الأدب الوجيز، على خُطى: خير الكلام ما دلّ وإن قلّ

نسرين الرجب لبنان.

وإضاءة على كتاب »غلامٌ يطارد مجرّة«، لمحمود وهبة

أدب النصوص القصيرة النفس، ما تلبث أن تتوثّب الذائقة لالتقاط المعنى حتّى ينتهي النص، فتقف مندهشا لا يكفيك قوت العبارة لتدرك الخفيّ من الكلام، بل تشعُر بأنّ المعنى لم يوف حقّه من التعبير ، هل هو خير الكلام ما دلّ وإن قلّ!! أم أننا أمام نماذج نصوص قليلة الصبر؟! هل تقنع الذائقة الأدبيّة بعبارة قد تكون سطرا في قصيدة شاعر آخر، تحت مسمى قصة قصيرة، أو قصيدة قصيرة؟ وهل تصلح هذه التصنيفات )قصة، قصيدة( لهذا النوع من الكتابة ؟!

بعض المنظّرين لهذا النوع من الكتابة، يُرجع عدم فهم المتلقّين لمعاني المقول في النصوص الوجيزة، الغامضة جدّا في أحايين كثيرة، بأنّ جمهورها هم النخبة؟! وهذا الكلام غير عادل في إشارته، فالمعنى الكثيف ليس حكرا على الشعر الحديث، قد نجد معان ٍكبيرة في شطر شعريْ من قصيدة عموديّة قديمة، والشعر ليس حكرا على النخبة، فالشعر هو ابن الشارع، وابن البيئة، أيضا، وعندما ينغلق المعنى على فاهميه ،عند الاستماع لهكذا نوع من النصوص، قد لا تكون المشكلة في المتلقّي الذي قد لا يكون ملمّا كثيرا بدلالات الرمز والتاريخ، بل في الشاعر الذي يُحكم إغلاق نصوصه بحيث لا تتجاوز الآذان حتّى تنغلق على الأفهام، وليس هذا ـ غالبا  بدليل قوّة في!! فالشعر من الناس وإليهم يعود، هو ليس لتلك الفئة المعتدّة بثقافتها ، وإلا فليبقى أسيرها لا يتعدى مجالسها؟! وهذا ليس دعوة للكتابة السهلة، بل للكتابة الصادقة المبدعة والمنفتحة في آن على اختلاف الذائقات الأدبيّة.

وبعيدا، عن هذه الإشكالية، إشكالية الغموض والنخبة إن صحّت التسميَة، الأدب الوجيز هو أدبٌ يدفعك إلى التخيّل، التوقف، والتنكّر لآنية اللحظة، وللشعر أن يمُتع متلقّيه أن يأخذ بيده، أن لا ينغلق على فكرته، أن يتّسع للجميع، لا أن يتعالى عليهم بحجج الغموض والتكثيف.

المقال هنا هدفه الإضاءة، وهو بعيد عن كونه بحث أو دراسة.

الأدب الوجيز، حركةٌ أدبيّة حديثة لها منظريها

 يقول الشاعر أمين الذيب )وهو من المؤسسين لملتقى الأدب الوجيز في لبنان( في مقالة عن الأدب الوجيز: »يعتمد الأدب على التكثيف والذهاب الى اكتشاف طاقة المفردة، بحيث يتم التخلص من الزائف والعرضي وبناء لغة صحيحة باستخدام ما ترمي إليه الألفاظ بجوهرها لا بظاهرها، من خلال تقنيات التضاد والتوازي، أي الترابط بين الثابت والمتحوّل، …مؤدّى المعنى سوف يؤدي معنى التجربة الواحدة مع كثرة المتلقّين، …. وحسب المعنى تحرّي الراكد وإثارة المخبوء، ليحقق فعله الذي وُجد من أجله«.1

تبدو مهمّة هذا الأدب جديرة بالاهتمام، وعظيمة المدارك، بإمكاننا القول إنه أدبٌ يعوّل على المعنى، ومعركته هي إثبات قدرة اللفظة على تجاوُز آنيتها وحصريتها وقدرتها على التوليد والتوالُد، باستخدام تقنيات التضاد والتوازي، )اللعب بالكلمات(، وفي مقامات كثيرة شهدنا تعريفات كثيرة لهذا النمط الجديد من الكتابة إذ أمكن القول، في لبنان الأدب الوجيز وفي العراق هناك تسمية الأدب الموجز، والأدب الوجيز، والذي هو مصطلح حديث النشأة في تركيبته اللفظيّة الدالة، على الرّغم من أنه ورد كثيرا في التسميات الأدبيّة ، ومنها كتاب ابن المقفّع، »الأدب الوجيز للولد الصغير«، هو حديث كمنتدى أدبي تأسّس من مدّة ليست ببعيدة، )ولسنا بوارد التأريخ له( وقديم في نشأته كمفهوم للأدب، نجد له نماذج في قصيدة الهايكو اليبانيّة، وفي نماذج لشعراء وقاصيّين اختاروا كلمات قليلة ليقولوا من خلالها معانٍ كثيرة، ومع سعي المنظّمين إلى لبننته، تميّزت الحركة الجالبة حوله بالنشاطات المتظهرة في إقامة الندوات، وكتابة المقالات التنظيريّة والنقديّة المعرفّة به والساعيّة إلى نفي سِمة البساطة عنه، ومما جاء في التعريفات »الوجيز هو الكلام البسيط السريع في الوصول إلى الفهم، إن هذا المفهوم قديم… في نسبته إلى علم المعاني،… والإيجاز هو سياق كلام قصير.. يدل على معنى كبير، والهدف منه هو البحث عن القواسم المشتركة بين النصوص، التي لا تقف عند حدود الشعر فتضّم القصّة القصيرة جدّا…«، وهو كما نفهم من الداعين له يواكب التحوّل الفنّي وتطوّرات الحياة الجديدة، وقد أطلق على الومضة الشعريّة يقظةٌ وموقفٌ.

غلامٌ يطارد مجرّة

كتاب »غلامٌ يطارد مجرّة« لمحمود وهبة، يمثل أنموذجا حداثيّا عن هذا الأدب، وهو صادر عن دار النهضة العربيّة، في طبعة حديثة. يحتوي الكتاب على 37 نصّا، تتفاوت النصوص في الحجم بين القصير والقصير جدّا ، العناوين كثيرة الإيحاء، معبّأة بالدلالات )ضجر، تساؤل، أمزجة، هذيان، سؤال، 1..سؤال 2، عزلة، حيرة، وحيدك، أنا وظلي، نهايات، عطلة نهاية الأسبوع….( بعيدا عن مدى ارتباط العناوين بالنصوص المقدّمة، من حيث البناء، هي غالبا ما أتت على شكل مفردة، أو جملة اسميّة، لا تحمل انفعالا ما، بل تحمل حالة وجوديّة.

مُرسِل يتلفّظ على سبيل العدم بكلمات عُليا، ليوقظ حسّ الصمت المنتشر في أصقاع الصفحة البيضاء، فالعزلة والضجر والوحدة والحيرة والهذيان كلها دلالات تركيبيّة ذات صلّة شعوريّة، هي ليست بالكلمات الجديدة أو المستحدثة، ولكن سياقها كعنوان يحمل مشهدا خاصّا.

 في نص بعنوان: »عطلة نهاية الأسبوع« يقول: أنتظركِ في المحطة/ أعلم أنكِ لا تأتين!« الانتظار هنا سِمة من سِمات الحب، عادة عبثية من عادات العاشق ، نهاية الأسبوع هو المحطة، هو يعلم أنها لا تأتي النفي قاطع مع فرضية العلم بالأمر، التيقّن من الخيبة، فعل وفاء يتحدى المنطق، ويراهن على فعليّة الحب، المرسِل هو الشاعر، المرسَل اليه »هي« قد تكون الحبيبة، المُرسلة هو الانتظار ، الجواب لا تأتين، ففعل الانتظار لم يحقق غايته.

وكمثال عن نصوص تبدأ شعريتها عند نهايتها، بما تتركه من تردُدات وتخيُلات عند قارئها: »حيرة« يقول: »لماذا لا نفعل/ ما لم نفعله من قبل« هل هو تساؤل أم ضرب في الفلسفة، لماذا لا نفعل ما لم نفعله من قبل؟ ينتهي النص .. تبدأ الحيرة..

يقول الدكتور صالح ابراهيم، الذي كان متواجدا بصفة ناقد أدبي، في الملتقى2 الذي ضمّ الشاعر محمود وهبة والشاعرة فاتن حلال، فجاء نقده عن نصوص محمود: »يحاول جاهدا أن يصنع من نفسه ما يمكن أن يكون مميّزا«، وأضاف أنّ نصوصه : »تخدش أحيانا سذاجة البعض لذلك يصل إلى المعنى العميق أحيانا كثيرة، وأعطى مثالا من نص يقول فيه: كيتيم/ امسحي على رأسي/ كصلاة/ لا /تصل/ إلى / الله، وتحدّث عن المعنى المخبوء في كنف العبارة قائلا بأنّ: »الصلاة التي لا تصل هي غير تلك الصلوات، لا يقصد الصلوات العباديّة الواجبة، هي الصلوات المنقوصة، التي تفيض منه، هو يبخل فيها على الله«، وأضاف بأن الشاعر يمعن العقل وهو الغاية القصوى، فالغاية أن يصل الشعراء إلى الرمز الذي يحاكي الفلسفة، ومن هنا تحضر قيمة الرمز في هذا النوع من الكتابة، لما يكتنزه من قوّة دلاليّة في تفجير طاقة المعاني، وفي حديث الدكتور صالح ابراهيم عن الحب كما جاء في معاني الشاعر يقول: »لا يقبض عليه الحب، الحب مكمود في قعر البحث عن المعنى، المعنى هو المقصود وليس الحب«.

 تتكرر ملفوظ كلمة الحب في عدّة مكامن من نصوص الكتاب، ولكنّه الحب الواعي وليس الهائم على صبابته، »أحبك/ لأنك قصيدة نثر موزونة« التضاد بين النثر والموزون في صفة القصيدة يحقّق مفارقة جاذِبة ومثيرة للاهتمام، وكأنّه يريد القول أن الحبيبة مستحيلة وكوْنٌ من التناقضات، »حين تموتين/ سأتغزل بك فعلا/ الموت يجعلني أكثر صراحة/ أكثر وقاحة« ، يعلّق الدكتور صالح ابراهيم في حديثه عن الموقف الذي تصنعه نصوص محمود : »الومضة طعنة أحيانا ، محمود يجيد تسديد الطعنة«، وعلّق على نص بعنوان »نهايات« يتحدث فيه الشاعر عن موقفه من المدينة: »مدينتي على بشاعتها/ مدينة الأنبياء/ الذين سكنوها./ دمٌ آخر الشارع/ فرحٌ آخر يوشك أن يندثر«. »…معاديّا للمدينة كمعظم الحداثيين كما وصّفه، ويشطح بوعي أو بغير وعي صوب الدادئيين… استطاع في تجربة قصيرة أن يكدّس تجربة يترك للمتلقي فيها البحث …«.

في نص بعنوان »هذيان« : يشبّه حياته بالهذيان، الذي يشبه عينان فارغتان، ظل أسود، سائق تاكسي لا يعرف شوارع المدينة حتى يقول: » Piscine فارغ في حر الصيف..« وفي ذلك يشير الى افتقاد المعنى، واللا جدوى، عدم الفائدة من الموجود على الرغم من وجوده، وقد يؤخذ على الشاعر استخدام لفظة اجنبية شائعة في الدارجة اللبنانيّة وكان بإمكانه القول »مسبح« ولكن قد يكون المقصد هو صدم المتلقي والاستحواذ على انتباهه.

يختم محمود وهبة ، كتابه بجملة يقول فيه »أشك بأني شاعر« هل هذا من قبيل التواضع، أم أنّ الشك باب يُفضي إلى اليقين، أم هو طرح يجّس فيه الكاتب نبض المتلقي، في الحكم على ما قرأه؟!

في مجرة الشعر ها هنا محاولة لكاتبٍ يطارد المعنى، يلتمسه، كلما ابتعد عنه اقترب، في حالة مطاردة، أشبه بمغامرة، مثيرة للاهتمام، فالكثير من نصوص محمود فجائيّة وغنيّة، تتميّز بتنوّعها على مستوى الموضوع، فهو يواكب حركة الزمن المعاصر ويتماثل جدّا مع حالة مُساءلة المعنى التي يعايشها الإنسان الحالي، ما يقوله في هذه النصوص لا يقف عند حدود السمع، شيء ما يتلقّاه المتلقّي بذاته ولو أنّ مقاصد الشاعر تغيب عنه في القراءة الأولى ولكنّه يحفر داخله حالة استجواب وتجاوُب، لا تنتهي بانتهاء المقول، الكتابة لديه ليست فعل سلام، بل أشبه بمعركة » حين أكتب عن شيء/أجهله أو أعرفه/ أهتزّ/ أتطاير أشلاء/ تتجمّع حولي أسراب طيور منسيّة/ تراودني أفكار بالقتل/ أتشرد في وطني/ مثل غلام يطارد مجرّة/…«.

1 ـ نُشر في جريدة البناء بتاريخ 16 سبتمبر 2017.

2 ـ اللقاء كان من تنظيم ملتقى الأدب الوجيز، عُقد في مجمع حبوش الخيري ـ النبطية، بتاريخ 26/10/2018.

 

العدد 87 –كانون أول 2018