لبنان: الانسجام الحكومي أبرز تحديات النهوض

إلتحاق الحريري بباسيل وخلافه مع جنبلاط لا يبشران بالتفاؤل

بيروت – غسان الحبال

في لبنان تم تشكيل الحكومة في مطلع شهر شباط/فبراير الماضي، وعلى الرغم من أن الجميع انتظر ولادتها أكثر من ثمانية أشهر، إلا أنه لا يبدو من الأجواء السياسية أن الجميع راض عن التشكيلة الجديدة، لأنه في لبنان  »لا يرضي العباد سوى رب العباد«.

والمقصود بالعباد هنا هم أهل السياسة وليس الناس، فالناس كان يكفيهم أن تبادر وزيرة الداخلية السيدة ريا الحفار الحسن إلى رفع التحصينات والدشم التي كانت تحيط بمقر الوزارة، طوال خمس سنوات هي فترة تولي الوزير السابق نهاد المشنوق للمسؤولية فيها، ليعبروا عن ارتياحهم المبدئي لقيام الحكومة الجديدة.

طبعا رفع التحصينات والدشم من الشوارع ومن حول المؤسسات الرسمية ومنازل المسؤولين، والتي تعيق حركة المواطنين وتتسبب بإزدحام الشوارع، هي من المطالب البسيطة والبديهية التي يطالب بها المواطنون، مقارنة بالمطالب المزمنة التي تطال لقمة عيشهم ومقومات حياتهم

حكومة ال 30 وزيرا.. من يضمن الانسجام

اليومية.

وقبل تناول ما يريده اللبنانيون من الحكومة الجديدة، لابد من التوقف عند بعض المحطات السياسية التي واكبت وتبعت تشكيل الحكومة، والتي تعتبر مؤشرا أولياء على ما يمكن لهذه الحكومة أن تنجزه.

»القيل والقال« حول الحكومة الجديدة كثير، سلبا وايجابا، إذ تشير حسبة سريعة إلى المحصلة الآتية:

أسئلة التحولات الجديدة

في الحديث عن التوازنات داخل الحكومة يطرح سؤال جوهري: هل حصل وزير الخارجية جبران باسيل على الثلث المعطّل الذي يمكن أن يتحكم بقرارات الحكومة؟

هناك من يقول أن  »الحزب الحاكم« أي  »التيار الوطني الحر« قد حاز فعلا في التشكيلة الحكومية الجديدة على الثلث  المعطل كاملا وواضحا ولا لبس فيه، لكن استخدامه سيكون محصورا في وجه الثلاثي: سعد الحريري – وليد جنبلاط – سمير جعجع، إلا أنه في أي مواجهة مع  »حزب الله«، سيكون لديه 8 وزراء فقط، وفي مواجهة حركة  »أمل«، سيكون لديه 9 أو 10 وزراء في أحسن الأحوال.

في شرح التوازنات أو بالأحرى التحولات في الحكومة يمكن القول أن فريق الثامن من آذار مع فريق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وتكتل  »لبنان القوي« باتت تشكل أغلبية ساحقة في مجلس الوزراء، وبالتالي ثمة تراجع ملحوظ في  وضعية القوى المسماة 14 آذار، فيما يبدو أن

الحريري حسم تموضعه بوضع تحالفه مع باسيل فوق كل التحالفات.

هذه القراءة تستمد صدقيتها من التحالف بين 8 آذار و »التيار الوطني الحر«، وهي وإن كانت تنطبق فعلا على العلاقة بين  »حزب الله« و »الوطني الحر«، التي لا تزال تحافظ على جوهرها ومرتكزاتها الأساسية، فإنها لا تنطبق على علاقة حركة  »أمل« بـ  »لبنان القوي«، ذلك أن الترقب هو سيد الموقف عند رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يتابع بحذر الأجواء المتلبدة في العلاقة بين الحريري وجنبلاط. فالرئيس بري لا يشعر بارتياح لعلاقة بيت الوسط (الحريري) مع الرابية (عون)، انطلاقاً من تجاربه المريرة مع رئيس  »التيار الوطني الحر«

اولى حكومات العهد: هل يفي عون بوعوده؟

باسيل، وذلك فضلا عن الالتباس المحيط بمقعد  »اللقاء التشاوري« الذي يحتله الوزير حسن مراد الذي لا يمكن الاطمئنان إلى أن موقفه سيكون محسوما في لحظات التصويت المصيرية داخل مجلس الوزراء.

وفي موضوع التوازنات أيضا، هناك التوتر المتصاعد في علاقة الرئيس الحريري والوزير باسيل من جهة، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي جنبلاط من جهة أخرى، والذي بات يثير قلق التقدمي وصقور تيار  »المستقبل« وأصدقاء الطرفين.

وإذا بات أمر التوتر معروفا بخلفياته لجهة حسابات  »التيار الحر« في  »الثأر« من جنبلاط على مواقفه في الجبل وفي فترة الانتخابات النيابية، فإنه من المستغرب أن يمضي الرئيس الحريري قدماً في التصعيد ضد التقدمي، الأمر الذي يكاد يطيح بأهم التحالفات التي نسجها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، إلى درجة تبدو وكأنها تتجاوز التصدع السياسي لتصب في خانة العمل المزدوج على إبعاد جنبلاط عن دوائر القرار، في علاقة للحريري مع الرئيس عون وباسيل قد تدفع باتفاق الطائف الى الهاوية، وفي تفاهم يحمل مؤشرات مفادها أن الحريري يتبنى باسيل في معركة الرئاسة ويعمل للتسويق له عربياً ودولياً، مقابل تمسك باسيل بالحريري رئيساً لكل حكومة آتية، هذا فضلاً عن التفاهم على ملفات جزئية تتصل بالكهرباء والاتصالات وغيرها.

الحريري-باسيل.. إلى أين؟

واليوم تبدو العلاقة بين الحريري وجنبلاط تحت مجهر المراقبين لمعرفة الاتجاه الذي ستسلكه، على أمل أن تنجح مساعي الأصدقاء المشتركين في إعادة ترميمها، وصولاً إلى تبديد قلق جنبلاط حيال الأجواء التي سادت عملية تأليف الحكومة، والتي عكست اختلال ميزان القوى في داخلها لتحالف محور الممانعة و »التيار الوطني الحر«، ذلك أن تركيبة الحكومة أدت إلى ترجيح كفة هذا المحور، والأمر الذي يخشاه جنبلاط الذي كان يتم التعامل معه على أنه  »بيضة القبّان« في حسم الخيارات السياسية، هو تغيير موازين القوى إثر الانتخابات النيابية الأخيرة.

وهذا ما يفسر التدهور السريع للعلاقة بين الحريري وجنبلاط، بعد أن كان الأخير قد أولم قبل يومين من ولادة الحكومة على شرف الحريري في حضور السفير المصري لدى لبنان نزيه النجاري والوزيرين الحالي وائل أبو فاعور والسابق غطاس خوري، الاّ ان وساطة السفير المصري للحدّ من التشنج بينهما لم تصل الى نتيجة، وذكر يومها أنهما تبادلا العتاب، وأن جنبلاط بعث برسالة شخصية إلى خوري ومنه إلى الحريري، بعد أقل من ساعة من انتهاء اللقاء، وفيها اتهام مباشر بـ »أنهم يعيدون المختارة إلى ما كانت عليه خلال العام 1958 (تاريخ بدء الثورة آنذاك على الرئيس الراحل كميل شمعون)، وغامزا من قناة الحريري متهماً إياه بقلة الوفاء، لتشهد بعد ذلك البيانات الصادرة عن  »التقدمي« والمكتب الاعلامي للحريري، مواقف وهجمات متبادلة أكثر حدة.

وتشير المعلومات إلى إن الفتور في العلاقة بين الجانبين كان بدأ خلال المداولات حول الحكومة، حيث انزعج جنبلاط من طلب الحريري إليه أكثر من مرة التخلي عن حقيبة الصناعة، لمصلحة الرئيس بري بديلا من البيئة التي أراد الوزير باسيل الحصول عليها. لكن جنبلاط رفض، حسبما أوضحت مصادر  »اللقاء الديموقراطي«، وانتقد في مجالسه إصرار الحريري على تلبية مطالب غيره على حسابه، في وقت يتقصد الوزير باسيل دعم التحركات القائمة في الجبل ضده وخصوصا من النائب طلال أرسلان، متهما الحريري أنه يراعي باسيل إلى أقصى الحدود، وأن هذه المراعاة دفعته إلى التصرُّف على أنه واحد من  »الرؤساء«، آخذاً عليه أنه عقد صفقة مع باسيل وأن هذه الصفقة جاءت لمصلحة الأخير في تحقيق ما يطمح إليه.

الأولويات المطلوبة

تؤكد الوقائع أن الأوضاع الأمنية والسياسية في منطقة الشرق الاوسط، والتجاذبات السياسية المحلية، كانت أسبابا مباشرة في تأخير تشكيل الحكومة اللبنانية، أما وقد تمكن الرئيس الحريري من تشكيلها أخيرا، فإن السؤال المطروح اليوم هو: ما هي الأولويات المطلوبة من الحكومة

الحريري، باسيل وجنبلاط.. والتحولات الجديدة!

اللبنانية اليوم؟

أولا- يبدو أن المطلب الأول الذي يفرض نفسه على الجميع، والذي يتعين على رئيس الحكومة التعامل معه كأولوية هو إعادة الروح إلى اقتصاد منهك بسبب أزمة حادة كان للأوضاع في سوريا والعراق سببا مباشرا في تكريسها  وزيادة حدتها وأدت إلى انكماش اقتصاد كان رمزا للنجاح يوم كان لبنان مقصدا لرؤوس الأموال العربية والغربية.

وتأتي هذه الأولوية وسط الوعود التي قدمتها الدول المانحة في مؤتمر  »سيدر« الذي عقد في باريس خلال شهر نيسان/إبريل من العام الماضي، وهي وعود تمثلت بمساعدات مالية مباشرة وقروض استثمارية قدرت بحوالي 12 مليار دولار لإخراج لبنان من محنته المالية.

ثانيا- ثاني الأولويات تنحصر في سبل حل مشكلة النازحين السوريين في لبنان، والتخفيف من العبء الذي أصبح يشكله قرابة مليوني لاجئ سوري وجدوا في لبنان الملاذ الآمن، في وقت وجدت فيه السلطات اللبنانية صعوبات كبيرة في التكفّل بهم، فيما تراجعت المساعدات الدولية والعربية تاركة لبنان يواجه الأزمة الخانقة بمفرده.

معالجة الأزمات المزمنة

ثالثا- القيام بالإصلاحات الإدارية الضرورية التي من شأنها  مكافحة الفساد والفقر والبطالة، ومعالجة المشكلات المزمنة، والنهوض بالاقتصاد اللبناني وبمختلف المؤسسات الادارية والخدماتية الرسمية المعنية بالمواطن وتقديم الخدمات العامة التي تنقصه لجهة شبكات الطرق والمواصلات والاتصالات والكهرباء والمجاري، وإعادة لبنان كوجهة سياحية ومركز استثماري مهم فى المنطقة.

رابعا- تعزيز قدرة الحكومة على العمل كفريق واحد في أداء كل وزير من وزرائها الثلاثين، ليصب أداؤها في خدمة الشعب اللبناني لا الأجندات الخارجية المحددة، عبر بلورة وترجمة وتفعيل مبدأ النأي بالنفس عن المخاطر المحيطة بلبنان، والتعامل مع ملف  »حزب الله« بما يحمي سيادة لبنان ويردع التحرشات الإسرائيلية عن أرضه وعن سمائه.

ختاما، وفي مواجهة هذا المشهد بخلفياته، يبقى سؤال الأيام القريبة المقبلة: هل ستتحول الحكومة مجددا إلى ساحة تنازع في صراع التوازنات بين القوى، أم أن مجلس الوزراء سينعقد بسلام وتمر جلساته بمرحلة تهدئة يتفق عليها الجميع، بهدف معالجة الملفات الاقتصادية والمالية والمعيشية، إنفاذا للبنان واللبنانيين؟

باسيل يُجبر وزراءه على الاستقالة مسبقا؟!

أقدم الوزير جبران باسيل، بصفته رئيسًا لـ »التيار الوطني الحر«، على سابقة لم يلجأ إليها أحد من قبله من رؤساء الأحزاب التي كانت معروفة بمدى إنضباطيتها وبجدّيتها في التعاطي مع الأنظمة الحزبية.

فقد فرض باسيل على وزراء التيار الملتزمين حزبيًا وضع إستقالتهم في تصرّف رئيس الحكومة، في حال لم يستطيعوا أن يحققوا أي إنجاز في وزاراتهم ضمن مهلة مئة يوم، وهي خطوة كثر الجدل حولها، بين مؤيد لها وبين معارض.

والذين أيدّوا هذه الخطوة، ومن بينهم وزراء التيار أنفسهم، أقدموا عليها بكل طيبة خاطر ومن دون أن يشعروا فيها مسًّا بكرامتهم الشخصية، بل رأوا فيها تحفيزًا على العمل والإنتاجية، خصوصًا أن ما قام به باسيل لم يأتِ من عدم، بل نتيجة تجربة مريرة مع بعض الوزراء السابقين،

عون وبري: الانسجام المفقود

الذين كانوا محسوبين على التيار، ولم يتركوا في وزاراتهم أي بصمة تُسجّل لهم، مما ترك إنطباعًا لدى الرأي العام، مغايرًا لمبدأ  »التغيير والإصلاح«، وهو لم يستطع إقالتهم وتعيين آخرين بدلاء لهم، من دون الدخول في لعبة الأسماء.

أما المعارضون لهذه السابقة فيرون أن فيها ما يمسّ بكرامة الوزير، الذي جعل منه الطائف مطلق الصلاحيات في وزارته، ويعتبرونها تجاوزًا لمبدأ  »الرجل المناسب في المكان المناسب«، وضربًا لروحية الدستور، الذي أعطى صلاحيات القرارات لمجلس الوزراء مجتمعًا، والذي ترك لرئيسه حصرية محاسبة الوزير عن أي تقصير أو إهمال.

وعندما يًسأل العونيون، الذين دخلوا بقوة إلى السلطة منذ ما قبل تولي العماد ميشال عون رئاسة الجمهورية، بعدما منحهم الشعب وكالة مطلقة فكانوا أكبر كتلة نيابية مسيحية وثاني أكبر كتلة على مستوى كل لبنان، قبل أن يصبح تكتل  »لبنان القوي« أكبر كتلة في مجلس النواب، عن الأسباب التي منعتهم من إحداث التغيير المنشود خلال فترة تولي وزرائهم المسؤولية، ومن أهمها وزارة الطاقة، التي توالوا عليها، منذ أن تولاها الوزير باسيل نفسه، وهو الذي رفع شعار 24 على 24 ساعة كهرباء في اليوم، يأتي الجواب بأن الآخرين لم يسهّلوا لهم المهمة، ووضعوا العصي في دواليب الإصلاح المنشود.

وعلى ذلك، فإننا نأمل أن تكون طريق الإنجازات معبدّة أمام الحكومة، وبالأخصّ أمام وزراء  »التيار الوطني الحر«، الذين سيجدون أنفسهم محاصرين بالمراقبة لكل خطوة لا تُراعى فيها الأصول القانونية، تمامًا كما حصل في ملف الكهرباء في الحكومة السابقة، حين تمّ تجاوز صلاحيات مديرية المناقصات، وعدم تطابق المواصفات مع دفتر الشروط، الذي وضعته تلك المديرية.

فهل تكفي مهلة المئة يوم لتبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وهل تتطابق حسابات حقل باسيل على بيدر المطبات والعراقيل الحكومية؟

العدد 90 – اذار 2019