البنك الدولي قلق .. واهتزاز ثقة المكتتبين بسندات الدين -لبنان.. اقتصاد على حافة الهاوية

بيروت  هيثم محمود

تزحف العتمة تدريجاً على المناطق اللبنانية التي بات معظمها مهدداً بالظلام، فأزمة الكهرباء القديمة دائمة التجدد وهي التي أصبحت جزءاً من يوميات اللبنانيين. هذه المرة، ومن باب تأخر صرف الاعتمادات المالية المطلوبة لشراء الوقود الخاص لمعامل توليد الطاقة كما للبواخر المستأجرة من إحدى الشركات التركية، تخرج المجموعات الحرارية عن الشبكة واحدة تلو الأخرى بما يُنذر بتدهور وشيك. في لبنان وحدها الأزمات لا تفرق بين منطقة أو طائفة، فالبطالة كما الكهرباء تطال مختلف المناطق وتنهش الشباب الباحث عن فرصة لجمع القوت بعيداً عن أفكار بناء المستقبل التي أصبحت هي الأخرى مرتبطة بفكرة الهجرة أو بفرصة عمل في دولة ما أياً كانت، ولسان حال الشباب اللبناني يقول  »أطلب العمل ولو في الصين«، إذ لا وظيفة هنا ولا قرض سكنياً يمكن الاحتماء تحت سقفه، لا وسيلة للنقل العام منتظمة ولا هواء نقياً للتنفس، هنا الكثير من النفايات والتلوث والبطالة.

في بلد تحول الخلافات السياسية على المقاعد والحصص والوزارات من تشكيل حكومة سيكون على عاتقها تطبيق الإصلاحات الاقتصادية التي يحتاجها البلد، ثمة أزمة اقتصادية حقيقية. الصورة في لبنان سوداء وليست رمادية والدقيق أن الأمور دخلت نفقاً لا نوراً يلوح من نهايته.

السطور الواردة في هذه المقدمة انعكاس حقيقي لما يعيشه اللبنانيون بل قد تكون قاصرة عن التعبير عن حقيقة الوضع المعيشي الذي يعانونه. الحقيقة أن هذه المعاناة عموماً والجزء الذي يصيب الشباب اللبناني منها خصوصاً كان محور سؤال سعى  »البنك الدولي« لاستكشاف إجابات عليه في ندوة نظمها في الجامعة الأمريكية في بيروت فكيف يرى الشباب اللبناني مستقبلهم في هذه البلاد؟ هل يجب أن يكونوا متفائلين أم متشائمين؟«

الكهرباء  »أم المشاكل«

في هذه الندوة أطلق  »البنك الدولي« تقرير  »المرصد الاقتصادي: تقليص مخاطر لبنان«، الذي يعرض المخاطر التي تواجه لبنان واقتصاده بما لها ن انعكاسات سلبية في المستقبل. ويردّ الخبراء هذه الأخطار إلى أسباب بنيوية في الاقتصاد المحلي، وبات تراكم نتائجها يتطلّب تصحيحات هيكلية.

الكهرباء  »أم المشاكل« بحسب المدير الإقليمي في  »البنك الدولي« ساروج كومار، وتتطلّب إصلاحات لا بدّ منها لإعادة الأمل إلى الشباب… هذا القطاع هو أولوية الأولويات للمجتمع الدولي، ومن المؤسف أن نجد أي تطور حاصل في هذا الملف على رغم الحوارات الكثيرة التي أجريناها مع مختلف الفرقاء هنا. القطاع يولّد استثمارات ووظائف ومشاريع  »تحقيق تطلعات الشباب مرتبطة بالكهرباء«. للعبارة دلالاتها القاطعة والواضحة عن الأثر العميق الذي تسببه هذه الأزمة المستمرة على مدى سنوات والتي استنزفت نحو ثلث الدين العام اللبناني الذي بات اليوم عند 84 مليار دولار.

يرسم التقرير صورة قاتمة عن لبنان، ويشير إلى أن البلد، الذي اعتاد أن يعالج مشكلة ديونه بالاستدانة المستمرة وتأجيل الاستحقاقات، معرّض لأخطار قد لا يستطيع في ظلها تمويل العجوزات المالية والتجارية، نتيجة لتراجع قدرته على جذب الودائع، في ظل نمو اقتصادي متباطئ يُتوقع أن يبقى دون 2 في المئة، ما سيؤدي إلى استمرار تصاعد خدمة الدين، ونسبته إلى الناتج المحلي.

أسباب هيكلية

يرد التقرير الأخطار التي يواجهها لبنان إلى 3 أسباب هيكلية هي:

أولاً – نموذج النمو: تعدّ تنافسية الاقتصاد اللبناني ضعيفة إذ يحتلّ لبنان المرتبة 105 من أصل 137 دولة، ويعود ذلك إلى نموذج النمو المتقلّب، فبعد أن نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بمتوسّط 5.6 في المئة بين عامي 1993 و2010، عانت المحرّكات التقليدية للنمو )العقارات والبناء والتمويل والسياحة( منذ عام 2011 من الاضطرابات الإقليمية، بحيث تباطأ نمو الناتج وبلغ 1.7 في المئة كمتوسّط سنوي، كما حدّ من إمكان توليد الوظائف بحيث بلغت مرونة نمو العمالة في الأجل البعيد نحو 0.2 درجة مقارنة مع 0.5 في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فضلاً عن أن اعتماد النمو بشكل أساسي على الاستهلاك الذي بلغ متوسّطه بين عامي 2004 و2016 نحو 88.4 في المئة أدّى إلى تباطئه بعد وقف القروض المدعومة وتراجع الواردات نتيجة سياسات مصرف لبنان.

ثانياً – الحاجة إلى جذب الدولار: إن اعتماد لبنان نظام سعر الصرف الثابت، وانخفاض حجم الصادرات بدءاً من عام 2008 وتفاقمه بعد الحرب السورية، وبالتالي ارتفاع العجز التجاري من معدّل 16.3 في المئة من الناتج المحلي )2002-2010( إلى 20.1 في المئة )2011 ــــ 2017(، يجعل لبنان مُلزماً تأمين تراكم فائض في الأصول الأجنبية الصافية من خلال الودائع والاستثمار الأجنبي المباشر والتحويلات، لتمويل عجوزاته وتثبيت سعر الصرف. إلا ان تراجع هذه التدفقات المالية جميعها منذ عام 2011 أدّى إلى تراجع تراكم هذه الأصول من متوسّط سنوي بنسبة 9.3 في المئة من الناتج بين عامي 2002 و2010 إلى 4 في المئة بين عامي 2011 و2017. وهو ما أدّى إلى إطلاق مصرف لبنان سلسلة الهندسات المالية الكبيرة، التي لم تمنع معاودة تسجيل انخفاض في صافي الأصول الأجنبي.

ثالثاً – تقلّص المساحة المالية: بلغ متوسّط الإنفاق على خدمة الدين والتحويلات إلى كهرباء لبنان والأجور 76 في المئة من إجمالي الإنفاق العام خلال العقد الماضي، وهو ما أدّى إلى انعدام المرونة في نفقات الميزانية، وبالتالي حدّ من الحيّز المالي للتفاعل مع الصدمات ومن إمكان الإنفاق على الاستثمار العام.

تعديل النمو

ومع تركيز التقرير على الظروف المالية الكليّة في لبنان، كان لافتاً تعديل توقعات  »البنك الدولي« لنمو الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي للعالم 2018 حيث تم تخفيض النسبة المتوقعة الى واحد في المئة، فتوقّف القروض المدعومة من المصرف المركزي أدى الى تأثر الاقتصاد الحقيقي بشكل كبير. وتوقّع التقرير ان يؤدي الارتفاع في الانفاق الجاري الى زيادة العجز المالي من 6.6 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي بشكل استثنائي في العام 2017 الى 8.3 في المئة في العام 2018.

في هذه الرؤية، يُعتبر التنفيذ السريع لالتزامات مؤتمر  »سيدر« اساسياً للمساعدة في التعويض عن تراجع الثقة، خصوصا ان الحكومة عرضت في المؤتمر  »رؤية لتحقيق الاستقرار والنمو وخلق فرص العمل، حيث تعهّدت بضبط الاوضاع الماليّة بنسبة 5 نقاط مئوية من الناتج المحلّي الاجمالي على مدى السنوات الخمس المقبلة، ويتوجب تحقيق ذلك من خلال اجراءات تتعلق بالإيرادات بما في ذلك تحسين آلية الجباية والحد من الثغرات وتخفيض الانفاق«.

الثقة مهتزة

ما لم يشر إليه تقرير  »البنك الدولي« حضر في اجتماع دبلوماسي رفيع المستوى اطلعت  »الحصاد« على بعض تفاصيله. فقد ضم الاجتماع ممثلين عن  »البنك« والأمم المتحدة وسفراء غربيين ودبلوماسيين. وأشار المتحدثون فيه إلى أن ثقة المستثمرين الدوليين في سندات الدين اللبنانية الدولية أصبحت مهتزة وأن لبنان، الذي يدعم شركة الكهرباء الدائمة الخسارة بنحو 1.4 مليار دولار سنوياً، قد لا يستطيع جمع أي تمويل إذا طرح سندات في السوق الدولية في هذه الفترة.

وفي معلومات  »الحصاد« أن وفوداً أو مندوبين عن صناديق استثمار دولية تحمل في محافظها سندات  »يوروبوند« لبنانية زاروا بيروت مؤخراً لاستجلاء آفاق الحلول للأزمة السياسية التي تعيق تشكيل الحكومة. وتشير المعطيات الى ان هؤلاء عادوا خائبي الأمل بوصول وشيك الى تأليف الحكومة التي سيشكّل وجودها تجديداً للثقة من المجتمع الدولي بلبنان خصوصاً أن هذه الحكومة سيكون عليها اتخاذ إجراءات إصلاحية تعهد بها لبنان أمام الدول المانحة في مؤتمر  »سيدر«.

أبرز الوفود التي حضرت كان بقيادة  »غولدمان ساكس« وضمّ صندوق  »بلاك روك« الذي يعدّ أكبر مستثمر أجنبي في السندات اللبنانية. الصناديق التي تمثّلت في الوفد تحمل سندات بقيمة 1.2 مليار دولار، ما يعادل 17 في المئة من إجمالي السندات التي يحملها الأجانب والبالغة سبعة مليارات دولار وفق إحصاءات  »غولدمان ساكس«.

 »بلاك روك« يحمل في محفظته سندات يوروبوندز بقيمة مليار دولار، و »اليانز«،  »أي بي جي«، و »براندي وأين«، يحملون في محافظهم سندات بقيمة 200 مليون دولار، وفق مصادر مطلعة.

الصناديق الاستثمارية قلقة من أنه لن يكون بإمكان الحكومة اللبنانية إقناع حاملي السندات بتجديد اكتتاباتهم في الإصدارات الجديدة، حتى لو كانت لديها القدرة على الإيفاء بالاستحقاقات، وأنه إذا لم يكن لديها القدرة على استقطاب تمويل جديد، فهذا يعني أن الثقة الأجنبية بالوضع اللبناني تتضاءل. هم يبحثون عن عوامل الثقة بحكومة لبنانية لم تتشكل بعد ستة أشهر من انتهاء الانتخابات النيابية، ويقيسون مستوى المخاطر السياسية والاقتصادية والنقدية بتوظيفات أموالهم حتى الآن. هم يبحثون عن طمأنات، أو ضمانات للاستمرار في حمل محفظة من السندات تتيح لهم القيام بعمليات مضاربة مربحة.

المؤشّر الوحيد الذي حصدته زيارات الصناديق للبنان يكمن في الاحتياطات بالعملات الأجنبية بلغت 45 مليار دولار. سمعوا طمأنة عن أن الأزمة التي يمرّ بها لبنان لن توصله إلى مرحلة التخلف عن سداد الديون، وأن البلد له تاريخ ممتاز من الالتزام بسداد الديون، رغم كل الأزمات التي مرّ بها.

العدد 87 –كانون أول 2018