قراءة في رواية المتمردة والقدر، للكاتبة أميرة جمعة

نسرين الرجب – لبنان

حرصت الكاتبة »أميرة جمعة« في روايتها »المتمردة والقدر« الصادرة حديثا 2018، عن دار بيسان، على إغناء مادتها الروائيّة بالكثير من الإضافات ولو أنّها لم توغل في المعالجة، فأعطت صورة نموذجيّة عن المرأة المعاصرة، وحضر الرجل من منطق بعيد عن إلقاء التُهم العاطفيّة، تركل باسم الانسانيّة دواعي التفرقة، التي تُبعد كلّ حبيبٍ عن حبيبَه، ولكنّها لا تُهادن حين يمسّ الموضوع الشرف والانتماء الوطنيّ.

حكاية أمل ويوسف

 النص الروائي هنا هو نص مُسترجع لا يقف على خط زمنيّ ثابت، السرد مُتداخل، يتقاطع فيه الماضي مع الحاضر، الشخصيّة الرئيسيّة »أمل« هي في الحاضر امرأة ناجحة في عملها قويّة الشخصيّة، وفي الماضي طالبة جامعيّة تعيش علاقة حبّ متأزمة مع زميل لها في الدراسة »يوسف«، الحبكة منتثرة بين صفحات الرواية، يتزوجان على الرغم من جميع الموانع المذهبيّة والعائليّة، زواجا مدنيّا في قبرص، ولكن لا يُكتب لزواجهما الاستمراريّة، والمعيق هو حبّ التملك عند الأم، التي تُعيد الابن البار راعيا لها في مرضها الكاذب. الغضب عند اكتشاف الكذبة، يتحوّل إلى رغبة انتقاميّة تظهر على شكل قرارات سريعة بالسفر إلى فلسطين والاستشهاد هناك في سبيل القضيّة؟! »مزّق كل الانتماءات وألغى جميع الارتباطات بالحاضر والغد إلاّ مع حبيبته فلسطين والتحق بإحدى المجموعات الفلسطينية المقاومة للاحتلال…سافر إلى فلسطين عبر الأردن« تاركا لشريكته رسالة وداع:… »ستذهبين مع روحي أينما ذهبت، اغفري أيتها الأمل…«

 تعيش البطلة أزمة الفراق وضياع الحب، والعتب المكلوم من )الحماة( التي كانت السبب في فتور حالة الحب بين الحبيبيْن.

مواقِف الشخصيّة نابعة من تجرُبتها العاطفيّة الماضيّة، لا تتوقف إلا لتقيس خيارات الحاضر ومساراته بالذكريات، يتقلص زمن الحكاية ويتمدّد زمن السرد حيث لا وجود للحادثة إنما تعليقات ومداخلات للكاتبة، على لسان الراوِية »أمل« الشخصية الرئيسيّة في الرواية، على المواقف

الكاتبة أميرة جمعة

الحاصلة، لذا فالسرد درامي في وقفاته المتكررة وفي تقديمه للحظات العاطفيّة المتوترة، ولكنه لا يتوقف كثيرا الا لينقل لنا قوّة الشخصية.

المرأة القويّة

على الرّغم من الخطاب الشاعريّ الذي ميّز لغة الكتابة، ولكنّها لغة نابهة وحذرة في قدرتها على حبكِ المقولات وربط الأحداث، وقد تمكّنت المؤلفة من أن تقدّم لنا نموذجا نسائيّا واثقة الخطى، لا تستسلم لهزّات القدر: »امرأة قوية، تعريف عام لشخصي من أهلي، ربما لأني أحصل على كل ما أريده من الحياة، أضع لنفسي أهدافا أسعى إليها بجهد، بالرغم )على الرغم( من العثرات التي أواجهها أبقى مستمرة ولا أتراجع حتى لقبت بالمرأة الحديديّة، لكنّي لم أحقّق نجاحا على مستوى حياتي الخاصة، وكان لي القدر بالمرصاد…«، متصالحة مع صورتها، تخاطب ذاتها في المرآة قائلة: »أنا معك وأحبك، وسنبقى معا، نعبر جسور الحياة، فيطى الصعاب ونضحك، ونحب الحياة ونحياها بجميع فصولها…«.

فلا شيء يوقف »أمل« التي تتعامل مع مجريات الأمور بقوّة وثبات، منفتحة على الآخر، عقلانيّة التفكير، حدّ اتّخاذها أسلوبا وعظيّا كما في كلامها للمرأة التي التقت بها في الحديقة، حيث اشتكت لها -تلك- عوز العاطفة، فواجهت ضعفها بمنطق الصلابة والتجلّد أمام هنّات العاطفة: »غربتك يا صديقتي ليس بالأرض بل بالقلب، دعيه في سباته فلا توقظيه، ففي صحوته ثورة تعود عليك بالخراب، واجهي إحساسك بعدم التجاوب معه، وقلدي نفسك وسام التضحية والعطاء فالبعض يولد ليأخذ والبعض يولد ليعطي… »، فإلى أيّ حدّ قد يتجاوب منطقها مع رغبة الذات الأُخرى في تأكيد حضورها والحصول على حقّها من الحب؟!

و»أمل« امرأة قادرة على الدخول في أيّة مناقشة، كما في مناقشتها لموضوع العدالة مع القاضي: »أين العدالة عندما تسرق السنون، وتستباح الأحاسيس؟ وأين العدل عندما يجتاح الشرّ البشر ويبطش بالنفوس الطيبة؟«.

تعرف حدودها وتجيد التعامل مع المواقف العابرة بحذاقة وثِقة: »بعض اللحظات العفويّة بين الرجل والمرأة تحيي فينا روحا شقيّة لذيذة الطعم والنكهة..«

ترتسم معالم الأنوثة الواثقة ليس بالتركيز على الشكل والأناقة الخارجيّة، بل تتخذ من التفكير السليم وحُب الذات طاقة معنوية شاحنة بعمق، »لكل منا حقيقتان، حقيقة يمكن رؤيتها هي جسد وأخرى طاقة وذاكرة وإحساس، نحن في صراع مع الطاقة السلبية نتغلي عليها بالإيمان والتفاؤل والإرادة ببلوغ الأهداف…« تقدّم الحديث عن مجتمعها بأسلوب لبق وواثق: »المجتمع اللبناني فهو مجتمع فسيفسائي جميل، مكوّن من طوائف مُتعددَة، وكل طائفة لها عاداتها وتقاليدها..«، وتمتد ثقتها لتتحدث عن قوّة وجمال المرأة اللبنانيّة »المرأة اللبنانية جميلة أنيقة المظهر وتتميز بشخصيّة قويّة وحضور طاغٍ…«، وتضيف في إشارة إلى كونها منتميّة لهذا المجتمع : »فعلا هكذا نحن وواثقات من أنفسنا«، امرأة شرقيّة الطباع، غربيّة في أسلوب حياتها المرِن الذي يصل إلى أن يتعامل مع مبدأ الخروج مع رجل والبقاء معه حتّى الثالثة صباحا في أحد المطاعم من دون غرابة، وكأنّها عادة طبيعيّة لا إشكاليّة مجتمعيّة فيها؟!

 صورة الرجل كما رسمتها الرواية

كان للرجل حضوره البيِّن في هذه الرواية، وبدا واضحا أنّ جميع من ذكرتهم من بيئة أرستقراطيّة، ولا يعانون من أي خلل أخلاقيّ في التعامل، وقد عمدت الكاتبة إلى إحداث ثنائيّات ضديّة تناولت صورة الرجل من منظار يمزج بين الواقعي والمثالي؟

يوسف الشخصيّة الثانيَة بعد »أمل« في الرواية، لم تعطِ المؤلّفة الصوت للشخصيّة لتعبّر عن مكنوناتها، لم نعرف صفاته الشكليّة، وما عرفناه جاء من خلال كلام »أمل«: »وطنه مُحتل والعودة ليست مرئيّة، وأنّه مسلم وأنا مسيحيّة، وأن الفلسطينيين سبب الحرب الأهليّة في لبنان، والمال والشركات تعود إلى أموال مسروقة، أو انتماء والده إلى جبهة التحرير الفلسطينيّة…«، مساعدته النازحين إلى المناطق الجبليّة في حرب لبنان 2006، ذهابه معها إلى قلعة الشقيف المطلة والكاشفة للحدود وللأراضي الفلسطينيّة المحتلة، بدأت علاقتهما على الطريقة الرومنسيّة، حيث الفتاة التي تتعثر أثناء مشيِها في الجامعة ويأتي من يلملم أشياءها: »..تلك اللحظة التي قال عنها جبران خليل جبران بأنّها ابنة التفاهم الروحي، فسقطتُ كتفاحة نيوتن في جاذبية عينيك وتلعثمت بكلمات الشكر والامتنان التي قلتها لك بتقطع كما أنفاسي…«، ولكن هذا الرجل مرتبط بقضيَة، عدا عن ارتباطه العاطفيّ بأمل الذي حالَ دونه الرفض الاجتماعيّ من جانب عائلة الطرفيّن، وامتدّ في تأثيره الأقوى من قِبل أم يوسف، على النقيض من دور الأب الذي رأيناه مهادنا ومسالما في الصفحات التاليّة، فشل المحافظة على العلاقة العاطفيّة دفعه لاختيار المناصرة من أجل قضيته الوطنية، هل يمثّل فعله هروبا، أم عجزا عن المؤازرة والدفاع؟؟ فقراره هذا لم يأتِ بطريقة تصفيَة الحسابات، لقد ترك زوجة مهجورة، وتعيش في بلد ليس بلدها)كندا(، تنتظر عودته؟! في سرعة غير مفهومة يذهب الى فلسطين وينضم إلى حركة المقاومة، ويستشهد هناك. هل كان استشهاده صافيا كمثال إخلاص للقضيّة؟! لم تشفع له رسالة اعتذار تطلب المسامحة. وكأنّ بالمؤلّفة تقول من خلاله: رجل بلا وطن لا يستطيع أن يحافظ على أنثاه، فيهرب منها ليحقق انتماءه للحبيبة الكبرى، الأرض! تقول المؤلفة في بداية الرواية، أنها قصة حقيقيّة، ولكن هذا لا يسوّغ الغموض الذي اكتنف سيرة »يوسف«، باعتبارها عملا أدبيّا مسؤولا، لا نستطيع أن نمشي على نفس الموجة الدراميّة التي سار وِفقها حكم »أمل«، عن حبّ الأرض والوطن، حيث يبدو الوطن خيارا ثانيا.

وفي محاولتها الانفتاح على علاقة جديدة، تتساءل »أمل«:

»إلى أين أسير باحثة عنك في رمالهم المتحركة؟«

الشخصيَة الثالثة »سامر« التعارف اليه يتّخذ سمة تقليديّة، عن طريق معرفة الصهر به، الصفة الدالة عليه »قاضٍ«. مع ما تحمله الصفة الوظيفيّة من دلالة على مركز اجتماعيّ وثقافيّ مرموق، وهذا الرجل منفتح على الحوار، أظهرت الرواية مقدرته على احتواء الأنثى المقابلة له، لم نجد له صفات شكليَة، ولكن وجدنا دوال تدل عليه: أنيق، لطيف المعشر، رجل خبير بأصول التعامل مع المرأة الأنثى، يلبّي رغباتها في الجنون والجموح والمغامرة، متصالح مع ذاته يحكي لها عن فشله العاطفي، عن فتاة تخلّت عنه من أجل المال، رجل يتّخذ صفة الصديق كحقيقة واقعة، ويصل الى قمة المثاليّة عندما يأخذها الى »قلعة الشقيف« طالبا منها أن تتصافى مع ماضيها، وفي سياق خياليّ ومستجيب لأكثر متطلبات المرأة في الاهتمام يلحق بها إلى فرنسا، شرقيّ النخوة غربيّ في تدبره للأمور، قوي النزعة قادر على تجاوز المعيقات جميعها في سبيل المرأة التي أُعجب بها، ونالت قسطا من قلبه. كان يمكن للمؤلفة أن توسع دائرة السرد لتجعله متحدّثا باسمه، هل الإمعان في وصف مثاليته كان لداعي التبرير، تبرير موقف »أمل« وحقّها في أن تعيش علاقة عاطفيّة جديدة، بعيدا عن المثاليّة القائلة: »ما الحب إلا للحبيب الأوّل«؟!

 الشخصيَة الرابعة »ديفيد« اليهودي، الذي يتحدث العربيّة وهو مولود من أم فلسطينيّة وأب يهوديّ، شاءت الأقدار أن تتعرف به في أثناء مدّة إجازتها في فرنسا، وقد أخفى عنها هويته وانتمائه، أذهلها بذكائه ومعرفته شيئا عن كل شيء، وطريقته في ابتكار المتعة والفرح، حتى أنها نسيت أو تناست »سامر« برفقته، كادت أن تقع في التطبيع على غير دراية به، لو لم تتكشف لها هويته العقائديّة لاستمرّت، فالعدو هنا ليس رجلا عاديا هو رجُل كامل الصفات وكما ترغب، ولكن هويته تكشف خبث الظاهر، لتستتدرك سؤاله عن إذا ما كان يحق للرجل الأجنبيّ المتزوّج من امرأة لبنانيّة اكتساب الجنسيّة اللبنانية، وتدخل هي في حوار معه عن مطالبة المرأة بهذا الحق، وعندما يسألها في مكر عن ذنبه فيما إذا ولد يهوديا، تضع المؤلفة عبر شخص بطلتها حدّا لأية مجادلة قد تُفضي الى تحميل خطابها ما لا يطيق عملها الروائي احتماله، تعلن القطيعة الفوريّة، ترفص الاستماع أو المناقشة، وتتخذ الصمت درعا لصدّ أي اتهام، تبتعد غاضِبة من نفسها التي آثرت متعة زائلة وتغافلت عن الفخ الذي كاد أن يوقعها في خيانة بالغة، وهنا يأتي الرجل المنقذ »سامر« باهتمامه ليضع حدا لبكائيّتها، ويشفي آلام العاطفة المبتورة.

من الشخصيات المساعدة والتي كان لها دور في حياة »أمل«: شخصيّة المدير »أبو عمر« المتفاني في عمله والسّاعي إلى تطوير إنجازات شركته، الواثق بالقُدرات العمليّة التي عند موظفّته.

شخصيّة الصهر الذي يتدخل في الشاردة والواردة، ويؤدّي دور الوسيط في التعارف بين »سامر« و»أمل«، مركزه الرفيع، في الدولة واسطاته.

إذا الرجل هنا فاعل بقوة، هو محور مهم، انعدام وجوده يعني غياب الحدث. هو ميسّر عاطفيّ ودليل الى سدّ الثغرات، أما المرأة فهي لم تؤدِ دورا بالغا، فالأم هي الداعم المعنوي والعاطفي لابنتها، وهناك الصديقة التي تبكي موت حبيبها، الحماة التي مارست كيدها ضد زواج أمل ويوسف، فقضت على أسطورة حبهما. المرأة هنا هي فقط كومبارس، وفي أوضح ظهور هي عدو، المسيطرة هنا امرأة واحدة لا تقبل في البطولة شريكة، وتتعامل مع وجود الرجل كضرورة، فهو الحبيب، وهو الصهر، وهو الصديق، وهو مدير الشركة، وهو العدو.

استطاعت أميرة جمعة أن تثير الكثير من المواضيع الحساسة، الفلسطيني وأزمة الهوية، حق الأم بإعطاء الجنسيّة لأبنائها وعمدت إلى وضع علامة تعجّب في السياق السردي، الذي تناول هذا الموضوع ) سؤال ديفيد اليهودي(، ولم تأتِ على مناقشة هذه المسألة في سياق السرد الذي تضمّن )أمل ويوسف(، أغنت شخص بطلتها بفلسفة التنميّة البشرية والرياضة الروحية )الطاقة الإيجابية، اليوغا…(، هي رواية لا تُدخلك في متاهات التلقّي، كثيفة بحوارها الذاتي، وأنيقة بلُغتها وأسلوبها الأدبيّ.

العدد 89 –شباط 2019