رسالة إلى  المسلمين العرب: لا خلافة ولا رجال دين ولا دولة دينية في القرآن 5 من 7

رسالة إلى  »المسلمين« العرب

لا خلافة ولا رجال دين ولا دولة دينية في القرآن 5 من 7

رؤوف قبيسي:ـ

الدولة المدنية لا تلغي الدين من الحياة، ففي الولايات المتحدة ما زال اسم  »الله« مطبوعاً على ورقة النقد الأميركية، وفي بلاد مدنية علمانية مثل بريطانيا ما زالت الملكة رأس الكنيسة، وما زال الدين أحد أعمدة الحكم، ومادة تدرّس في المدارس، وما زالت القوانين تحمي ما هو  »مقدس«، وتعاقب امرىء يعيّر آخر بدينه، أو بعرقه، أو بلونه، وما زالت القوانين تمنع افتتاح حانة للشرب، أو نادياً للقمار بالقرب من مدرسة أو معبد، وتمنع بيع التبغ والمشروبات الروحية، لمن هم دون الثامنة عشرة، ومجظورات كثيرة لا مجال لذكرها هنا.

قد تتساءل أيها القارىء الكريم أيضاَ عن الدافع وراء هذه الرسالة، ولماذا أوجهها إلى  »المسلمين« العرب؟ الجواب نابع من محنة شخصية وعامة، فقد ولدت في بيت كان البيت  »الشيعي« الوحيد، في حي من أحياء بيروت  »السنية«، وكانت مدرستي الأول مقاصدية تأخذ بالمذهب السني، لكنني لا أذكر في حياتي كلها أن كانت هناك عداوة بين السنة والشيعة، كما هي الحال في هذه الأيام. لا أظنها كانت أيضاَ، كما هي اليوم بين سنة العراق وشيعته، وبين سنة سوريا وعلوييها، وبين الغلاة من  »المسلمين«، وإخوانهم في الدين، ولا بينهم وبين  »المسيحيين«، ولا بين الحوثيين وغير الحوثيين. كثيراً ما فكرت وأنا في الاغتراب: لماذا لا يحترب المنتمون إلى المدارس والطوائف  »المسيحية«، من كاثوليك وبروتستانت وأورثوذوكس وغيرهم، كما يحترب السنة والشيعة، علماً بأن الفوارق  »الدينية« بين المدارس والطوائف  »المسيحية«، أكبر بكثير مما هي بين السنة والشيعة، وهي تتباين حتى حول أمور تتعلق بطبيعة  »المسيح«؟! لقد اختلفت الطوائف  »المسيحية« في ما بينها في الماضي، وأشعلت حروباً دامت سنين طويلة، ولم تتوقف إلا عندما قامت الدول المدنية، أفلا يجدر بنا أن نتعلم من تجارب الآخرين، بدلاً من أن نحرق الأخضر واليابس لنتعلم الدرس؟! كثيراً ما تساءلت أيضاً، عن الحل الذي يمكن أن يوقف هذا الصراع، الذي بدأ يدمي العالم العربي، ونسيجه الوطني والاجتماعي، فلم أجده إلا في جواب يعرفه القاصي والداني من المتنورين، أي في الدولة المدنية.

نظرت من حولي في لندن حيث أعيش، في أوروبا حيث أتجول، فوجدت الملايين من  »المسلمين« يمارسون طقوسهم وعباداتهم، ولم يحدث أن توترت العلاقة بينهم وبين أهل البلاد، إلا عندما تحزبت فئات قليلة منهم، نتيجة رياح دينية ومذهبية، هبت عليهم من الشرق  »الإسلامي«، فأفسدت حياتهم، ووترت العلاقة بينهم وبين مواطني بلاد يعيشون فيها وينعمون بخيراتها. غير أن السؤال الأساس، الذي يقض المضاجع، بقي ماثلاً: هل تخالف الدولة المدنية روح القرآن؟ هل يمكن القرآن والدولة المدنية أن يتعايشا؟

ذكرّني التساؤل بطه حسين، في مقدمة كتابه عن المتنبي. كان عميد الأدب يهم بالسفر إلى جنوب فرنسا لتمضية الصيف رفقة أولاده، وزوجته الفرنسية سوزان، ومعاون له كان يعتمد على نظره في القراءة. أراد عميد الأدب أن تكون رحلته فرصة يبتهلها لوضع كتاب عن المتنبي. سأله المعاون وهم يعدّون العدة للسفر، ما إذا كان يريد بعض المراجع، وبعض كتب النقد والشروح، فأجابه الأديب الكفيف النظر البصير الرؤية: أريدك أن تحمل كتاباً واحداً لا غير، هو ديوان المتنبي، لأني أريد التعرف إلى الشاعر من خلال ديوانه، لا من خلال ما قال الناس عنه وما كتبوا. هكذا ظهر كتاب  »مع المتنبي«، أحسن ما ألف عن شاعر العرب الأكبر حتى الآن!

فكرت في عميد الأدب وكلامه في ذلك التصدير، وقلت في نفسي: سأبدأ بالقران، بالقرآن وحده، لأنه النبع، ولأنه المصدر، ولأنه الكتاب الوحيد المجمع عليه بين  »المسلمين«. قدرت أنه ما أن أفرغ من المصحف، سأفتح بعدها عيني وأذني لأقوال المفسرين والشرّاح. أردت أن أعرف ما إذا كان في القرآن إشارة إلى خلافة أو دولة دينية. نظرت وأنعمت النظر، فلم أجد علامة واحدة تدل على هذه الدولة المزعومة، أو هذه الخلافة التي تتمنطق هذه الايام بالسكاكين والبارود، وتضم تحت راياتها، عشرات الآلاف من الشباب الهائج، وتدغدغ أحلام الملايين من المحسوبين على الإسلام.

 لم أجد في الكتاب نظاماً للحكم. وجدت أنه متى تدبرنا الآيات بروية، وقلب سليم، سندرك أن  »القرآن« كتاب يمكن أن يصلح لكل مكان وفي كل زمان، وأن حدود  »الله« التي يطلب القرآن من المؤمنين أن لا يتعدّوها، لا تتعارض مع الدولة المدنية، بل تتعارض مع الدولة الدينية، التي يريدها المتزمتون، والمتاجرون بالأديان. هؤلاء يأخذون بشرعية الخلافة استناداً إلى آية تقول »فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق«. هذه الآية موجهة إلى  »الرسول«، وإلى  »الرسول« وحده. ثم من قال إن الدولة المدنية لا تحكم بما أنزل  »الله«؟ أليست هي دولة الإيمان التي يشعر فيها المواطنون جميعهم بالأمان والعدل والمساواة وحرية الاعتقاد؟ اليس هذا ما يريده  »الله« لعباده؟! هناك عشرات التجارب في التاريخ المعاصر على  »صحة« هذه الدولة كدولة للإنسان، وليست هناك تجربة واحدة  »ناجحة« على صحة الدولة الدينية، لا في هذا العصر، ولا في أي مرحلة من مراحل التاريخ. من ثمّ، هل كانت الدول التي سميت إسلامية، دول عدل وحرية ومساواة، كما الدول المدنية الآن؟!

يستدل القائلون بشرعية الخلافة على آية تقول:  »يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم«. يتخذونها حجة ليقيموا دولة الخلافة ليكونوا هم أصحاب كراسيها ومقاليدها، في الوقت الذي يجب أن يكونوا أول من يطيع الله! هل تعني هذه الآية خلافة فعلاً؟ هي تشير إلى طاعة الله والرسول وأولي الأمر، لا إلى خلافة أو إلى أي آلية من آليات الحكم. إن طاعة  »الله الحي القيوم« هنا واضحة لا جدال فيها، وأما  »الرسول« فقد توفي، ولم يبق لنا إلا أولو الأمر، فمن هم أولو الأمر هؤلاء الملتزمون شرع الله، الذين يريدنا، أصحاب نظرية الخلافة، أن نطيعهم؟ هل هم موجودون فعلاً، وأين؟ هل هم أصحاب خلطة الدين بالسياسة، الذين يسيئون إلى الدين وإلى السياسة؟ هل هم أصحاب الأوقاف  »الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً« كما جاء في القرآن، أم أولو الأمر من أصحاب الفتاوى، الذين يظهرون على  »الفضائيات«، ويخرجون بأقوال واجتهادات يتخذها  »جند الله« حجة لقتل الأبرياء، وقطع رؤوس من لا يدينون بدينهم؟!

حين لا يجد أصحاب نظرية الخلافة  »الدليل القاطع« على خلافة، أو دولة دينية في القرآن، يلجأوون إلى كتب السيرة والحديث، هكذا تصير كتب مثل  »صحيح البخاري«، و »صحيح مسلم« سنداً  »أوفى« عندهم من القرآن! أما نحن  »أصحاب نظرية الدولة المدنية«، فلا كتاباً في الدين عندنا، نأخذه مرجعاً وسنداً إلا القران )والحمد لله(، لأنه منارة الإيمان الوحيدة على طريق الإسلام، ولأنه الكتاب الوحيد المجمع عليه بين المسلمين، ولأن الدولة الدينية، مسألة لا إجماع عليها بين  »المسلمين«، وكل يبتغيها على قياسه. فبينما يريد السنة أن يسمى قائدها أو رئيسها  »خليفة«، يريد الشيعة أن يكون  »إماما«، هذا في رأس الهرم، فما بالك بالفروع ؟!

لهذا كله، فعلتُ ما فعل طه حسين. اكتفيت بالقرآن، وبالقرآن وحده، لتأكيد الحجة. لم آخذ برأي فقهاء يفسرون الآيات وفق مزاجهم ومصالحهم، ويختلفون فيما بينهم، ولا يجمعون على رأي! لم آخذ بالسيرة لأنها مشوشة، ولا أساس تاريخياً لكثير مما جاء فيها من أخبار وأحاديث وروايات. أخذت بالقران وبالقرآن وحده، لأن فيه آية تقول  »إن الله غني عن العالمين«، ولأن  »الله« في القرآن يوصي بأن يكون التعبد إيمانياً، لا تديناَ أعمى. هكذا يجب أن يُفهم الإسلام ويُعرض، شريعة يتصالح المسلم بها مع نفسه ومع بني جنسه، بغض النظر عن أعراقهم وألوانهم وانتماءاتهم الروحية، ولا يكّفر أحداً من الناس، لأن عند  »الله« وحده يكون الحساب. لأجل ذلك كله، أوجه هذه الرسالة. أكتبها بنية صافية سليمة لا تشوبها شائبة، ولا ترمي إلا إلى الخير، فالأعمال بالنيات، ولكل امرىء ما نوى. وكما أن الدولة المدنية هي دولة القرآن، هي دولة الأناجيل أيضاً، والدولة الوحيدة التي تصون الرسالات الروحية من عبث المنافقين والمتاجرين من أهل السياسة وأهل الدين!