الامبراطورية الايرانية الجديدة.. محاكمة عصرية

د.ماجد السامرائي

وسائل العلم والمعرفة في عالم اليوم قفزت بالانسان الى مراتب التعاطي الرقمي في الحياة اليومية الاجتماعية والثقافية، لكي تصبح السياسة جزءاً من هذا التعاطي، لدرجة إن لم يعد مقبولا أن تؤسس الدول الحديثة على أسس قومية ودينية فكيف بها بأسس مذهبية ضيقة مثلما لم يعد مقبولا استحضار تاريخ الغزوات والحروب وقيام الامبراطوريات كخلفيات لقيام دول في القرن الواحد والعشرين. ومن هنا تبدو المفارقة مثيرة للسخرية دعوات قيام امبراطوريات جديدة في منطقة الشرق الأوسط مثلما يفكر فيه حكام إيران بعد أن توفرت لهم فرص الهيمنة السياسية على حكومات في العراق وسوريا ولبنان وجزء من اليمن. ولعل الدافع الآديولوجي الديني »ولاية الفقيه« هو وراء دعوة قيام »امبراطورية ايرانية« جديدة وكان من الطبيعي أن يكون البلد المعني الأول في ذلك هو )العراق( لأسباب تتعلق بالتاريخ أيضا، فقد وقعت حرب طاحنة لثماني سنوات راح ضحيتها اكثر من مليونين إنسان ومليارات الدولارات، العراق استحضر خلالها القومية العربية والتاريخ الاسلامي، فيما برر خلالها نظام الخميني تلك الحرب بترجمة عملية لشعار »تصدير الثورة وغزو العراق كمقدمة لتحرير القدس« لكنها فشلت عسكرياً، إلا أن الأمريكان بعد احتلالهم للعراق وفروا لهم الفرصة التاريخية بالهيمنة على العراق، وجدوا بعد سنوات من تلك الهيمنة إن نظرية قيام »امبراطورية ايرانية« ليست شطحات خيالية لرجال دين داخل الحسينيات وإنما زراعة ثمارها قد نضجت. هناك سلسلة من تصريحات المسؤولين الايرانيين تحدثت في اوقات متفاوتة حو هذا الزعم السياسي بقيام هذه الامبراطورية، فقد زعم مستشار الرئيس الايراني روحاني )علي يونسي( في مارس من عام 2015 »إن بغداد تخضع لحكم طهران، وهي عاصمة الإمبراطورية الفارسية« كما دعا رئيس تحرير وكالة مهر الإيرانية حسن هاني زادة العراق للوحدة مع بلاده وترك ما وصفها بـ»العروبة المزيفة«. وقال علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إن »إيران اليوم أصبحت امبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي«، وذلك في إشارة إلى إعادة الامبراطورية الفارسية الساسانية قبل الإسلام التي احتلت العراق وجعلت المدائن عاصمة لهاثم سحقت بحرب »القادسية«. وكذلك تصريح عضو المجلس الأعلى للثورة الثقافية )رحيم بور أزغدي( في فبراير عام 2018 لتلفزيون أفق الإيراني بقوله »آن الأوان لإعلان الإمبراطورية الفارسية في المنطقة«، موضحا أنه لو يعتبر ذلك توسعا وتفكيرا بإقامة إمبراطورية واسعة فلا نقاش على الاسم، »لأننا نريد أن نقيم إمبراطورية«.أما المتحدث بإسم الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمي، فقال »إن إيران ستقاتل الأميركان بشباب العراق وأمواله في خدمة مشروع الإمام الخميني والانتخابات القادمة ستجعل القرار السياسي بيد الحشد ومن يتحالف معه من سنة العراق«. هذا المسؤول يحاول أن يفتح أبواب التاريخ بما تحمله من جروح متناسيا أنه لو قلب أي عراقي أو عربي صفحات ذلك التاريخ لاتهم من قبلهم، أو من قبل معاونيهم خارج إيران، بإثارة نزعات الحقد والكراهية بين العرب وإيران.وكان الجنرال )قاسم سليماني( أكثر صراحة واستهزاء بالسياسة الأمريكية في العراق حين قال في وقت مبكر »كان الأمريكان يتصورون بأنهم بعد سقوط صدام سيديرون شؤون العراق لكنهم ينسون حقيقة إنه مع وجود الزعماء الدينيين في العراق ومع نفوذ ايران لا يمكن لأمريكا أن تحقق أياً من أهدافها هناك« وهذا الكلام لم يكن دعاية اعلامية لأنه ارتبط بشغل كثير ومتعدد الجبهات ما بين السياسي والعسكري المليشياوي. أليست هذه التصريحات تحمل نبرة التعالي والاستهانة بمنطق الدول المستقلة كأعضاء في هيئة الأمم المتحدة. رغم كل هذه التصريحات لم يصدر تعقيب رسمي عراقي واحد مستنكراً ذلك التظاول على العراق، وسط تنديد شعبي وحزبي كبيرين، أما الولايات المتحدة الأمريكية فلا يهمها هذا الأمر، إلا من زاوية جيوسياسية معتقدة إن تلك التصريحات تؤكد السياسة التوسعية في المنطقة. وهناك عدة تقارير نوقشت خلال فترات متفاوتة داخل الكونغرس الأمريكي آخرها في الشهر الماضي حول سعي إيران لبعث امبراطوريتها الفارسية القديمة، كما تحدث في مناسبات عدة خبراء أمريكيون معنيون بالمنطقة في شهادات لهم داخل الكونغرس الأمريكي حول تنامي المخاطرالإيرانية في سياساتها التوسعية بالمنطقة، ويحاولون تبصير الإدارات الأمريكية الى ضرورة تبني سياسات أكثر صرامة وجدية لتعطيل تلك المخاطر، لكن غموض وتذبذب السياسات الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة قد جعل لمزاج الرئيس الأمريكي تأثيره المباشر في التعاطي مع ايران منذ عام 1979 التي حملت مشروعاً أخطر مما هو سياسي تطلب سياسة الاحتواء والتي تبلورت معاييرها في العراق الى الاحتلال العسكري باهض الثمن، فيما ينكشف تناقض السياسة الأمريكية حين تعاونت ادارة بوش الإبن لوجستياً مع ايران في العراق لإنجاح مخطط الاحتلال ومقايضتها بحرية عملها الميداني داخل العراق، كانت الواجهة الرسمية هي الاحتلال العسكري الأمريكي ولكن على الأرض كان التغلغل الايراني استخدم آديولوجية الدين والمذهب كغطاء كثيف ظلل الكثير من الناس العراقيين الطيبين. إن مراقبين وبينهم عراقيون كثر لا يكترثون بالحملة الاعلامية الأمريكية ولا حتى بقائمة العقوبات الاقتصادية التي تلتف حولها طهران وخاصة من العراق. الدعاوى الإيرانية بضم العراق الى هيمنتها ليست جديدة تظهر وتكبر حين يضعف العراق ويتراجع بقوته وقدراته السيادية، وتتراجع حين يكون العراق قوياً، وهو عبر التاريخ صاحب حضارة ممتدة في أعماق سحيقة من التاريخ الانساني. إن فضح طبقة الخبراء والسياسيين الأمريكان للسياسة الايرانية داخل مؤسسات القرار الأمريكي وخارجه إن كان صادقاً فهو يساعد على دعم الدعوات العراقية الشعبية والعربية بضرورة انسحاب إيران من نفوذها من العراق أولا وكذلك لبنان وسوريا واليمن وأن تصبح دولة جارة تحترم سيادات الدول. تقرير الكونغرس الأمريكي الأخير تبنى ما قاله الخبير بشؤون المنطقة )كينيث كاتزمان( الذي أكد بأن سياسات إيران الإقليمية تسعى إلى استغلال المشاكل والصراعات في المنطقة من أجل تغيير ميزان القوى لصالحها، كما تسعى إلى توسيع نفوذها الإقليمي، وإن الشعور بالعظمة يسيطر على الإيرانيين لتكرار الإمبراطورية الفارسية القديمة »لا شك ان هذا التقرير يتجاوب مع رغبة الادارة الأمريكية الحالية بتعزيز العقوبات الافتصادية لثني نظام ولاية الفقيه عن عناده والالتزام بالضوابط الأثني عشر التي أعلنها وزير الخارجية )بومبيو(«. كانت هناك تقارير سابقة أكثر وضوحاً وشدة صدرت عن الكونغرس الأمريكي في عهد )أوباما( حذرته من التهاون مع النظام الايراني لكنه وجد بالاتفاق النووي علاجاً لذلك العناد والنتيجة كانت استغلال طهران رفع العقوبات لتعزيز قدراتها وحريتها المالية لتنفيذ برامج تسليحية وتخريبية في المنطقة ولم تلتفت الى معاناة شعوبها المسحوقة. أوباما توهم بأنه قادر على معالجة فشل استراتيجة القوة الأمريكية في العراق وأمريكان بالانحناء أمام الولي الفقيه في طهران ومن خلال وزير خارجيته )جون كيري( الذي قيل الكثير عن علاقاته الخاصة ببعض الزعامات الإيرانية ليزيد من تعنت حكام طهران بأنهم قادرون على مواصلة سياسة تصدير الثورة في المنطقة العربية دون رادع دولي. لم يكن )أوباما( صافي النية في سياسته تجاه العراق وسوريا، كانت تنتابه مشاعر التردد في القرارات الكبيرة التي كان عليه اتخاذها في بناء الاستقرار في المنطقة. وفي الوقت الذي منح نظام طهران الاتفاق النووي فقد أطلق تصريحات مليئة بالعجرفة ضد العرب وطلب منهم صراحة »ترك ايران وشأنها والالتفات الى أوضاعهم الداخلية« معتقداً بانها لا تهدد العرب، وإنما التهديد الذي يواجهونه في الداخل ولم يهتم أوباما بمقدار الأذى الذي لحق بالعراقيين من جراء تنامي النفوذ الإيراني بقدر اهتمامه برؤيته الضبابية تجاه المنطقة والعالم.ولا أحد يتصور واهماً بأن النبرة العالية للرئيس االحالي )ترامب( ضد النظام الايراني هي من أجل عيون العراقيين أو العرب، إنه يتصرف بوحي من دوافعه التجارية وابتزاز أهل المنطقة وتخويفهم بالبعبع الإيراني.وفي شهادتها أمام الكونغرس الأمريكي قالت السفيرة السابقة باربارا »ربما لم تكن هناك أي مشكلة تحيّر صناع السياسة في الولايات المتحدة، على امتداد ثلاث إدارات، في نهجهم تجاه العراق أكثر من مواجهة دور إيران والقوى الوكيلة لها التي أقامتها على أرض عدوها السابق. وسواء كانت واشنطن تستخدم أدوات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، فلطالما شعرت بخيبة أمل من قدرتها على تقويض النهج الإيراني المفترس والمزعزع للاستقرار في العراق« لا تحتاج الإدارات الأمريكية الى مزيد من الحقائق الدامغة لدور ايران التخريبي في العراق على المستويين الاجتماعي والسياسي، لقد خربت النسيج الاجتماعي وفرضت وحمت أحزاب طائفية لإدارة الحكم الى جانب المليشيات المسلحة المنتشرة في كل مكان في العراق.

في التاريخ الإنساني تقوم الإمبراطوريات وتتسع وتكبر على محيطات واسعة من الكون بعناصر القوة والهيمنة والاقتدار فتخضع لها الأمم والدول، لكنها حينما تشيخ وتفتك بها أمراض السلطة والفساد وعناصر التفكك من داخلها تتهاوى وتموت وتصبح حكاياتها دروسا للإنسانية جمعاء. هكذا كانت الإمبراطوريات القديمة كالفارسية والرومانية والعربية ثم المغولية والعثمانية والروسية والبريطانية والإسبانية والبرتغالية وأخيرا الإمبراطورية الأميركية.ظلت القوة علامة من علامات بناء الإمبراطوريات، ولم يُحك عن أمة استعادت إمبراطوريتها بالأمنيات بعد أن ماتت، فذلك اعتداء على منطق التاريخ الإنساني. ولا عن أمبراطوريات تقام على حساب جياع شعوبها.