عام 2003.

حيث أصبحت البصرة من نصيب القوات البريطانية المتحالفة مع أمريكا، وتصرف القادة والجنود البريطانيون بعقلية المستعمرين القدامى، واعتقدوا إنهم يبعثون مجدهم القديم في الاحتلال الأول خلال الحرب العالمية 1914- 1918، لكنهم تناسوا بأن التاريخ قد تبدل وغادرت بريطانيا عظمتها فاستلمتها أمريكا، ومع ذلك وجد الجنود البريطانيون بعد عام 2003 أنفسهم في لعبة أخرى حيث نمت وتكائرت القوى السياسية الدينية في البصرة وبرزت الأحزاب بمليشياتها المسلحة )جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر وحزب الفضيلة والمجلس الاسلامي الأعلى والدعوة( وكان على القوات البريطانية أن تحسن التعامل مع مراكز القوى الجديدة، وصراعاتها من أجل الغنائم وليس مقاومة المحتل وألا تتوقع تلك القوات نصراً في هذه الحرب مثلما تتذكره أجيالهم السابقة، أو مثلما توقعته القوات الأمريكية المحتلة في باقي مدن العراق وخصوصاً غرب العراق )الأنبار( حيث المقاومة المسلحة التي أزعجت الجنود الأمريكان، وتصدرت قصص تلك المقاومة سينوريوهات الكثير من أفلام )هوليوود( الأمريكية.

تركت القوات البريطانية )البصرة( عام 2011 مخرّبة بفعل الاحتلال ولخراب السياسيين المحليين الذين شعروا في لحظات من نشوة المغانم وما أوحته لهم إيران بأن الطريق الفضلى للحفاظ على ثروة النفط قيام  »إقليم البصرة« تماشياً مع ما أخذه الأكراد من اقليم وفق الدستور لكن تلك اللعبة قد رفضها شعب البصرة وبعض قواه الحيّة بقوة، ولم تهدأ البصرة منذ العام 2003 وظلت تعيش في ظل الصراعات السياسية المحلية بين الأحزاب الشيعية، وبعضها رحّل الكثير من الموالين والمنتسبين اليهم الى القوات العسكرية والأمنية بما سمي  »بضباط الدمج« الذين يمارس بعضهم اليوم حسب تصريحات أحد قادة كتلة  »سائرون« عمليات استهداف المتظاهرين بالقتل.

لم يلتفت السياسيون الى ما يستحقه أبناء البصرة من حقوق، ولو حمّل أولئك السياسيين ذرة من الوفاء لأهلها وكانوا صادقين في شعاراتهم بأنهم قضوا على نظام الفردية والاستبداد من أجل نصرة  »الشيعة« لكانت البصرة اليوم بفعل ثروتها عروس الشرق والخليج ترفل بالعمران والمدنية لا أن تصبح مكباً لنفايات وأملاح الجار الشرقي، وأن تتكاثر فيها جميع الأمراض المستعضية وفي مقدمتها  »السرطان« وأن تتعاظم مشكلات مياه الشرب فيها لدرجة رهيبة وأن تعم البطالة بين شبابها وأن تصبح ممراً ومكاناً للمخدرات القادمة من ايران.

ولعل فيما حصل لها أخيرا بعد حلقات سابقة من الإهمال المتعمد تعيد قراءة المشهد السياسي العراقي بطريقة صحيحة أرغمت جحافل السياسة والاعلام الطائفيين على الاستسلام لحقيقة إن العراق كلّه من الموصل الى البصرة تعّرض الى أبشع هجوم بربري متعدد الحلقات والوجوه استهدف الانسان عقلاً وجسماً وكياناً بعد تخريب كل مقومات الحياة الأساسية اتي تساعده على البقاء.

البصرة في أيامها الأخيرة وما حصل لأبنائها من تدهور بشع في أبسط مقومات الحياة )الماء( الصالح للاستخدام البشري والحيواني لم تلفت انتياه هذا العالم لأن مركز الاستثمار التجاري الأول فيه )الولايات المتحدة الأميركية( هي التي فرضت مشروعها التدميري في العراق ومن بين عناصره توفير فرص الحكم لهذه الطبقة السياسية من الجهلة المنشغلين بالنهب والسرقة. البصرة ثغر العراق وجوهرة الخليج يرسم لها التاريخ دوراً ريادياً الى جانب مدن العراق الأخرى في رفض وفضح الفاسدين والطائفيين وأثبتت قدرتها على تحدّي مسببي الأذى لأهلها عبّرت في مسلسل التظاهرات التي استمرت لشهرين وصلت قمتها في شهر تموز )يوليو( حيث تصاعد الغضب الشعبي لدرجة الهجوم على مقرات الأحزاب المسؤولة عما حصل لشعب العراق، وكذلك القنصلية )الإيرانية( في إشارة رمزية الى ما تركه التدخل السافر من قبل طهران في شؤون العراق الداخية. التظاهرات الأخيرة التي عبرّت عن أرقى معاني الغضب الشعبي السلمي لإجبار السلطات المحلية والمركزية. لقد أصبحت )البصرة( العنوان الكبير لفشل الأحزاب الاسلامية  »الشيعية« في خدمة أبناء الشيعة قبل غيرهم من المواطنين العراقيين، وهذا هو المأزق الكبير لسلطة الحكم ونظامه السياسي، وليست حكومة )العبادي( فقط حيث برّر هذا الاهمال وعدم إيفائه بالتزامات الانفجار الكبير للأزمة بأنه كان منشغلا بالحرب على  »داعش« وقد يكون تبريره منطقياً لكنه لم يتمكن من إدارة الأزمة الأخيرة بإجراءات رادعة ضد المسؤولين عن قتل عشرين شهيدا ومئات الجرحى، مع إنه منح محافظ البصرة صلاحيات كاملة مع توفير الأموال اللازمة. لقد ألقت أزمة البصرة بظلالها على أزمة الحكم في بغداد حيث جرى التلاسن بين محافظ البصرة ورئيس الوزراء في جلسة مجلس النواب التي دعا اليها )مقتدى الصدر(على خلفية المسؤوليات في توفير الخدمات، وكانت تلك جزءاً من محاولة لاسقاط العبادي في تلك الجلسة البرلمانية في الثامن من سبتمبر الماضي نتيجة تراكم الفساد وفشل الأحزاب وتواطؤ اجهزتها وممثليها لدى الحكومات المحلية والحكومة الاتحادية، وهذه الأزمة ترتبط بأزمة الاصلاح العام في كل العراق. ولو فتحت ملفات أية محافظة عراقية لوجدنا فيها الكثير الكثير، لكن خصوصية )البصرة( التاريخية والجغرافية والاقتصادية هي التي جعلتها اليوم مشعل الثورة الشعبية ضد النظام الفاسد. ولعل الدماء الزكية لشباب البصرة تكشف عن مدى قساوة أدوات النظام وأحزابه في قمع أبناء الشعب وعن إن الأحزاب هي التي سرقت أموال البصرة وهي التي يهين قادتها شباب البصرة ويتهمونهم  »بالمدسوسين« ويغطون على من يقتلهم بالرصاص، متوهمين بأنهم سيقمعون الصوت الجريئ المخضب بالدماء الزكية، مع إنه كلما زادت حدة القمع كلما يزيد غليان الغضب الجماهيري.