المناطق الزرقاء

سهير آل إبراهيم

يقول ريتشارد دوكنز اننا جميعا سوف نموت، وهذا ما يجعلنا الأكثر حظا! قد يبدو ذلك رأيا غريبا للوهلة الاولى، لكنه يستطرد ليقول أن أكثر الناس لن يموتوا لأنهم لم يُلَدوا أساسا، ولن يولدوا. يشير دوكنز بكلامه هذا الى ملايين الخلايا التي ينتجها الجسد البشري لغرض التكاثر، الا ان الغالبية العظمى منها تنتهي وتموت ولا تبقى الا (ذوات الحظ) التي تكمل طريقها الى نور الحياة. ولكن للاسف لا يستمر الحال كذلك في الحياة، فليس كل إنسان ينعم بصحة جيدة وعمر طويل، واغلب الظن ان تلك بعض من أكبر اماني الانسان، بل هي الأكبر بالنسبة للبعض.

في عام 2004 بدأ فريق من أفضل الباحثين في مجال طول عمر الانسان، وبالتعاون مع مؤسسة ناشيونال جيوغرافيك، بمحاولة لتحديد المناطق التي يبلغ فيها الناس أعمارا أطول منها في ما سواها من العالم. الهدف من ذلك، بلا شك، كان لدراسة العوامل التي تساعد وتؤدي الى إطالة عمر الانسان. وقد تم وفقا لذلك تحديد خمس مناطق فقط في هذا العالم الفسيح؛ تقع واحدة منها في اليابان، وأخرى في اليونان، منطقة إيكاريا التي كتبتُ عنها في هذه النافذة في عدد المجلة الماضي. كما توجد منطقة في جنوب إيطاليا، وواحدة في كاليفورنيا في الولايات المتحدة الامريكية، والمنطقة الاخيرة تقع في كوستا ريكا. وقد اطلق الباحثون على تلك المناطق او المدن الصغيرة اسم المناطق الزرقاء. قام الباحثون برسم دوائر بالقلم الأزرق على خارطة العالم حول تلك المناطق، ومن هنا صار يشار اليها بإسم المناطق الزرقاء.

وجد الباحثون ان نسبة احتمال بلوغ الانسان مئة سنة من العمر في المناطق الزرقاء يزيد عشر مرات عنه في الولايات المتحدة الامريكية. وقد أثار ذلك الرغبة لديهم للتعرف على طرق معيشة الأفراد في تلك المناطق، وايجاد الاسباب التي تساعد على طول العمر. وعليه فقد ذهبت فرق من العلماء والباحثين الى كل منطقة من المناطق الزرقاء.

بينت البحوث والدراسات أن تلك المناطق، رغم تباعدها عن بعضها جغرافيا، الا إنها تتشابه مع بعضها البعض في خصائص تم تلخيصها الى تسعة عوامل أطلق عليها تسمية عناصر القوة التسعة. حقيقة كنت في لهفة لمعرفة تلك العناصر التسعة، إذ تصورت في البداية انها أكاسير لا تتوفر الا في تلك البقاع الصغيرة والمحدودة في العالم، فاذا بها أمورا اعتيادية بإمكان اَي إنسان ان يجعلها جوانبا من حياته اليومية.

العامل الاول هو الحركة بشكل اعتيادي غير مبالغ فيه خلال اليوم، كالمشي والقيام بالأعمال المنزلية والعناية بالحديقة، فقد لوحظ ان الحركة الدائمة امر مشترك بين جميع سكان المناطق الزرقاء.

العامل الاخر هو أن يكون للانسان هدف يسعى الى تحقيقه، فقد بينت الدراسات ان وجود سبب يدفع الانسان للاستيقاظ صباحا يجعله أكثر سعادة وبصحة أفضل، كما انه يضيف ما معدله سبع سنوات الى عمره المُتوقع.

لوحظ أن المعمرين في تلك المناطق قد كونوا عادات تساعدهم على التخفيف من التوتر الناجم عن ضغوط الحياة، فالتوتر جزء طبيعي من مشاعر الانسان، وقد يسبب ضررا كبيرا لصحته ان لم يتخذ الوسيلة المناسبة للتعامل معه وتخفيف حدته. بعض اولئك المعمرين اتخذوا الصلاة وسيلة للحصول على الراحة النفسية والاسترخاء، وبعضهم اعتمد اللجوء الى النوم لفترات قصيرة اذا ما شعروا بالتعب والتوتر، فغفوة قصيرة تعيد اليهم الراحة والصفاء النفسي والذهني. ويلجأ البعض منهم الى تبادل الانخاب مع الاصدقاء والاحبة.

من العادات الاخرى المميزة لسكان المناطق الزرقاء انهم عموما يتبعون ما اطلق عليه الباحثون تسمية قاعدة الثمانين بالمئة، وهي ببساطة التوقف عن الطعام قبل امتلاء المعدة والشعور بالتخمة، فيتركون حوالي خُمس المعدة فارغا، كما انهم يتناولون وجبتهم الرئيسيّة في منتصف النهار، وفي المساء المبكر لا يتناولون سوى وجبة طعام خفيفة.

للنظام الغذائي المتبع في المناطق الزرقاء دور لا يستهان به في إطالة أعمار السكان هناك، فقد وجد الباحثون ان طعامهم عموما يتكون من البقوليات والخضار والفواكه، كما انهم لا يتناولون اللحوم الا بكميات قليلة.

يتواجد النبيذ بوضوح في نظام الحياة اليومية للناس في تلك المناطق، فهم يحتسونه بانتظام واعتدال، مع الطعام ومع الاحبة والاصدقاء.

أكد اولئك الباحثون ان ايمان الفرد وشعوره بالانتماء الحقيقي الى مجموعة تشاركه نفس العقيدة الدينية أو الروحية يطيل عمره بمعدل يتراوح ما بين أربع سنوات الى أربع عشرة سنة!

آخر نقطة ذكرها الباحثون، وربما هي الأهم، قوة ومتانة العلاقات الأسرية في تلك المناطق، وقد أشاروا بذلك الى الاسرة بمفهومها الأوسع، وقوة روابط المحبة والاهتمام ليس بين الآباء والابناء فحسب، بل يضاف اليها الروابط بين الأجداد والأحفاد، وكل من ينتمي لنفس الاسرة من أعمام وأخوال وغيرهم.

لا يمكن إغفال تأثير العوامل الجينية على طول عمر الانسان، الا ان تأثير تلك العوامل محدود لا يتجاوز العشرين بالمئة، اما الثمانين بالمئة الباقية فتعود الى تأثير البيئة ونظام الحياة اليومية.

من الملاحظ ان منطقتين من المناطق الزرقاء تقع ضمن حوض البحر الأبيض المتوسط، ولكن لا توجد مثيلات لها في عالمنا العربي، والذي يقع جزء لا يستهان به منه في ذلك المجال. لو فكرنا بالعوامل التي تساعد على اطالة العمر المذكورة، نجد ان بعضها يتوفر لدينا، فهناك نسبة كبيرة من اخواننا في العروبة لا يتمتعون بما توفره التكنولوجيا الحديثة من وسائل الراحة، وذلك يدفعهم للمشي والحركة والقيام بالكثير من الاعمال التي تتطلب مجهودا جسديا. كما ان الفقر يجبر الفرد ان يكون نباتيا في معظم الأوقات. الدين والعقيدة؟ لدينا منها الكثير، وكذلك الامر بالنسبة للعلاقات الأسرية وربما العشائرية أيضا. فلماذا يا ترى لا توجد في بلادنا اَي منطقة زرقاء. بل على العكس من ذلك، ففي بعض اوطاننا لا يلبث الانسان ان يعي وجوده في هذا العالم حتى يغيبه الموت!

تتوفر في بلادنا العوامل البيئية المناسبة لاطالة العمر، ولكن الانسان لدينا يفقد حياته مبكرا، ان لم يكن قتلا فهو يموت حسرة ولوعة وكمدا. اصبحت العقيدة في بلادنا عاملا من عوامل الموت، بدلا من ان  تساعد على اطالة العمر كما هو الحال في أماكن اخرى.

ألا يجدر بأرض الرافدين ودار النخيل ومنجم الخيرات والثروات ان تكون منطقة زرقاء؟ وهل سيأتي زمان يطول فيه عمر العراقي فيعيشه بأمان وصفاء، لا تكدره حرقة قلب على أحبة تنتهك أعمارهم أيادٍ مجرمة، ولا خوف من مستقبل مظلم مجهول، ولا حسرات تستنزف العمر والروح على احلام تبدو صعبة التحقيق بينما هي في الواقع حقوق يفترض ان يتمتع بها ببساطة؟