قلاقل فرنسية وطلاق بريطاني وصعود لليمين المتطرف -أوروبا: مرض القارة العجوز

محمد قواص*

لا يمكن النظر إلى الحدث الفرنسي إلا من خلال قراءة واسعة للتطورات التي طرأت على المشهد الأوروبي برمته منذ أن اختار البريطانيون في استفتاء شهير عام 2016 الخروج من الاتحاد الأوروبي. ولا يمكن تحليل ظاهرة  »السترات الصفراء« في فرنسا وانتقال عدواها إلى دول أوروبية أخرى، إلا بتفحص أعراض العلل داخل النادي الأوروبي الكبير الذي فتح المجال لصعود التيارات الشعبوية واحزب اليمين المتطرف داخل بلدان عديدة من بلدان الاتحاد الأوروبي.

غير أن الثابت أيضا أن التطور الأوروبي لا ينفصل عن ذلك الأميركي الذي أتى بدونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة. فالرجل الذي يترأس أكبر دولة في العالم حمل إلى البيت الأبيض أفكار اليمين المتطرف الأوروبي فطورها وعظمها وأعاد تصديرها إلى الأوروبيين مدعما بتواطوء روسي مبطن يتقاسم مع ترامب كرهه للأوروبيين واتحادهم.

استفاقة ماكرون

انقسم الفرنسيون حول تقييم الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي بعد أسابيع على اندلاع حراك  »السترات الصفراء«. أعلن إيمانويل ماكرون مجموعة من الإجراءات الفورية والأخرى الآجلة التي تطال البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للبلاد. ففيما قدر عدد من شاهد خطاب ماكرون بحوالي 23 مليونا، كشفت استطلاعات الرأي أن 50 بالمئة من الفرنسيين وجدوا خطاب ماكرون مقنعاً، فيما اعتبر 49 بالمئة أنه غير مقنع وأن إجراءات الرئيس الفرنسي غير كافية.

جاء خطاب ماكرون بعد فترة صمت انتهجها منذ عودته من قمة العشرين في بيونس آيريس، على نحو أثار أسئلة حول الاستراتيجية التي يعتمدها الرئيس الفرنسي من خلال هذا الصمت مقابل حيوية أظهرها وزراء حكومته، لا سيما رئيسها إدوار فيليب، الذي توقعت بعض التحليلات أن يتخلى ماكرون عنه ويقدمه أضحية لتهدئة تحركات أصحاب  »السترات الصفراء« الذين بدأوا تحركهم في قبل أكثر من 4 أسابيع.

ولفت مراقبون إلى أن الرئيس الفرنسي قدم خطابا استيعابيا اعتذاريا، وأن كلمات الخطاب اختيرت بعناية لتحاكي حساسيات كافة المكونات الاجتماعية والاقتصادية الفرنسية.

ولفت هؤلاء إلى أن ماكرون اعترف بشكل مباشر بأنه يتحمل قسطا من الأزمة وأن بعض تصريحاته قد جرح قسماً من الفرنسيين. إلا أنهم رأوا في الخطاب سعياً جديا من قبل الرئيس الفرنسي لتقديم نفسه بصورة جديدة للفرنسيين.

ولفتت بعض الأوساط السياسية الفرنسية إلى أن خطاب ماكرون يعد انقلابا حقيقيا على أدائه السابق، وأن الرجل يتخلى عما الصق به من تهم تعتبره رئيس الأغنياء، وأن ما أعلنه من إجراءات يعتبر تراجعاً حقيقيا عن ليبرالية مفرطة انتهجت حكومته.

وذهب بعض المحللين إلى استنتاج نزوع ماكرون نحو اليسار وأن ما اتخذه من قرارات، سواء من خلال رفع الحد الأدنى للأجور وإلغاء بعض الضرائب والوعد بإلغاء ضرائب أخرى لاحقا والتعهد بعدالة في توزيع الثروة تلغي الامتيازات التي يتمتع بها أصحاب الثروات، لا يمكن إلا تصب داخل منحى يساري يبتعد عن الليبرالية التي لطالما دافع عنها.

وقالت مصادر اقتصادية مراقبة إن إجراءات الرئيس الفرنسي ستبلغ تكلفتها 10 مليارات يورو يضاف إليها 4 مليارات أخرى هي حجم كلفة تخلي حكومة إدوار فيليب عن الضرائب التي فرضت على قطاع المحروقات والتي تسببت مباشرة في انفجار ظاهرة  »السترات الصفراء«.

وأضافت هذه المصادر أنه لا يمكن اعتبار أن ما قدمه ماكرون وحكومته شكليا ذلك أن صبّ 14 مليار يورو ليس مبلغاً يسيراً، وأن تحولات ماكرون جذرية وحقيقية ويفترض أن يكون لها تداعيات مباشرة على كافة القطاعات الاقتصادية.

الصفعة

شدد مراقبون على أن ماكرون تلقى صفعة قوية من قبل الفرنسيين الذي أيدوا تحرك  »السترات الصفراء« بنسبة 75 بالمئة. وقال هؤلاء إن فرنسا تحتاج إلى إصلاحات بنيوية طال انتظارها، وأن الناخب الفرنسي اختار ماكرون رئيسا مطيحا بمرشحي اليسار واليمين معوّلا على وعود أطلقها في حملته الانتخابية. إلا أن غضب الشارع الفرنسي عبر عن رفض لأن تدفع الطبقة الوسطى والفقيرة فاتورة الاصلاحات التي يدفع بها ماكرون، فيما رمزية إلغاء الضريبة على الثروات الكبرى تعكس نهجاً استفزازيا فهم حماية للأغنياء على حساب الطبقات المحدودة الدخل.

ويعتبر رد فعل  »السترات الصفراء« المتحفظ المنقسم والرافض لخطاب ماكرون منطقيا. ويرى الباحثون في العلوم الاجتماعية أن أي تنفيس للغضب الجماعي يحتاج إلى عوامل عدة قد لا تظهر نتائجها بشكل فوري. ويلفت هؤلاء إلى أن النجاح المذهل لحرك  »السترات الصفراء«

بوتين المتهمة بالوقوف وراء انتخاب ترامب وزلازل اوروبا

أغرى أصحابه بالذهاب بعيدا في مطالبهم. ففيما يذهب البعض إلى المطالبة باستقالة ماكرون، وهو أمر لم يحصل في تاريخ الجمهورية الخامسة، يعتبر آخرون أن إجراءات ماكرون ليست على مستوى الحدث، لا سيما زيادة الحد الأدنى للأجور بمبلغ 100 يورو، وبالتالي فإنهم يطالبون بالمزيد من الإجراءات المقنعة لإخراج المحتجين من الشوارع.

وفيما قالت الأنباء أن أصحاب  »السترات الصفراء« رفضوا خطاب ماكرون ودعوا إلى استمرار التحرك، يتساءل المراقبون عن هوية من رفض ودعا طالما أن ليس لهؤلاء شكل تمثيلي شرعي حقيقي بإمكانه دعاء التحدث باسم هذا الحراك.

ولفت هؤلاء إلى أن مجموعة أطلقت على نفسها اسم  »احرار السترات الصفراء« قد أعلنت انشقاقها وتسعى للتفاوض مع الحكومة، قد تلقت تهديدات بالقتل، على نحو يؤشر إلى تصدع داخلي قد يضعف شرعية التحركات، كما سيضعف من التأييد الذي حظي بها هذا الحراك من قبل الرأي العام الفرنسي.

ويعتبر المحللون أن مواقف أولي اليسار ومتطرفيه، كما مواقف أولي اليمين وشعبوييه، في رفض خطاب ماكرون وانتقاد الرئيس الفرنسي، هي مواقف انتهازية تهدف إلى ركب موجة التحرك الشعبي الذي أتى من خارج أي إطار حزبي أو نقابي، من أجل تصفية الحسابات مع الإليزيه والدفع إلى حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة قد تحسّن من حصصهم التي قلصتها الانتخابات الأخيرة لصالح حزب ماكرون،  »الجمهورية إلى الأمام«.

لكن الحكاية تبدأ حين تفاجأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالحراك الواسع الذي أظهرته  »السترات الصفراء«. تفاجأت المنظومة السياسية التي أرساها الرجل في باريس على نحو صاعق، قد يشبه هول الصدمة التي أصابت الطبقة السياسية التقليدية، حين أطاح بها ماكرون في الانتخابات الرئاسية عام 2017، وشكّل ظاهرة عجيبة خارجة عن المألوف والمعروف في السياسة الداخلية الفرنسية.

السترات الصفراء

يخرج أصحاب  »السترات الصفراء« عن أي سياق سابق. لا ينتمي هؤلاء النشطاء إلى أحزاب سياسية تصنفهم يسارا أو يمينا، ولا ينطلقون من أُطر نقابية تقود حراكهم وتنظمه وفق تقاليد التاريخ النقابي القديم. يشبه هذا الحراك ذلك الذي انفجر في المنطقة العربية عام 2011، في ما أطلق عليه اسم  »الربيع العربي«، من حيث أن الجماعات التي تحركت في تونس، ثم بعد ذلك في مصر وبلدان أخرى، خرجت بشكل عفوي غير منظّم ومن دون قيادة ودون أهداف أيديولوجية محددة.

وعلى هذا تبدو فرادة ظاهرة  »السترات الصفراء« متناسلة، للمفارقة، من فرادة ظاهرة ماكرون في التاريخ السياسي الفرنسي الحديث، لا سيما في عهد الجمهورية الخامسة منذ عام 1958. فإذا ما ارتجل الرئيس الفرنسي الشاب منظومة سياسية لا تعتمد على الأحزاب التاريخية التقليدية الكبرى، لا سيما الديغولي والاشتراكي منها، وإذا ما تخلى عن منظومات سياسية لها باع عتيق داخل الدولة العميقة، فإن الحراك الشعبي الطارئ يتسرّب، على ما يبدو، من شقوق الزلزال الذي أحدثه ماكرون قبل 18 شهراً داخل جدران البناءيْن السياسي والاجتماعي للبلاد.

ومن الحكمة عدم التسرّع في إطلاق الأحكام الجاهزة لدراسة وقراءة ظاهرة  »السترات الصفراء« كما عدم التعجل في استشراف مآلاتها في راهن فرنسا، كما راهن أوروبا المحيطة. تراجعت الحكومة الفرنسية عن قراراتها الضرائبية التي فجرت الحراك، فـ »ما من ضريبة تستحق

تعليق: كيف فاجأت  »السترات الصفراء« فرنسا

أن تصبح وحدة البلاد في خطر«، وفق رئيس الوزراء إدوار فيليب. بيد أن ذلك لا يعني أن الأمر سيقود إلى هدوء آلي للعاصفة التي هبت على البلاد منذ أسابيع، كما أنه لا يعني أن هذا الحراك الذي دعمه الفرنسيون بنسبة 75 بالمئة، وفق استطلاعات الرأي، لن يفقد، وفق ذلك، مسوغ صعوده ونجاحه.

وحدها مارين لوبن، زعيمة حزب  »الجبهة الوطنية« اليميني المتطرف، ترى في انهيار ماكرون ومنظومته مصلحة تصبّ مباشرة لصالحها

قد يكون أمر الحراك مبهرا لا سابق له. أما الإبهار، فذلك عائد إلى كثافة التغطية الإعلامية المحلية، كما الدولية، لحراك استخدم رمزية  »السترات« في اجتياح الفضاء العام. قبل ظهور التسونامي الأصفر لم يكن حراك الفرنسيين جامدا. أخذت تحركاتهم أشكال إضرابات واعتصامات ومظاهرات قامت داخل قطاعات الصحة والنقل والتعليم، لكن التغطية الإعلامية بقيت تقليدية بسبب تقليدية الوسائل وأدوات التعبير. وأما أنه لا سابق له، ففي ذلك جهل بتاريخ فرنسا الحديث وبقصص النضالات الكبرى التي قادتها النقابات الكبرى في عهود سابقة إلى حدّ  »إقفال فرنسا« من خلال إضرابات اجتاحت كافة القطاعات الاقتصادية.

سوابق فرنسا

لا يقارن مستوى العنف الذي شهدته تحركات  »السترات الصفراء« بذلك الذي حدث أثناء الولاية الثانية للرئيس الأسبق جاك شيراك. اندلعت عام 2005  »ثورة الضواحي« التي استمرت لمدة 19 يوما شهدت البلاد خلالها مواجهات خطيرة بين المتظاهرين وقوات الأمن، وأحرقت أثناء تلك الأحداث ما يقارب الـ 10 آلاف سيارة في البلاد. كان نيكولا ساركوزي حينها وزيرا للداخلية، فوصف المتظاهرين بالرعاع. أشعل هذا الوصف الضواحي قبل أن تخمد، إلا أنه، وللمفارقة، وربما بسبب ما وصف بأنه شجاعة من قبله لمواجهة هذه الفوضى، انتخب بعد عامين رئيسا للجمهورية.

لم تحظ  »ثورة الضواحي« بأي غطاء سياسي من أحزاب اليمين كما أحزاب اليسار. أجمعت تلك الأحزاب على اعتبار ذلك الحراك فوضويا غير سياسي لا أفق له ينشط داخله  »أولاد الشوارع« أكثر مما ينشط داخله مواطنون.

غير أن أصحاب  »السترات الصفراء« يبدون متوجسين من أي دعم سياسي من داخل الأحزاب التقليدية يستفيق على وجودهم في البلاد، ذلك أن حراكهم يستبطن نفس الغضب ضدهم، وهو غضب انتخبوا بسببه ماكرون بديلا.

بدت المناسبة فرصة لا تعوض لأولي اليمين كما أولي اليسار لتصفية الحساب مع ماكرون الذي أطاح بهم في الانتخابات الرئاسية. فإذا ما امتطى ماكرون حصان العجز الخارج من عهدي الديغولي نيكولا ساركوزي والاشتراكي فرانسوا هولند، فإن التسونامي الأصفر في شوارع

ماكرون انتخبه الفرنسيون بشكل مفاجئ وانتفضوا ضده بشكل صاعق

فرنسا، يتيح لهم الاستغراق بالشماتة ممن عوّل الفرنسيون كثيرا عليه وحملوه رئيسا إلى الإليزيه.

بيد أن لهذا التمرين حدودا، ولهذه الانتهازية الماكيافيلية ضوابط مطلوبة. لا تريد الحكومة في باريس كما أحزاب المعارضة المغامرة في الاستغراق في لعبة الشارع في فرنسا. نشط اليمين المتطرف بشكل كبير داخل هذا الحراك. وحدها مارين لوبن، زعيمة حزب  »الجبهة الوطنية« اليميني المتطرف، ترى في انهيار ماكرون ومنظومته مصلحة تصبّ مباشرة لصالحها. طالبت بحلّ البرلمان والتوجه إلى انتخابات تشريعية مبكرة، ذلك أن التيار الشعبوي المتطرف قد يكون بديلا يتّسق صعوده مع صعود نفس التيارات في النمسا وإيطاليا وألمانيا والسويد وهنغاريا. . إلخ.

من الحكمة عدم التسرّع في إطلاق الأحكام الجاهزة لدراسة وقراءة ظاهرة  »السترات الصفراء« كما عدم التعجل في استشراف مآلاتها في راهن فرنسا، وخصوصا إذا ما ثبت ضلوع روسيا من خلال منابر الاعلام الاجتماعي في التدخل لتعظيم شأن الحراك ووقعه على البلاد.

الطبقة الوسطى

وعلى نحو مختلف عن  »ثورة الضواحي« في العام 2005، يمثل أصحاب  »السترات الصفراء« الطبقة الوسطى في البلاد. ينتمي هؤلاء إلى العصب الاجتماعي الرئيسي لفرنسا الذي يجيد التعامل مع شروط العصر وأدواته. ولئن لبّت الجموع نداءات للتحرك ظهرت على وسائط التواصل الاجتماعي، ولئن جاء الحراك انفعاليا ردا على إجراءات تطال القدرة الشرائية المباشرة للملايين من المواطنين، إلا أن جلّ القيادات المرتجلة تجيد التعامل مع الحدث بلغة العقل والعلم والإعلام. وعلى هذا تبدو حكومة باريس أمام خصم يعرف ملفاته، مطّلع على متن القرارات الضرائبية، ومدرك للمسار الفلسفي العام التي تعتمده الـسماكرونيةس بصفتها منظومة يعتبرونها تحمي الأغنياء.

أراد الرئيس الفرنسي الشاب أن يكون رسولا يحمل في خطابه وفي ظروف انتخابه رسالة فرنسية جديدة. ظهرت الـسماكرونيةس الفتية بصفتها جرعة مضادة لصعود الـسترامبيةس التي قذفت بها الولايات المتحدة. أطلت في عزّ زلزال البريكست المندفع من بريطانيا، وفي عزّ رواج الخطاب الشعبوي الأوروبي الكاره للاتحاد الأوروبي. كثيرون في العالم عوّلوا على الرئيس الفرنسي الشاب لوقف انزلاق العالم نحو تفكك ينهي خصال استقرار ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما بعد الحرب الباردة لاحقا.

أراد الرجل أن يكون نبيا أمميا فتصرف بغرور وعنجهية مع ما يمكن اعتباره تفصيلا داخليا في سيرورة ما يطمح إليه. وجّهت فرنسا صفعة لماكرون قد تساهم في مساعدته على الاستفاقة من غيبوبته والترجل من عليائه. سبق لفرنسا في ثورتها الشهيرة عام 1789 أن أعدمت ملكا وأسست لمنظومات الحداثة وحقوق الإنسان في العالم. وسبق لفرنسا في ثورة 1968 أن أطاحت بشارل ديغول الذي قاد تحريرها من الاحتلال الألماني.

يتأمل ماكرون، وهو الذي ارتقت خصاله في السياسة على معرفة عميقة بالفلسفة والتاريخ، البركان الأصفر بصفته امتحانا يجدر الاعتراف بصعوبته وتعقّد حيثياته. قاد الرجل البلاد لوحده مستخدما الكاريزما التي يمتلكها متكئا على حزب ارتجل إنشاءه. قرأ تصويت الفرنسيين بشكل خاطئ، وبدا أن عليه أن يعيد القراءة من جديد. غير أن المصاب الفرنسي لا يمكن فهمه إلا من خلل المصاب البريطاني المترنح على وقع عواصف عصية على الدراسة والفهم والاستشراف ترتبط بمسعى الحكومة البريطانية للخروج من الاتحاد الأوربي بأقل الخسائر الممكنة.

تصدع اوروبا

كان السياسي الفرنسي الشهير روبرت شومان معتقلا في سجون ألمانيا النازية حين أسرّ لرفاقه  »المقاومين« في السجن أنه بعد نهاية الحرب سيعمل على إطلاق مشروعه الأوروبي الذي يتمحور حول الصداقة الفرنسية الألمانية. كان كلام الرجل، في تلك الحقبة، خارج أي سياق،

ترامب استخدم الأفكار الشعبوية الأوروبية وأعاد تصديرها إلى أوروبا

وغير مقبول أخلاقيا، في فترة اشتدت فيها الأحقاد بين الأمتين، الفرنسية والألمانية، على نحو لم يكن مسموحا لأحد، في فرنسا خصوصا، بالتفكير بسيناريو تسووي تصالحي مع ذلك المخلوق الذي يمثل، بطبيعته، خطرا على فرنسا بالذات، قبل أن يتوسع هذا الخطر ليطال العالم أجمع.

خرج الجنرال شارل ديغول من تلك الحرب وفي باله هدف واحد هو تفتيت ألمانيا. كان الرجل يقول إن  »ألمانيا خاضت ثلاثة حروب ضد فرنسا خلال حياة إنسان« )1870، 1914، 1939(، وبالتالي، ووفق عقيدته، فإن ألمانيا يجب أن تختفي. عمل ديغول والحلفاء المنتصرون نهاية الحرب العالمية الثانية على تهيئة ألمانيا لمصير يوزعها على مقاطعات أربع، تلك الفرنسية والبريطانية والأميركية والسوفياتية. أراد ديغول، واستمع إليه الحلفاء، قتل ألمانيا. إلا أن شومان، ساعده في ذلك اندلاع الحرب الكورية في الخمسينات، فرض وقائع أخرى على ديغول وعلى التاريخ. وجد شومان في المشروع الأوروبي نهاية لقدرية الحرب في أوروبا، وكان ذلك.

يعتقد السياح الأجانب، والعرب منهم، أن ظواهر السلم والازدهار التي يصادفونها في باريس وبرلين ولندن. . . إلخ، هي ظواهر طبيعية في أوروبا. ينسون أن هذه القارة صدّرت الكوارث إلى العالم، ففتكت حروبها بها وبنا. السلم في هذه المنطقة ليس حالة  »عادية«، بل أنه في حكاية التاريخ الطويل  »استثناء«، عمره عقود معدودة، هو عمر المشروع الأوروبي الذي أصبح  »اتحادا« هذه الأيام. وحين تطل أخطار على الآلية الخلاقة التي أوقفت الحرب وأرست السلم، فإن من حقنا جميعا أن ندرك أن ذلك نذير العودة إلى حقبة سوداء في تاريخ الإنسانية الحديث، اعتقدنا طويلا أن لا عودة إليها.

لم تنظر بريطانيا بعين مريحة إلى مشروع شومان وصحبه. تحكّمت في بريطانيا على مرّ التاريخ عقلية الجزيرة التي يخاف أهلها ما يأتيهم من خلف البحار. توسّعت بريطانيا وأصبحت عظيمة، و  »إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس«، لكنها، مع ذلك، استوطنتها هوية الجزيرة وطبيعتها الانعزالية. نظرت لندن بعين حاسدة إلى نجاح التجربة الأوروبية وازدهارها. وحين اجتاحتها الأزمات الاقتصادية في نهاية الخمسينات تقدمت عام 1961 بطلب، انتهازي، للانضمام إلى  »أوروبا« علّها تقتات من خيراتها. كان ديغول الفرنسي ينظر بعين الشك إلى هذه الاستفاقة البريطانية على أوروبا. وعلاوة على ذلك كان ديغول يشكك في هوية بريطانيا الأوروبية، ولطالما كرر أن بريطانيا ليست إلا  »حاملة طائرات أميركية في قلب القارة الأوروبية«. وعليه وضع ديغول  »فيتو« على قبول عضوية بريطانيا ورُفض أمر ذلك مرتين.

بريطانيا واوروبا

لم تدخل بريطانيا إلى النادي الأوروبي إلا عام 1973. كان ديغول قد غادر الحياة السياسية في بلاده قبل سنوات متأثرا بالرضوض التي أصابته جراء  »ثورة عام 1968« في بلاده. تسللت لندن وبقيت متدللة في أوروبيتها. بدا أن بريطانيا تود النهل من المتوفر دون أي حماسة للانغماس الكلي داخل الفضاء الأوروبي الواعد. رفضت لندن أن تنضم إلى اتفاقية الـ  »شنغن« للحدود المفتوحة، ولم تقبل أن تضحي بالجنيه الإسترليني لصالح اليورو. بمعنى آخر، عملت بريطانيا على وضع حدود لعضويتها، وعمل الأوروبيون بالمقابل على احترام  »الخصوصية« البريطانية، وتفهم ثقافة الجزيرة في عقلية النخب الحاكمة. وحده مشروع  »نفق المانش« وصل الجزيرة باليابسة الفرنسية في عهد الثنائي فرانسوا ميتران-مارغريت ثاتشر، لكن ذلك لم ينل من نزوع بريطانيا التاريخي لوضع تلك اليابسة الأوروبية وراءها والنظر

تيريزا ماي: لعبة البريكست الخطرة

إلى تلك الأميركية على الضفة الغربية من المحيط الأطلسي.

قررت بريطانيا الطلاق من أوروبا. بدا أن لندن تمعن في انتهازيتها في السعي لئلا يكون الطلاق انفصالا. اكتشف  »البريكستيون« أنهم خاسرون من قطيعة عن القوة الاقتصادية الهائلة التي أصبح عليها الاتحاد الأوروبي. بالمقابل، وبعد أن تجاوز الاتحاد الأوروبي حرده من بريكست بريطانيا، وضبط غرائزه التي كان يريدها عقابية ضد لندن، قدم لرئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، اتفاقا يُبقي بريطانيا شريكا وصديقا وحليفا حتى خارج جدران الاتحاد.

خسر الاتحاد الأوروبي عضوا. كادت السابقة البريطانية أن تجد لها مريدين عند بعض الأعضاء الآخرين. راجت داخل بعض الدول الأوروبية تيارات كارهة للاتحاد الأوروبي، وللمفارقة، من ذات اليمين وذات اليسار. كادت بعض العيون تلمحُ تفسخا في بنيان الاتحاد. فإذا ما تم انقاذ وحدة الاتحاد واستمراره هذه الأيام، فإن نذر تفكك قد يمتد إلى داخل بريطانيا، وهي بالنهاية مملكة متحدة. يعطي الاتفاق الأوروبي البريطاني وضعا خاصا لمقاطعة ايرلندا الشمالية، على نحو يغري اسكتلندا للدفع باتجاه الترويج مجددا لانفصال عن العرش البريطاني يجعلها في مكانها  »الطبيعي« دولة داخل الاتحاد الأوروبي. فبالنهاية صوت الإسكتلنديون بكثافة في استفتاء عام 2016 لصالح البقاء داخل  »أوروبا«.

أن تتفكك بريطانيا وأن يتفكك المشروع الأوروبي فتلك فرضيات عصيّة في الوقت الراهن لكنها احتمالات قد تنفخ بها رياح خبيثة مستقبلا. أن تصبح  »بريطانيا أولا« و  »أميركا أولا« و  »فرنسا أولا« من قواعد العقائد الأخلاقية التي تنفخ في واشنطن مع دونالد ترامب وفي أوروبا مع تصاعد التطرف الذي تقدم إلى صفوف الحكم في هنغاريا والسويد وإيطاليا والنمسا. . إلخ، فتلك علامات كان ليرتعب لها روبرت شومان لو كان حيا. وربما حريّ أن نراقب بدقة وحرص حيثيات ما جرى وتفاصيل ما سيجري، ذلك أن مستقبل السلم والحرب في العالم يتحدد في أروقة السلطة داخل لندن والجوار.

لكن بغض النظر عما ستؤول إليه حمى البريكست، فإن أوروبا بأكملها دخلت عهدا مقلقا يسكنه عدم اليقين داخل فضاء قام على الثبات والاستقرار والتعقلن في ممارسة السياسة. يبقى أن العالم أجمع يعيش أزمة تطال كافة جوانب السياسة والهوية والأمن والاقتصاد. والخطورة تكمن في أن الأزمة الأوروبية هي أم الأزمات، وفي تعقدها وحلها ينحشر مستقبل السلم واللاسلم في العالم أجمع.

كادرات بارزة

يمثل أصحاب  »السترات الصفراء« الطبقة الوسطى في البلاد. ينتمي هؤلاء إلى العصب الاجتماعي الرئيسي لفرنسا الذي يجيد التعامل مع شروط العصر وأدواته. ولئن لبّت الجموع نداءات للتحرك ظهرت على وسائط التواصل الاجتماعي، ولئن جاء الحراك انفعاليا ردا على إجراءات تطال القدرة الشرائية المباشرة للملايين من المواطنين، إلا أن جلّ القيادات المرتجلة تجيد التعامل مع الحدث بلغة العقل والعلم والإعلام. وعلى هذا تبدو حكومة باريس أمام خصم يعرف ملفاته، مطّلع على متن القرارات الضرائبية، ومدرك للمسار الفلسفي العام التي تعتمده الـسماكرونيةس بصفتها منظومة يعتبرونها تحمي الأغنياء.

أراد الرجل أن يكون نبيا أمميا فتصرف بغرور وعنجهية مع ما يمكن اعتباره تفصيلا داخليا في سيرورة ما يطمح إليه. وجّهت فرنسا صفعة لماكرون قد تساهم في مساعدته على الاستفاقة من غيبوبته والترجل من عليائه. سبق لفرنسا في ثورتها الشهيرة عام 1789 أن أعدمت ملكا وأسست لمنظومات الحداثة وحقوق الإنسان في العالم. وسبق لفرنسا في ثورة 1968 أن أطاحت بشارل ديغول الذي قاد تحريرها من الاحتلال الألماني.

لم تدخل بريطانيا إلى النادي الأوروبي إلا عام 1973. كان ديغول قد غادر الحياة السياسية في بلاده قبل سنوات متأثرا بالرضوض التي أصابته جراء  »ثورة عام 1968« في بلاده. تسللت لندن وبقيت متدللة في أوروبيتها. بدا أن بريطانيا تود النهل من المتوفر دون أي حماسة للانغماس الكلي داخل الفضاء الأوروبي الواعد. رفضت لندن أن تنضم إلى اتفاقية الـ  »شنغن« للحدود المفتوحة، ولم تقبل أن تضحي بالجنيه الإسترليني لصالح اليورو. بمعنى آخر، عملت بريطانيا على وضع حدود لعضويتها، وعمل الأوروبيون بالمقابل على احترام  »الخصوصية« البريطانية، وتفهم ثقافة الجزيرة في عقلية النخب الحاكمة.

خسر الاتحاد الأوروبي عضوا. كادت السابقة البريطانية أن تجد لها مريدين عند بعض الأعضاء الآخرين. راجت داخل بعض الدول الأوروبية تيارات كارهة للاتحاد الأوروبي، وللمفارقة، من ذات اليمين وذات اليسار. كادت بعض العيون تلمحُ تفسخا في بنيان الاتحاد. فإذا ما تم انقاذ وحدة الاتحاد واستمراره هذه الأيام، فإن نذر تفكك قد يمتد إلى داخل بريطانيا، وهي بالنهاية مملكة متحدة.

* صحافي وكاتب سياسي لبناني