دلالات مدينة اسمها بغداد

العدد 87 – تشرين الثاني 2018

وسط الحارة القديمة ل بغداد، تقع نوافير الصمت الأبدي، يشهد المدى بأن اتساعاً لن يكون الفضاء له… إلاّ هذا الصمت… ويعجب العالم بالتأكيد من هذا الانقطاع الهائل السكون… أقراص رأس فارغة حسدها التعب والهم والقنوط، دفعة واحدة بلا منازع ودون طائل…

أخرسنا مشهد النوافير والأغنيات الراكدات في سوق الحيارى… تعب مخيف، يحيط بأزمنة الصراخ، والفراغ يأس مذهلٌ على محك الوقت…

كل شيء انقطع عنا حتى الهواء.. فدخلنا دهليز العتمة وشاهدنا ما لم يكن حسبانه في دنيا الأيام… فما استطال مشهد الرواية حتى سرى تعب العودة إلى المكان… كانت روحاً محواً، لست أدري… كانت رحلة أفق أسود لم أعد أذكر… فالذاكرة هامت في معراج الجراح القديمة التي لكثرة ما نكئنا فيها

غرغر فيها الوحش الآثم، واستطالتنا المحن واستطاعنا الوجع…

كانت أغنية المسافة عرشٌ هائلٌ في حمرة مداه… لم يعد مستطاعنا سوى هذا الغياب اللابس مرارته القاتمة.

خيلٌ تطَوِّف أذيالها على بدن الضحايا، قبل تقديمهم أضحيات الأعياد المسطّرة بالوثن… أمجادها ارتطمت بزاوية المنافي، والمدن العالية، أرقامٌ تعدُّ مسافاتها على نور الثواني، وبين القضايا المعلّبة…

قال صاحبي للبلاد: لا تقارن آلامك بحكايا العروبة وأهلها، لأنك ستجد مشكلتك سخيفة جداً، ولا طعم لها !! ضحكتُ على البيداء والغيداء والعيس وأهل القرى، وتحاملت على راعٍ باع قطيعه على حافة النهر، والوادي، قبل الغروب، دخل بسباق مع الفصول، وارتوى بمجد اللحظات النائمة فيه… وقبل أن يغادر مأتم أيامه ولياليه، أحاط نفسه بتعب الأماكن الواهنة، وهمِّ الأوقات البليدة، وزنّرَ نفسه بدخان أسود، وأطلق على غربته احتدام الذاكرة… فمات قبل وفاته بسنين كثيرة…

أنه الزمان الضليل، الخائف من مكان البقايا… المتناثر على جبهات المغانم والأحقاد… المتراكض خلف حلقة الأدوار، يستغيث… آه ما أكثر الموت وما أقلَّ الحياة… الحياة أقل كلفة من الموت، ما أعظم العراق… وما أصغر النفاق…

أتخيّل وطناً بلا حرية، إنه كسجن كبير تُعتقل فيه الإرادات التي لا ترسم خطوطها على لوحة القضايا الكبيرة، والامور العظيمة… لكني لا أتخيّل أبداً بشرياً بلا كرامة – منزوع الارادة ذاتياً – ليهيم كي يقتات من فضلات موائد المنتصرين… وما أكثر هذا النوع من البشر…

أتخيّل إنساناً بلا الله، لكني لا أتخيَّل بشرياً لا يثق بنفسه كي يعتق عبداً مخافة أن يقتله إذا ما نال حرية اعتقاده وإيمانه…

أتخيّل حسوداً لا يدري بأي عين وقلب يُصيب، لكني لا أتخيّل حقوداً لا ينسى إساءته لنفسه وإساءة الآخرين إليه…

أتخيّل عقلاً بلا ناموس، وقلباً بلا وجدان، لكني بالتأكيد لا أتخيل دماً بلا لون، يسكن ملايين البشر الحمقى…

أتخيّل هذا الكون لأكبر فقير حرّ في العالم، لكني لا أتخيّل أني وُلدتُ دون نسمة حظ تؤكد إنتسابي إلى رقعة الوجود…

أتخيّل أني بلا خيال، وبلا عقل، وبلا قلب… لأني لا أعرف أن أرسم صورة الله… لكني لا يمكن أن أتخيَّل ذاتي بلا الله…

أنا تعبٌ من خيالك يا رب… فاحملني إلى مغفرتك ورحمتك الواسعة التي لا أظنها تضيق بي في رحابك الكبير…

أرجو أن لا تترك عبدك وحده مع هذا السواد المخيّم على روحي، نبضي، وجسدي، فلن يكون لعقلي متسع من الوقت كي أجّمل ذاكرتي بحكاية خلاّقة عنك…

أعرفكَ أجملَ الأشياء وأبهى العقول، وأرقى النسمات، فاجعلها منك اليّ أجمل التحيات وابلغ الحقائق وأفضل الهدايا، لأكون لك راقص الموت الأزلي…

تخيّل معي صورة المكان العظيم… تخيّل..