نافذة على الحياة -تؤخذ الدنيا غِلابا

سهير آل إبراهيم

أتابع أحيانا برنامجا يُقدّم في حلقات، يتمحور حول دراسة سلوك وتفكير مجاميع من الأطفال تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة والخامسة. في حلقة شاهدتها مؤخرا، كانت طفلة في الخامسة من العمر تتحدث عن نفسها عندما تكبر. سألتها المعلمة عن اهم الأشياء بالنسبة لها عندما تصبح كبيرة، أجابت الطفلة بدون تردد انها تريد ان تعمل، وان تشارك في التصويت في الانتخابات!

قد لا تُدرك تلك الطفلة، وهي بهذا العمر المبكر، مفاهيم العمل أو المشاركة في الانتخابات، وربما لا تعرف تماما ما هي الانتخابات، ان كانت تدرك ولو بشكل بسيط مفهوم العمل، ولكن المؤكد ان بذرة الحقوق قد زُرعت في ذهنها، ومع تقدمها في العمر ستنمو تلك البذرة وتكبر، وتصبح تلك الحقوق والتمتع بها، بالنسبة اليها، جزءاً طبيعياً من حياتها.

أعادت تلك الصغيرة الى ذاكرتي أمسيةً ثقافية كنت قد حضرتها قبل فترة ليست بالبعيدة، وقد تضمنت تلك الأمسية في واحدة من فقراتها محاضرة عن تاريخ نيل المرأة حق التصويت في الانتخابات في بريطانيا. كانت المحاضرة مخصصة للحديث عن النساء الرائدات اللواتي أخذن على عاتقهن مهمة السعي للمطالبة بذلك الحق.

قرب نهاية القرن التاسع عشر تمتعت النساء في العديد من الدول بحق الاقتراع في الانتخابات العامة. في عام 1893 كانت نيوزيلاندا اول  بلد يمنح ذلك الحق الى جميع النساء فوق سن الواحدة والعشرين. ولكن الحال لم يكن كذلك بالنسبة للمرأة في بريطانيا. لذلك بدأت المنظمات النسوية البريطانية بالمطالبة والمناداة بحق المرأة في المشاركة والتصويت.

في عام 1903 تأسست المنظمة الاجتماعية والسياسية للنساء، فبدأت تسعى في سبيل تمتع النساء بحقوقهن، وبالتحديد حق التصويت في الانتخابات العامة في البلد. وفي عام 1906 تغير اسم المنظمة ليصبح منظمة المطالِبات بحق الاقتراع، او كما تعرف باللغة الانكليزية  Suffragettes . صارت المنظمة تُعرف بهذا الاسم الجديد بسبب تغير أسلوب المطالبة الذي كانت تتبعه، حيث تبدّل من اسلوب سلمي يرتكزعلى المطالبة والمناشدة، الى افعال تتسم بالعنف والغضب، فقد بدأن بممارسة العصيان المدني وخرق القوانين وملاحقة السياسيين ومضايقتهم بالأسئلة. بالاضافة لذلك بدأن بالقيام بالمسيرات الاحتجاجية والمظاهرات، والتي تخللتها في الكثير من الأحيان اعمال عنف وشغب؛ مثل تكسير زجاج نوافذ مبانٍ رئيسية ومهمة، وإشعال النيران في صناديق البريد، وإضرام الحرائق في الدور والكنائس التي كانت تخلو من السكان ليلاً. فإذا ألقي القبض على أي من اولئك النسوة واودعن السجن، كن يلتزمن بالإضراب عن الطعام الى الحد الذي كان يدفع السلطات الى إطعامهن قسراً، وكان ذلك يتم عن طريق إيصال الغذاء الى المعدة خلال أنبوب مطاطي يمرر عنوة عبر الأنف او الفم!

في عام 1913 وخلال سباق للخيول حضره الملك جورج الخامس، ركضت واحدة من نساء المنظمة امام حصان الملك الذي كان يعدو سريعا، ولم يُعرف هدفها من فعل ذلك، فربما كانت تريد ان تمسك بلجام الفرس لاثارة انتباه الملك والحاضرين في مضمار السباق آنذاك، او ربما ارادت تعليق لافتة حول رقبة الحصان، لكنها لم تتمكن من اَي من ذلك طبعا، بل اصيبت إصابات بالغة الشدة، أدت الى وفاتها بعد اربعة ايّام. انتشر خبر ذلك الحدث، او الحادث، حول العالم، وتضاربت الاّراء عالميا حول نشاط وكفاح تلك المنظمة، ما بين مؤيد ومعارض.

في عام 1914 تم تعليق نشاط المنظمة بسبب اندلاع الحرب العالمية الاولى، حيث قررت النساء توجيه اهتمامهن وجهودهن نحو خدمة البلد خلال الحرب، فأوقفت الناشطات السجينات اضرابهن عن الطعام. بعد أقل من شهر على اندلاع الحرب أصدرت الحكومة البريطانية عفواً عن اولئك السجينات، وكانت المنظمة قد أوقفت اعمال العنف كليا. كان لموقف النساء ذاك أثراً كبيراً على الرأي العام، حيث ازداد عدد المؤيدين لمطالب المنظمة، بعد ان تسببت اعمال العنف والشغب في استياء الكثيرين منهم.

 في عام 1918 صدر قانون يمنح المرأة حق الاقتراع بعد ان تتجاوز سن الثلاثين، في الوقت الذي كان الرجل فيه ينال ذلك الحق عند بلوغه سن الحادية والعشرين. كما ان الاستمتاع بحق الاقتراع لم يشمل جميع النساء من تلك الفئة، اذ كان يُشترط ان تكون من اصحاب الاملاك كذلك. ورغم ان ذلك القانون حينئذ شمل ما يزيد عن الثمانية ملايين امرأة، الا ان الكثيرات حُرمن من المشاركة في التصويت في الانتخابات بسبب افتقارهن لشرط الملكية او شرط العمر، او كليهما. في أواخر عام 1918 صدر قانون يجيز للمرأة الترشيح لنيل مقعد في البرلمان. وبعد عقد من الزمان، في عام 1928 صدر قانون يعطي المرأة حق الاقتراع عند بلوغها سن الحادية والعشرين، أسوة بالرجل، واصبحت شروط مشاركتها في التصويت والانتخاب مماثلة لتلك التي تطبق على الرجل.

نسمع ونقرأ دوما ان الحقوق تؤخذ ولا تُمنح، وذلك قول صحيح بلا شك، ولكن ألا يجدر بالفرد معرفة حقوقه كي يتمكن من الحفاظ عليها والتمتع بها، والمطالبة بها والكفاح من أجلها فيما لو سُلبت منه؟ اولئك النساء ناضلن وقدمن التضحيات لأنهن كنّ يعرفن أهمية اختيارهن لمن يمثلهن في البرلمان؛ هيئة صنع وإصدار القوانين والقرارات التي تمس حياة الناس بشكل مباشر او غير مباشر. كانت المرأة تعلم جيدا ان صوتها هو السبيل الى نيل حقوق وحريات حُرِمت منها، وكانت تؤمن بمقدرتها على إحداث تغيير قد يخدمها، ولكن المؤكد انه سيخدم نساء أجيالٍ تأتي بعدها. لقد امتلكت اولئك النساء الوعي الكافي الذي مكنهن من ترتيب اولوياتهن بشكل صحيح، فقمن بأعمال شغب لأجل ان تُسمع أصواتهن عندما كان وطنهن ينعم بالسلام، ولكن ذلك تغير عندما دارت رحى الحرب، فأصبحت الاولوية للوطن والشعب، مع عدم التخلي عن الإيمان بالحق والمطالبة به حين يعم السلام مرة اخرى.

الوعي كلمة عامة وواسعة جدا، ولكن اهم جوانبه برأيي هو فهم الفرد العميق والتام لقيمته الانسانية، وادراكه لمفاهيم الحقوق والحريات العامة، ومن ذلك ينبع فهمه وادراكه لحقوقه وحرياته وما لها من أهمية في الحفاظ على كرامته وقيمته كإنسان، وتأثير ذلك بالنتيجة على حياته، التي يجب ان يعيشها بسلام وخير ورفاهية. قد تكون قيمة الوعي هي الفيصل الذي يميز الحاكم المخلص عن من سواه، لأن اهتمام الحكومة بنشر الوعي والعمل دوما على رفع مستواه بين أفراد الشعب ما هو الا دليل على ان تلك الحكومة تسعى الى السير بالشعب نحو حياة أفضل.

كم سمعنا عن أسلحة الدمار الشامل، ولكن مراقبة الأحداث التي مرت ولا تزال تمر ببلادنا، اثبتت ان لا سلاح يحدث دماراً اكبر من ذلك الذي يحدثه الجهل.