هل كان رهانهم خاطئاً؟

معن بشور

في كل مرّة نودع فيها رائداً من رواد الحركة القومية العربية المعاصرة، بكل روافدها، يبرز سؤال ملح علينا جميعاُ، رفاق الراحل وإخوانه: »هل أثبتت الأيام صحة الأفكار التي حملها هؤلاء، كراحلنا الغالي وهدان عويس، وقدموا في سبيلها التضحيات، ودخلوا السجون واحتضنتهم المنافي حتى لا نقول المدافن، أم أن تلك التضحيات ذهبت سُدى وأن الحلم القومي انطفأ، وأن المشروع النهضوي انكسر؟.

وأفضل عزاء في هؤلاء الرموز الراحلين، كالمناضل والأديب والمهندس ورجل الأعمال وهدان أيوب عويس، هو أن نجيب على هذا السؤال المصيري الكبير فلا نقع في أحد المحظورين، »محظور التبرير« دون الإقرار بالأخطاء التي وقعت، والخطايا التي ارتكبت، أو »محظور التشهير« دون إنصاف يعطي لتجربة هذا الجيل ما تستحقه من تقدير.

إن أي نظرة موضوعية لحال الأمّة العربية خلال أكثر من نصف قرن تجعلنا نكتشف أن رهان الجيل الذي جاء منه أبو رامي لم يكن رهاناً خاطئاً رغم كل ما رافق تجربته من أخطاء وخطايا يبقى التوقف عندها هو المدخل الأسلم لمعالجتها ولمواجهة التحديات بوسائل أكثر نجاحاً ونجاعة.

أولاً: لا يمكن فصل كافة المعارك الهامة، والثورات التحررية، وحتى الحروب العدوانية التي شهدها الوطن العربي عن نضالات الحركة القومية العربية بكل قياداتها وروافدها، فكانت مرحلة المد القومي العربي في خمسينيات القرن الفائت، وما تلاها، هي المرحلة الأكثر توهجاً بالكرامة، وتألقاً بالعزّة، التي ما زالت الأمّة العربية تعتز بها وتفاخر الأصدقاء والأعداء بإنجازاتها…

ثانياً: لم يكن ممكناً لأعداء هذه الأمّة أن يجهزوا على هذه التجارب القومية العربية إلاّ بشن حروب خارجية أو داخلية عليها، أو كليهما معاً، كما رأينا في مصر مع ثورة يوليو، وفي العراق مع تجربة البعث، أو في ليبيا مع ثورة الفاتح من سبتمبر، أو في اليمن بعد ثورة الشطرين ووحدتهما، وحيث لم تتوقف الحروب الاستعمارية على هذه التجارب، حتى تمكنت من إسقاطها، بالمقابل رأينا في الجزائر ثورة المليون ونصف شهيد، أو في سوريا قلب العروبة النابض مع تجربة البعث محاولات إسقاط هذه التجارب، عبر إشعال الحروب الخارجية والفتن الداخلية بالوكالة الإقليمية والمحلية عن القوى الصهيو – استعمارية.

ثالثاً: هل استطاعت المشاريع الفكرية المناقضة للمشروع القومي العربي على تنوعها، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، أن تقدم نماذج متقدمة عن النماذج التي قدمها المشروع القومي العربي رغم كل ما رافق تجربته من شوائب وثغرات، بل هل استطاعت كل هذه المشاريع والعقائد والمناخات أن تقدم لأمّتنا صيغاً لتوحيد مكوناتها وتكامل هوياتها الفرعية بطريقة أفضل من العروبة الجامعة التي روحها الإسلام، وركيزتها المواطنة، وهدفها الدولة المدنية، كما جاء في الفكر الذي حمله وهدان أيوب عويس في شبابه وشيخوخته على حد سواء.

رابعاً: هل استطاعت كل المشاريع التي قدمت نفسها بديلاً أو نقيضاً للمشروع القومي العربي أن تقدم للأمّة تنمية شاملة لا تعيقها الحواجز القطرية، أو أمناً قومياً لا تهدده النزاعات العرقية والطائفية والمذهبية، أو استقلالاً وطنياً وقومياً لا تشوبه الضغوط الأجنبية والتدخلات الخارجية، بل أنه حتى حملة المشروع القومي العربي أنفسهم كانو يتعثرون عندما يستسلمون للمصالح القطرية والضيقة على حساب الرؤية القومية الشاملة.

أيها الحفل الكريمٍ

لقد أدرك راحلنا الكبير على مدى سنوات عمره المديد، سلامة الأفكار التي اعتنقها وهو شاب، وتحمل بسببها السجون وشتى أنواع المضايقات، وفضل الالتزام بها على كل مغريات الحياة التي توفرت له وهو رجل الأعمال الناجح، ولكنه أدرك أيضاً أن هذه الأفكار تحتاج، كما الأشياء الحيّة، إلى مراجعة مستوحاة من التجارب التي مرّت، وأن الحركات التي انتمى إليها تحتاج إلى تطوير مستمر في إدائها وسبل تحقيقها لأهدافها.

لذلك حين شارك وهدان عويس )رحمه الله( في أعمال المؤتمر القومي العربي العاشر عام 1999، وما بعده لعدّة سنوات، كان يدرك أن هذا الإطار القومي الجامع، الرافض أن يكون حزباً منافساً لأحزاب قومية عريقة، أو صيغة بديلة لصيغ العمل القومي القائمة، تبقى له ثلاث مزايا هامة:

أول هذه المزايا إنه إطار جامع يسعى إلى إعادة لمّ شمل كل المؤمنين بالمشروع النهضوي العربي وعناصره الست: الوحدة العربية، الديمقراطية، الاستقلال الوطني والقومي، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية، التجدد الحضاري، أياً تكن المنابت العقائدية والإيديولوجية لهؤلاء الملتزمين ما دام ولاؤهم الأول لهوية الأمّة، وما دام التزامهم الأعلى بمشروعها النهضوي.

ثاني المزايا هو أنه إطار حواري يسعى إلى إجراء المراجعة الدائمة للأفكار والممارسات والإداء في ضوء المشروع النهضوي العربي، فلا تعصب يطغى على الإيمان، ولا تزمت يفوق الالتزام، ولا غلو يهدد الرؤى، ولا عصبية تسود على المشتركات، بل حوار يلتقي أطرافه على ما يتفقون عليه ويعملون على تحقيقها، ويعذر بعضهم بعضاً على ما يختلفون عليه.

ولقد جاء تشييع وهدان عويس، قبل أسابيع، ووداعه تعبيراً عن صحة هذه الأفكار التي حملها أبو رامي، وسلامة المواقف التي اتخذها، فلم يكن فقيد عائلة أو منتدى أو حزب فحسب، بل كان فقيد الوطن والأمّة كلها، وجاءت كل كلمات الرثاء فيه تأكيداً على أنه ما زال في مجتمعنا من هو قادر على الجمع بين الناس، والتكامل بين مكونات المجتمع…

فعروبة وهدان عويس هي عروبة تكامل لا تحامل، تواصل لا تناحر، تضامن لا تنابذ، ترفّع عن العصبيات، لا غوص في أوحالها.

وثالث هذه المزايا إنه مؤتمر يضم العديد من طاقات الأمّة، لاسيّما المقاومة منها، حول قضاياها الكبرى وفي مقدمتها قضية فلسطين، الحاضرة دوماً في كل توجهات المؤتمر وتوصياته، وقضية العراق حيث كان المؤتمر في طليعة من انتصر لشعب العراق بوجه العدوان والحصار والاحتلال، فخرجت من صفوفه مبادرات حملها أعضاؤه من مغرب الوطن الكبير إلى مشرقه، سواء إلى بغداد نفسها وأهلها المحاصرين، او داخل أقطارهم يسهمون في تحريك مسيرات مليونية من أجل العراق، كما من أجل فلسطين الانتفاضة، ومن أجل لبنان المقاومة، وسوريا الصمود، ويمن الجرح النازف، بل من أجل كل قطر عربي يعاني من وطأة العدوان.

أيها الحفل الكريم

حين كنت التقي بالراحل وهدان عويس في المؤتمرات أو الندوات أو في لقاءات ثنائية كنت أتعرف إلى معدن خاص من الرجال قادر على أن يجمع بين هدوء التعبير وقوة التأثير، بين مرونة في المظهر وصلابة في الجوهر، بين القبض على الجمر وقد مرّت عليه سنوات من الجمر، ومن تفاؤل لا يملكه إلا من جمع بين الإيمان بقضية شعبهم وبين الرؤى السليمة لمستقبل أمّتهم.

واليوم وفيما السحب المؤلمة والدامية التي تلبّدت في سماء الأمّة آخذة في الانحسار، لاسيّما في سوريا الغالية على كل عربي، بعد مواجهة واحدة من أبشع حروب العصر، وفيما المشروع الصهيو ذ أمريكي يترنح تحت وقع ضربات الشعب الفلسطيني البطل المعبرة عن إرادته، وعلى وقع فعالية قوى المقاومة في الأمّة، لا نستطيع إلاّ أن نقول لوهدان عويس، نم قرير العين يا أبا رامي… فالحلم ما زال مشتعلاً في النفوس، والأمل ما زال يضيء الدروب، وأمّتك ذات الرسالة الخالدة ما زالت قادرة أن تسهم في تحرير نفسها وتغيير وجه العالم رغم يأس اليائسين وهو يأس ما عرفته يوماً، وتشكيك المشككين الذي قاومته دوماً.

أما للأخت العزيزة أم رامي رفيقة درب الغالي أبو رامي وشريكة نضاله، وللعزيز زيد، ولكل أفراد الأسرة الكريمة، ولرئيس وأعضاء المنتدى العربي، ولكل الأصدقاء والرفاق، نقول باقون على عهد المبادئ التي بها آمن وهدان عويس، وعلى درب العروبة التقدمية الحضارية التي سلكها، وبهدي مشعل الوحدة والحرية والعدالة الذي حمله مع جيله…

كلمة الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي الأستاذ معن بشور التي ألقيت في مهرجان تأبين المناضل والمثقف القومي العربي وهدان أيوب عويس في قصر الثقافة في الأردن في 5/1/2019، وألقاها بالنيابة الأستاذ نعيم مدني عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي سابقاً.

وقد تحدث في المهرجان أيضا كل من: الأستاذ طاهر المصري رئيس الوزراء سابقاً، الدكتور صباح ياسين عضو المؤتمر القومي العربي، المحامي الأستاذ فايز شخاترة رئيس المنتدى العربي، الأستاذ أحمد سمارة الزعبي نقيب المهندسين، الأستاذ كمال زواد الفاخوري رفيق درب الفقيد، الدكتور علي محافظة عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي سابقاً، المهندس زيد عويس، وعريف الحفل الأستاذ محمد البشير عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.

العدد 89 –شباط 2019