لا خلافة ولا دولة ولا رجال دين في القرآن 6 من 7

رؤوف قبيسي

من المتشدّدين من يرى في كلمة  »خليفة« الواردة في القرآن حجة لتأسيس دولة الخلافة. هذه الكلمة لم ترد في الكتاب إلا في سورتين، الأولى في سورة البقرة، وتعني البشر أجمعين،  »وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقّدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون«، وفي المرة الثانية في سورة  »صاد«، وفيها وعد من  »الله« إلى داوود  »النبي«:  »يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب«. يستدل من الكلام هنا أن كلمة خليفة تعني  »رسول«، أي أن  »الله« جعل داوود رسولاً، وهي خاصة بداوود وعلاقته بشعبه وزمانه على أي حال، ولا علاقة لها بالعرب، ولا بالمسلمين!

 سيقول قائل: ماذا عن الزواج ماذا عن الطلاق ماذا عن الإرث، وغيرها من تعاليم هي أساس الشريعة؟ ما المشكلة إذا قلنا إن  »حدود الله« هنا أرضية، كان لا بد منها في أزمنة محددة، وأنه ما دام الزمن قد تغير، فلا ضير أن نتجاوزها إذا كان هذا التجاوز، لا يعني خروجاً على جواهر الإيمان؟ إذا كان  »الله« يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر، ألا يعني ذلك أن من حقنا أن نجتهد، ونضع القوانين التي تناسب عيشنا، ما دمنا ملتزمين روح الكتاب في الخير والصدق والتسامح والرحمة والمحبة، وما دام الحاكم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟!  »الله غني عن العالمين«، هكذا يقول الكتاب، وإن نحن تعبّدنا ووضعنا ما يناسبنا من قوانين، فذلك لأجلنا، لا لأجل  »الله« الغني عنا، وعن العالمين.

قد يقول قائل إن القرآن نمط حياة، وإن ما فيه شريعة لا تقبل التبديل والتعديل، وإن القوانين المدنية لا تتوافق مع القوانين الإلهية، الصالحة لكل زمان ومكان. لست فقيها، ولن أذهب مذهب الفقهاء، ولست مؤهلاً لأعتمر عمامة أحد منهم ولا أريد، لكن أقول إن التفسير ليس وقفاً عليهم وحدهم. أعمل عقلي فيما هو أمامي وأقول، إن الدولة المدنية ليست خروجاً على الإسلام، بل هي الدولة الوحيدة التي تجعل المسلم يخاف  »الله«، ويوآخي المسيحي واليهودي والبوذي والملحد، وفي القرآن آية جلية واضحة تسند هذا الرأي:  »يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم«.

 القرآن هنا يقول لنا إن التقوى عند  »الله« تحتّم علينا التعارف مع القبائل والشعوب، وهؤلاء لا بد أن يكونوا مختلفين عنا حتماً، لأننا لو كنا شعباَ واحداً متجانساً، ولساناً واحداً، لما أوصانا القرآن بالتعارف، خصوصا أن فيه آية تقول:  »ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة«. هنا لا بد للعاقل أن يتساءل: هل هناك شريعة أفضل من هذه الشريعة التي جاءت من بلاد العرب قبل مئات السنين، وقبل أن يسمع العالم بشي اسمه شرعة حقوق الإنسان، ويضع المبادئ التي مهدت لتأسيس عصبة الأمم المتحدة؟

يقول القرآن  »لا إكراه في الدين«، ويقول للمسلمين أمركم شورى، وإذا اتفق أن وجد الناس الدولة المدنية خير سبيل إلى هذا التعارف وإلى هذه التقوى، هل تكون هذه التقوى عندئذ خروجاُ على الإسلام، أم تكون من صلبه. الدولة المدنية ليست فكراً مستورداً، هي من صلب الإيمان القرآني. أما الذين يظنون أن الخلافة مدينة فاضلة فواهمون، وكلنا يعرف أن الدول التي نشأت في الشرق، وحُسبت على الإسلام قامت بحد السيف والغدر والقتل، وما نقلته كتب التاريخ في هذا الشأن واضح! أما المدينة الفاضلة، التي حكى عنها فلاسفة الإغريق، فهي في الأحلام، ولن توجد في الحياة الواقعة ولو بعد ملايين السنين، لأنها منافية للطبيعة البشرية القائمة على التضاد، وعلى ثنائية الخير والشر، ولأن هذا العالم سيبقى دوماً عالم لصوص وكذبة وأفّاقين ومجرمين وأوغاد كما قال فاغنر، ولقد أوضح القرآن هذه الطبيعة الخيرة الشريرة قبل أن يولد فاغنر بقرون. أوضحها في آية تقول:  »ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها«. أما رافضو الدولة المدنية بحجة أنها خطر على المجتمع، ودولة فسق ومجون، فيجب أن لا يغيب عن بالهم أن دولتهم البديلة، الدولة الدينية، ستقضي على العقل إن قامت، وستكون عنصرية لا محالة، وستشعل الضغائن والفتن والحروب، خصوصاً متى ولدت في منطقة تكثر فيها الأديان والمذاهب، وهي لن تدوم على أي حال، لسبب بسيط، هو أنها مخالفة لروح القرآن!

قد يقول قائل إن الخلافات ستبقى قائمة إذا استبدلنا الحدود القرآنية بقوانين مدنية. أبحث في القرآن فأجد كلاماً لا مثيل له في أي كتاب سموي وغير سموي. آية يمكن أن تكون دستوراً للأمم:  »إلى الله مرجعكم جميعاَ فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون«، معناها أن  »الله« وحده يبّت في الخلافات بين البشر، ولا يحق لغير  »الله« أن يفعل ذلك! هل قرأ الداعشيون، والأخوة  »المسلمون« من جميع الطوائف والمذاهب، هذه الآية المرددة في غير سورة من سور القرآن؟ أظنهم قرأوها غير مرة، لكن هل فهموها حق الفهم؟ لو فهموها لما تجرأ أحد منهم، على الأخذ بالسيف، ليفرض معتقده على الآخرين.

أعطي بعض الأمثلة التي تجعلنا نقر بأن بعض ما جاء من أحكام قرآنية كانت لزمن محدد، مثل الآية التي تقضي بقطع يد السارق. هل يعقل مثلاً أن ننفذ حكماً من هذا النوع في زمننا الحاضر، مع معرفة ما يمكن أن يترتب على هذا الحكم من نتائج، تتحملها دائرة الرعاية الاجتماعية، لتنفق على من قُطعت يده؟

مثل آخر: تقول آية في سورة النساء:  »ومن قتل مؤمناً خطاً فتحرير رقبة مؤمنة أو ديّة إلى أهله«. ألا تعني جملة  »تحرير رقبة« أنها لزمن محدد كان فيه رق وكان فيه عبيد؟ ثم أن قيمة الدّية غير محددة، وقيمتها قبل 1400 سنة غير قيمتها الآن. كذلك، هل يعقل اليوم أن يتزوج رجل أربع نساء، وأن يبقى التناسل كما هو ولا يتحدد، فيما أعداد  »المسلمين« في العالم تزداد على نحو مخيف، ومعها نسب الأمية والبطالة والمرض بينهم، لا لشيء إلا لأن القرآن لم يحدد النسل؟! هذا ما يراه بعض  »الفقهاء« النجباء الذين يعارضون تحديد النسل، ويبررون الزواج من قاصرات، ونكح اليتامى اللاتي لم يبلغن بعد، أو يحضن بعد.

الآيات القرآنية عند بعض الفقهاء تبيح هذا الزواج، لكن أي عاقل يتدبر الكتاب، سيدرك أنها كانت، استناداً إلى ما تقدم ذكره، تعليمات لزمن محدد، وكان هناك ما يبررها، إذا وقفنا على أحوال الأعراب قبل الإسلام، وما كانوا عليه من تخلف، وحاجتهم الماسة إلى قوانين وإرشادات تخفف من حدة حياتهم البدوية الجافة. لقد منعت دولة مثل مصر الزواج من القاصرات، فهل يعني ذلك أن الدولة العربية الكبرى، التي فيها الجامع الأزهر، وجامع  »سيدنا الحسين« خالفت القرآن؟!  القرآن لا يتساهل في  »العبادات«، لكنه يتساهل في  »المعاملات« إذا كان ذلك من ضرورات الزمن وأحكامه. هذا عند العقول النيّرة، لكنه ليس كذلك من منظور الذين  »لا« يتسع القرآن عندهم إلا لدماغ واحد، الساعون في الظلم، الظلاميون الكارهون للنور، الذين لا يريدون لشمس الحياة أن تسطع.

مثل آخر يتصل بموقف القرآن من اليهود والنصارى. من يقرأ الكتاب قراءة سريعة، سيعتبره كتاباَ عنصرياً، لأن فيه آية عن اليهود تقول:  »لتجدّن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا«. هذه الآية بحد ذاتها خير دليل على أن بعض ما جاء في القرآن من أحكام، هو لزمن محدد. القرآن لا يمكن أن يكون ضد اليهود في المطلق، بل ضد يهود قدامى خالفوا شريعة  »موسى والأنبياء« يوم ظهور الإسلام. الشيء نفسه يمكن أن يقال عن المسيحيين، الذين يسمّيهم القرآن نصارى. تقول الآية لرسول الإسلام  »لن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم«. هذه الآية لا يمكن أن تكون ضد اليهود والمسيحيين على العموم، بل ضد المتزمتين من  »النصارى واليهود«، الذين لا يرضون عن المسلم حتى يتبع ملتهم، كما  »المسلم« المتزمت، لا يرضى عن المسيحي واليهودي حتى يتبعا ملته. قد أبدو هنا وكأنني أقوم  »بجراحة تجميلية« للقرآن، لكني لا أجد تفسيراً لهذه الآيات القرآنية  »المثيرة للجدل« في أذهان بعض الناس، ولا أريد أن أجد لها تفسيراً إلا في ضوء مصباح يقضي بقراءة إيمانية غير حرفية للآيات، وإلا وقعنا في حبائل المتزمّتين، وتفاسيرهم الضيقة، التي توسّع هوة الخلاف بينهم، وبين أتباع العقائد الروحية الأخرى، وتجر بلادنا وأجيالنا إلى الوراء.