الحب وتجليّاته الحالمة في ديوان »أنثى المعنى« للشاعرة لارا ملاّك

نسرين الرجب ـ لبنان

على وقع الأنوثة والمعنى تبتكر لارا ملاّك في ديوانها »أنثى المعنى«، الصادر عن دار نلسن في طبعته الأولى 2017، لغتها الخاصة،  تدخل مسار الحب شأنها ككل النساء اللواتي اتخذن أو اتّخذتهن العاطفة إلى فلكها. فالمرأة كائن عاطفي بالطبيعة، يجيد ترتيب الأشياء، ويعطيها بهجتها، وهي شاعرة بالفطرة نعرف ذلك من حداء الأمهات، من المواويل التي يرتَجِلنها في كل مناسبة، وعندما تدخل المرأة عالم الشعر كنظم كتابة،  الفن الذي تتمازج فيه روحيْ العقل والعاطفة، فإنها ذ غالبا- ما تُكثر من البوْح وتدخل في التفاصيل الأكثر عمقا، والمرأة الشرقيّة  التي اعتدناها شكّاءة بكّاءة في الحب أمام نموذج لرجل شرقي لا يبالي بعقلها ويهتم بشكل فستانها كما جاء في قصيدة الشاعرة سعاد الصباح »كن صديقي«، أو يختار الرحيل من غير سبب مقنع، أمّا المرأة التي تكتب الحب من منظار الحب ولأجل الحب، وتعيد إليه التوازن  فهي التي تصفو وتدنو من القيمة الفنيّة للعمل الشعري، وهنا تنتفض لارا ملاك على الذات ، فتحيك رداء الحب بصوف المتصوفين، تتماهى مع الصورة الحدث، تطرح عقلها أيقونة،  وعلى الرغم من أنها تناولت موضوعات كثيرا ما طُرحت في دواوين الشعر النسائية »الحب، الغياب، الحنين، الفراق، الأنوثة..« إلا انها تعاملت معها بأسلوب يعكس شخصيّة امرأة ناضجة وهي في مقتبل العمر، واعية وتدري ما تقول، تعيش اللحظة »فالنبتُ لحظةٌ« ولا ترتهن لثقل الشعور، بل تتخفف منه بالكتابة، لا نجد هنا نموذجا لامرأة تتعرى بوحا عن تفاصيل تثير الغريزة التلصلصية ، لا تفتح لارا مجالا لذلك تغلق باب حكمتها وتمارس حنكتها بمقدرات شعريّة جديرة بالاهتمام، لا تدع التفاصيل تنسجها بل هي من تنسج خيوط القصيد، وتبثها إشارات كونية غاية في دلالتها الإشارية.

 اللغة فصيحة واضحة المفردات والصياغة، لم ترتهن لركاكة التكرار، إنها أبعد من السردية، الجمل اسمية بالمجمل، يطغى على تركيبها شيء من الغموض يرجع إلى مجازية الطرح والأبعاد الرمزيّة التي تستفز عقل المتلقي، ولكنها لا تنغلق على ذاتها بل تفتح أفق التأويل على مصراعيه.

كيف تعاملت الشاعرة مع موضوع الحب وما الرابط بين الأنوثة كنوع اجتماعي والأنوثة كحالة كونية، وهل تنقذ الأنوثة شيئا من المعنى الذي راح يغيب في زمن الحروب خلف ستار من ضباب العدمية المطلقة؟؟ 

أنوثة ومعنى

 أتى العنوان جملة اسمية تتألف من مفردتين، أنوثة ومعنى ، في صيغة الإضافة فالأنوثة مضافة والمعنى مضاف اليه،الأنوثة بما تعنيه من لين وسهولة، من هدوء ولطافة على النقيض من الذكورة الحادة، والمعنى في مواجهة عبثية الكون: »يغرقني وهم العدم/ خشبة خلاصي المعنى..« نحن الباحثون عن معنى في هذا الكون المنفي، العناوين الفرعية تتنوع صيَغها فنجد عناوين لقصائد منها:  »أنا الباحثة فيك، أكتبك، الرحيل..« وكأنها عبارات تصلح مجتمعة لتكوّن جملة شعريّة  تعبّر عن رؤية الشاعرة للحب، وغالبا ما جاءت العناوين مرتبطة بحالة النص الداخليّة، وترجمت الشاعرة من خلالها بياض فكرتها،  وظيفة العناوين هنا ايحائية جمالية وتماهت بشكل وثيق مع النصوص الداخلية، وعي الشاعرة حاضر في النصوص ويتنامى مع الأفكار المطروحة، زخم من المصطلحات الفلسفية والدينية ، ورومانسية هادئة تكشف عن مخزون الشاعرة الثقافي والمعرفي، فهي تجيد حبك مقولتها، وترتيب جملها داخل نصها، على الرغم من ظاهرة التشظي في انتثار الجمل، الا أن ما يربطها هو عمق الإشارة، طاقة دلالية تتفجر،  ليس هناك إيقاع موسيقي ظاهر، غياب موسيقى النص  أسّس لغيابه المستتر وراء رداء من الدهشة ، ليس هناك سياق سردي ولكن كثير من النصوص تتقاطع مع سرديات أخرى ، كسندريلا، وكالتفاحة في نظرية الفزياء..

الدائرة وأنثنة الكون.

 تتكرر ملفوظة الدائرة، على ما لها من دلالة رمزيّة، صوفية وأنثوية، فالدوران عند المتصوّف في الرقصة المولويّة هو حركة للوصول إلى حالة الانجذاب للذات الكبرى، ودورة الأرض حول الشمس مشيئة الحياة ، وتكوّر بطن الأم أثناء الحمل، والعين دائرية، وجاء عند الشاعرة قولها: »الجسد وجع مستدير/ طريق جلجليٌ تعبره الحواس..«،  »الدوران، أنت دائرتي التي حررتني من الزوايا«، توجّه خطابها الى حبيب تقول انه دائرتها التي حررتها من الزوايا بما تعنيه الزوايا من حديّة .

» أنثى جديدة لا تجيد التباس المرايا/ أنثى بيضاء لا ذهب يغريها/ فستان عريها أجمل منها/ جسدها روح…«، تعتدّ بأنوثتها، أنوثة تدرك جمالها، ولا تهتم بالمغريات الماديّة، جسدها روح على ما يحمله هذا التصوير من دلالة ايحائية خصبة تقصد من خلاله أن تبين عن نقاوة وروحانية الرؤية إلى الأنا الأنثوي خاصتها، على النقيض من تراكمات الأعراف والنظريات التي وصمت المعرفة الدينية بكون جسد المرأة مغري ومثير للشهوة الحسيّة،  وهو مدعاة للخطيئة، وفي »جسدها روح« تمثّلت الشاعرة وعيا بأبعاد قولها. في قصائد أخرى تتساءل عن كنه أنوثتها  »لما أنا أنثى؟/ من أنّثني؟/ أهدتني خلايا الكون رحما فارغا/فأسدلت شعري/ علم اليقين مرة / بأنك ستملؤني..« فالرجل هو الذي يملأها هو الذي يتمم نقصها ويملأ فراغها، فالدائرة دورة الحياة الخالدة كل نهاية تعقبها بداية، لا راحة بينهما، الحياة تواصل نفسها  ولذا تقول: »حين اقتربت النهاية/ ما عدت هنا لأراها/ خطفتني البداية..«

هذا العالم في دورانه اللامجدي يسبب حالة اختناق بسبب غبن ما يجري عليه. »يدور الكوكب/ يلتف كالحبل حول عنقي«، العلاقة بين الأنوثة والدائرة حاضرة بقوة على ما توحيه رمزية الدائرة من تجدد الحياة، والحركة الكونية المتواصلة ، الخلق والولادة.

الصورة الفنيّة المُضافة

استخدمت الشاعرة الكثير من المفارقات الضديّة التي تعكس عاطفية المرأة وحدسها الأسطوري، »أريد ذهابي/ آتي إليك أعود اليك«،  فالذات في حالة تناقض بين الظاهر وهو الذهاب والعودة وهو الشعور الباطني،  لذا داخليا يتبدى هذا التناقض صريحا في تعبيريته فتقول: »آويت إلى ضوئي/ لأرى نقيضي/ فكان ضدي أنا..«،  الصورة ذهنية بعيدة في مرادها، » قد تجحظ عيانك لعمق اقترابي/ وحسن ابتعادي..« بين الاقتراب والابتعاد هناك جهد جدير بالمحاولة للفهم، فهم الآخر في حالتّيْ اقترابه وابتعاده.

تسعى الشاعرة  لابتكار معانٍ جديدة وعميقة في دلالتها الشعريّة: »البكرة تقع بيننا من دون زمن«، و »الغمام نوم بين مكانين« وقد  أسّست لجملة من الانزياحات الدلاليّة التكثيفيّة، بالارتكاز على أبعاد معرفيّة نذكر منها  البعد الفلسفي والفزيائي : »حركة جفني، أرتفاعات، جاذبية، صورتي، الحتمية، بصمة القدر، إرادتي، تكررني أتذكر…، الفيض لنا ..« ، البعد الدينيّ »قد أهديك صليبي يوما، » » أحدق بثالوث جديد..، »من كان منكم بلا حقيقة/ فليرجمني بقلم« وظيفة هذه الانزياحات هي تكثيف المعنى، وإضافة أبعاد معرفيّة جديدة على التجربة المعاشة.

الحب والمرأة »كثيرة أنا/ حين أحب..«

يتماهى مفهوم الحب مع عالم الطبيعة، فهناك معجم من المفردات والتعابير المتصلة بالطبيعة وجاء سياق استخدامها مترابطا مع حالة الحب التي تبثها في ثنايا كتابها، »ورق، الخريف، التين، الزيتون، السرو، سرب الحمام، الوردة، الغروب، صنوبرة، الربيع، ..« مما يدل على الطابع الرومنسي الذي يغلب إيقاع الصوت الداخلي للشاعرة، ونقع على إشارات ذلك لاتصاله بالذات حضور بارزٌ للأنا الحالمة، الغياب، الوحدة، الحنين.

 الذات في تآلفها وفي تناقضها: »أنا والعكس نحبك/ لأنك نحن/ بكل أشكالنا التي خلت/ وتلك التي ستأتي«

 وكما أن الغياب غياب المحبوب هو أسوأ ما قد يحدث ، إلا أن الشاعرة تتعامل معه بطريقة مغايرة:«لم أطلب في غيابك/ بكاء الخيل/ أو صهيل الحزن/ لكن أردت أن تنهال بقصائدي عدوا/ حيث علمتني أن أمشي/ خطوالتي الأولى..« لا تفتح الحبيبة هنا مندبة الشكوى، تواجه الغياب بكتابة الشعر ، فالحبيب ليس الهاجر  الذي تكال عليه الاتهامات بل حتى في غيابه يظهر متساميا، وظهر ذلك من خلال الأفعال التي تحمل دلالة  وتأثيرا ايجابيا: » تحملني، توجهني، تزيد انسيابي، تصب كلّيتي، كتابك تيار آمن، يدلني، يعلمني،..كنت قاربي«  فهذا الحبيب متسام عن النرجسية حتّى في غيابه »يعلمني كيف أذرف/ زقزقة من فمي«

توجه خطابها لحبيب غائب، حاضر فيها بقوة جمالية المحب، لا تبادره بالشكوى ولا بعتاب المحبين بل تذكر محاسنه ، هو موجود على الرغم من فعليّة الغياب، فهو القارب..على ما يحمله هذا الترميز من اشارات عميقة ولطيفة، فهو نجاتها.

في قصيدة ايقاع تقول : »لم يطلب الحب قرع الطبول/ يتقدّم في العتمة/ على مهل..« استخدم الفعل »يتقدّم« للدلالة على حركيّة الحب التي تبدأ من دون مقدّمات، وتسير قدما الى الأمام، وقالت في العتمة ولم تقل في النور لأنه يمشي متحسسا خطواته بتباطؤ الواثق من خطوه.

هذا الحب الحامل تباشير الخلاص الذي يمنح المُحبّة الشعور بحواسها فتتضاعف قدراتها الحسية »يدكن لون عيني بالمعرفة« أثر الحب يظهر في شكل معرفة وليس في استسلام أعمى..

في قصيدة سندريلا »لست سندريلا ما لم تجد أنت يدي« تقلب الشاعرة معادلة القصة فالأمير لن يأتي حاملا فردة حذاءها وينحني لترتديه، بل عليه أن يجد يدها أن يتحسس الطريق الى قلبها.. وتتابع أفهمة موضوع الغياب، الوحدة التي يخلفها ، وبكونها تعي ذلك فهي متصالحة وغير جاحدة بحق هذا الحب: »أنا لك حين أكون وحدي/ ومعك حين أكون قربي« وفي الحديث عن الوحدة قد نجد أثرا رومانسيا، إذ أن بين )حين أكون وحدي وحين أكون قربي( الصلة بين الوحدة والقرب، في كلا الحالتين هو لها ومعها، حتى في الوحدة وعندما تقترب من ذاتها تستشعر حضوره معها، حين أحب »أملأ الأنا بي/ تضج الحركة/ تتعب السرعة/ أنضح بصفائي…«.

»الحب انبساط شعوريّ / كيّ لتعرجات الروح/ للنار نصيبها فيّا/ لكني لست احتراقي..«

تضع الشاعرة يدها على العبارة، تأخذ بيدها وتُقعدها في نصّها، تتلاحق المشاهد بسرعة تبدو فيها الشاعرة قاصرة عن إدراكها، فتضبطها ما وسع لها التعبير، تبدو الجمل في حالة صراع ، تؤرخ للحظة في حلقة رقص، وتعطي للمسميّات معانيها البعيدة، الأكثر عمقا فيغدو البكاء عندها: »تضحية مائية..في سبيل صفاء النهر« .

في قصيدة حنين »النسيان ترفٌ عظيم«  »نكران الحنين أشهى من ابتكاره«

لابد للذاكرة أن تغتسل أن تتعرى في ساعة ، تتمرد المرأة على الحنين، تعلن اكتفاء الشعور، وتصرخ »كم زيّفنا الطقوس/ يكفي الأوثان كم عبدناها« وإذا استثنينا الحب من هذا الحنين امتثل لنا الماضي بكل تشكلاته التاريخية والسياسية والفلسفيه وغيرها من الموضوعات التي تستدعي منا التوقف عن ذكرها وعن امتطاء الحنين وسيلة للوصول إلى وهم اندثارها، وتقول:« لا تقرأ الرواية مرتين/ لا تنهمر غيمة في شتاءين«.

الكون في حركة دائمة فلما نحن محكومون بالتكرار؟!  لما ننكر حتميّة التغيير ونسترجع الشعور الميت لنضرب فيه ونمارس فعليّة العويل والنحيب من دون جدوى؟! ولنا في الحنين أمثلة كثيرة هي صرخة أنثى أثقلها الحنين فتمردت ومضَت.

في ديوان لارا ملاك حيث تجتمع قصائد على شرف المعنى، تذهب الشاعرة بعيدا ، تطرح عقلها إشكالية، هي تريد وهي تفعل، هي تتحدث عن الفيض، عن الروح المعنوي للأشياء، وتطرح اشكاليات فلسفية وجوديّة من منظار عاطفي يبدي حنكته في تعظيم الأشياء ، الشعر لديها »شيء من آمارات البقاء / الذي سيأتي..«.