الروائيّة جهينة العوّام حول رواية واو الدهشة

نسرين الرجب ـ لبنان

 »مازال الفن هو الشيء الوحيد القادر على جَمع الناس وإمتاعهم  وإسعادهم.«

استطاعت الكاتبة السوريّة  »جهينة العوّام« والكاتب المصري  »محمود عبد الغني«  أن يقدما سردا مشتركا مدهشا في خصوصيته،  »واو الدهشة«، صدرت الرواية عن دار فواصل في طبعتها الأولى 2019، لوحة الغلاف للفنان اللبناني شوقي دلال، وتتألف الرواية من 207 صفحة، من الحجم الوسط،  احتلت مساحة السرد فيها الروائيّة جهينة في حوالي 130 صفحة، أما الصفحات الباقيَة فتقاسمت سردها مع الروائي المصري، كلٌّ يعرض للأحداث انطلاقا من رؤيته وأسلوبه الفنيّ.

التماهي بين شخصية  »رجا العارف« و  »جبران خليل جبران« قويّا فاق موضوعة استحضاره في الرواية، إلى التشابه مع جميع مفاصل ومفارق حياة الفيلسوف والأديب والفنان المهجريّ الراحل، مع فارق حاسم في دلالته ألا وهو نقص هرمون الجرأة وارتفاع معدّل الخوف والتردد عند شخصيّة  »رجا«، لا تقف الرواية عند موضوع واحد قابل للمعالجة بل تطرح إشكاليات وتأويلات عديدة، ثورة  الفلاحين التي تؤكّد أنّ المقاومة هي فعل شعبيّ وانتفاضة فطريّة ضدّ الظُلم والعدوان، سرقة الآثار الفنيّة، الانسان بكامل تناقضاته، الزمن الذي يُعمل تعديلاته في الذاكرة الصوريّة للشعوب والفن الذي يعيد توضيح ما تمّ تضليل هويّته، الرواية هي فعل مشافهة، بينما الكتابة هي فعل نقل وإثبات،  كيف يستطيع كاتبان أن يتقاسما الشغف ذاته اتجاه رواية شخصيّة، وأن ينقلا من خلالها موضوعات عميقة الأثر في حياتنا.

رواية واو الدهشة

كان للحصاد شرف الحوار مع الروائيّة والشاعرة  »جهينة العوّام« حول تجربتها في  »واو الدهشة« خصوصيّة اللغة والموضوع، وكيف امتدّت جسور التعاون لتجمع روائييْن من بلديْن مُختلفيْن، مع الإشارة إلى أنّ عالم هذه الرواية فسيح ويتّسع لكثير من الأسئلة، وليس غنيّ عنها تجربة الكاتب المصري.

 »الحصاد«: بداية؛   »واو الدهشة« هل نستطيع أن نقول أن العنوان في تعبيريته ابتكار لغويّ؟ وخاصة أنك عرّفت عنه على لسان رجا الشخصيّة المحوريّة في الرواية؟

جهينة العوّام: سأترك لرجا العارف أن يجيب :

 » سلمى هل تعرفين ما الذي تحتاجه الـ (كن) لتصير (كوْن)؟ – لم يكن لي مزاج لهذه الأسئلة السريالية..-

فأجبته: في الشكل تحتاج الواو؟

أعتقد أنّه لم يكن ينتظر جوابا من أحد إنّما كان ينطق ما يفكر به، فأردف:

  كن هي جذر الكون! نحن لا نكون من دونها، كُن هي أوّل أفعال الخلق وأكثرها  ديمومة، لكنه غالبا ما يستعصي علينا فهم الاختلاف بين الصيغتين، وتلك فرادة اللغة، حين تتقوزَح كُن وتطلق من فرادتها تلك الطاقة الخلّاقة ليتوالد من رحمها وجماعها وجمعها هذا الكون.

كأنّ المفرد أساس الجمع الذي يتطلّب التحقق بواسطة حرف وسيط يصل بين الكاف والنون، لطالما أذهلني هذا الواو في قدرته على الحمل والتوليد والتأويل، فهو أحيانا واو العطف والمحبة، ومن دون عطف تموت الأشياء وينقطع الوصل بالفصل، وهي على قول النحويين واو الجمع أو الحال أو القَسَم وكذلك هو  واو النداء وواو الندبة.

كم أخذ هذا الواو  من تفسيرات ومعانٍ، لكن ليس أيّا من هذه  الواوات غايتي، كلّها برأيي أقل من واو تخرج على قواعد اللغة وتقفز فوق قوانين النحو إنها  وااااااو الدهشة وشرط الحياة«.

 بالنسبة لي اختيار العنوان يستوقفني كثيرا والى الآن أنا راضية عن خياراتي السابقة  » تحت سرَة القمر« و »أنثى برية«،  »كان عربيا وكانت كتاب«، و »واو الدهشة«.

 »الحصاد«: كروائية كيف حملت الهم اللغويّ؟ وما هي باعتقادك واجبات الروائيّ تجاه تطوير وتثوير الجانب اللغويّ؟

جهينة العوّام: نادرا ما أتذكر من أنا! حين أباشر كتابة عملي الروائي فتلك الأوقات المشبّعة بالسحريّة والشغف لا أدري أكتبها أم تكتبني، لذا يتحوّل شغلي الشاغل أن أملأ محبرتي مما يرشح عن تلك اللحظات. اللغة هي الإطار الذي أبحر فيه لأشكّل الرواية، وهي المادة الأولى التي تتأثر بعواطفي ومشاعري وحقيقتي فتواكب  انفعالاتي، لذلك تأتي اللغة من جدليّة الوجود والوجد. اللغة عشقي أطوعها لتحبني، في تلك اللحظات تحديدا لا أفكر برسائل ولا بواجبات أو نظريّات، ما أريده فقط هو الصدق وأعتقد أن هذا  ما يحتاجه أيّ إنسان حريص على لغته أو ثقافته.  نعم المسألة بهذه البساطة، نحتاج إلى ممارسة وعمل وليس نظريّات وثورات افتراضيّة.

 »الحصاد«: كان للغة الشعرية أثرا بيّنا في عملية السرد، إلى أي حد برأيك خدم ذلك العمل الروائي؟ وهل هذا ينتقص من الواقعية فيها؟؟

جهينة العوّام: أسلوبي ككاتبة وما أمتلكه من قاموس لغويّ يأتي بالشعر الى الرواية، ويذهب ربما بالرواية إلى الشعر حيث، أني لا أجد فصلا في الإبداع بكلا المجالين. على اللغة استدراج الدهشة إلى الرواية عبر بساطة السرد ومساحة الدلالة، والشعريّة تمتلك هذه الميزة لأنها المكان

الروائيّة جهينة العوّام

اللغويّ المُناسب للتشابك بين المعلوم والمدلول، بين الذاتي والكوني، بين الواقعي والسحري.

برأيي لا ينتقص هذا من الواقعيّة في العمل الروائي، فهي واقعيّة مُتخيّلة، وإن كان الحقيقي فيها هو الغالب. اللغة أداة تجترح من الانفعالات والروح كلمات والكلمة كلمة سواء كانت نثرا أو اقتربت من الشعر. الرواية فن والفن لك أن تقربه وتطلب ودّه، طالما أنّك تمتلك الأدوات ولديك زوّادَة كافيَة من الجمال ترصف طريقك إليها .

 »الحصاد«: في الحديث عن تجربتك مع الروائي المصري  »محمود عبد الغني«، ما هي الأسباب التي تجعل كاتبان يتبنيان الرؤية ذاتها في كتابة عمل روائي؟ العوامل التي تؤدي إلى نجاح هذه الشراكة؟ الصعوبات التي واجهتكما؟ هل حدث هناك تنازلات أو تقليل لعنصر الأنا الراوية؟

جهينة العوّام: منذ سنوات وكل الخطوط الرئيسية لـ »واو الدهشة«، واضحة في مخيلتي لكن ثمة فجوة في مكان ما أدركتها قبل شهور وعرفت تماما ما أريد،  هذه الرواية يجب أن تُكتب بلُغتيْن مختلفتيْن وروحيْن لا تشبهان بعضهما البعض. فبحثت عن كاتب آخر وبالصدفة وقعت في يدي رواية  »متحف النسيان«، للكاتب  »محمود عبد الغني«، بعد قراءتي لها  قررت التواصل مع الكاتب عبر الانترنت وبدوره كان سعيدا جدّا بالفكرة .بالطبع كانت هناك صعوبات فأنا إلى الآن لم ألتقِ بشريكي في العمل واقتصرت المحادثات في الأغلب على البريد الإلكتروني وهذا يجعل الشراكة أمرا صعبا، خصوصا في عمل من هذا النوع، لكنّ الحل كان ناجحا، فقد توصّلنا إلى رواية مُنفصلة مُتّصلة تتيح لكُلّ منّا العمل بحريّة وتقديم نفسه  بطريقته من دون أيّ تنازل إطلاقا.

في هذا  الزمن الذي يقدّس الأنا والانقسامات والتفتّت تصدر رواية عربيّة سوريّة مصريّة ويرسم غلافها  فنان لبناني  »شوقي دلال«، وتُطبع في بيروت، مازال الفن هو الشيء الوحيد القادر على جمع الناس وامتاعهم  وإسعادهم.

 »الحصاد«: هل شخصيّة  »رجا العارف« الورقيّة، هي حقيقيّة أم مجرد قناع؟

جهينة العوّام: شخصيّة  »رجا العارف« حقيقيّة وقناع بآن معا.. ككل البشر، لعب دور الابن والأخ والتلميذ والعاشق والخاطئ والصادق والنادم عرفته  طوال فترة كتابة الرواية، كنّا أصدقاء باح لي بالكثير وأخفى عني الكثير كان حقيقيا أغلب الوقت وتوارى خلف أقنعة أحيان أخرى وها نحن نفترق ونودع بعضا من دون أن يجيب عن الكثير ومن دون أن أخبره كل ما أريد.. إنّها الحياة!

 »الحصاد«: لماذا التماهي بين جبران خليل جبران وشخصيّة رجا العارف؟؟ هل هي محاولة لإعادة قراءة الموروث الجبراني، وتقديم نقد للواقع الراهن من خلاله؟

جهينة العوّام: جبران كان محاولة لتحريك الاسئلة الساكنة بالربط بين سيرته وسيرة رجا العارف، الأدب الجبراني يعاد تقديمه  وتشكيله وِفق توقيتات زمنيّة مفصليّة في حياة بطل العمل الذي يأخذ مسارات وخيارات مختلفة، رغم توافر بدائل لا تلقَ قبولا في حسابات رجا العارف.

 »الحصاد«: هل يمثل رجا شخصية المثقف المعاصر الذي يحمل بذور الإبداع ولكنه متردد وراضٍ بما هو أقل ضرر؟

جهينة العوّام: أعيد السؤال بطريقة أخرى: من هو المثقف؟

رجا فنان أجبرته الحياة على دروب لم تكن لتخطر ببال رجل يحمل جذوة الإبداع. هل استطاع ان يكون مثقفا؟ أم هو فنان مبدع ؟ ليس كلّ مثقف فنان والعكس صحيح، حاولت أن أنسج علاقة الاجتماعيّ بالابداعيّ أو بالثقافي وكيف يتجادلان وكيف بالتعبير السوري الدارج هذه الأيّام (التكويع) وكيف تأتي هذه المسارات نتيجة الجدل بين ما نريد وما يُراد لنا. ما نختاره ونحن نريده فعلا وبين ما نختاره ونحن لا نريده .

 »الحصاد«: إحياء السيرة الذاتية داخل الرواية من خلال المذكرات وتقنيات الاسترلاجاع والتذكر، ووجود شخصيات تروي تاريخ الشخصيّة، مع المحافظة على أحداث آنية طفيفة تخص الشخصيّات الراوية، ما الذي يضيفه إلى المفهوم الروائي؟ هل يعزز الروايّة أم يرجح كفة السيرة الذاتيّة على حساب أحداث الرواي؟

جهينة العوّام: السيرة الذاتية شكل من أشكال الحكاية أو بالأدق هي أقرب الى أن تكون تقريرا عن الواقع ومحاولة لأرشفته وفق منظومة أولويات صاحب السيرة أمّا الرواية فهي ليست كذلك، أنا اعتمدت السيرة الذاتيّة للانتقال إلى عالم أرحب لكنها كانت إحدى مصادري التي بنيت عليها وأضفت لها، وأهملت منها بما يتوافق والشخصيّات التي اخترتها  للرواية.أعتقد انني وُفقت في الإمساك بالكفّتين معا لصالح العمل.

 »الحصاد:« تحدثت عن جانب مهم من تاريخ المقاومة الوطنية أيام الانتداب الفرنسي على لبنان، هل واجهت صعوبات في البحث التاريخي. وكيف حافظت على حيادك السياسيّ؟ خاصة، نحن في مرحلة زمنية كثيرا ما يتم الحديث فيها عن التقليل من مساوئ هذا الاستعمار؟

جهينة العوّام: تجنبت مقولة البحث التاريخي عن عمد. أضأت على الحدث من دون أن أحقق فيه، استخدمت المعطيات التاريخيّة، بما يخدم العمل الروائي، الحياد السياسي كذبة واهية لايوجد في الحياة شيء اسمه الحياد فحتى هذا الحياد هو تصنيف سياسي، يقابله الرماديّ أو النأي بالنفس. مسقط رأسك قد يكون تهمة سياسيّة لون بشرتك ودينك.. السياسة تتدخل برغيف خبزنا!!

أما بالنسبة للبحث التاريخي فقد واجهت صعوبة واستعنت بالكثير من المراجع والأصدقاء، واستمعت الى بعض الشهادات التي ساعدتني في بحثي،  أوافقك الرأي، أننا في مرحلة زمنيّة تدعو للتطبيع والتقليل من مساوئ الاستعمار لكن ما أود قوله أنّ الهدنة واتفاقيات السلام ليس لها  مفاعيل رجعيّة.. ما قبلها  له تسميَات صريحة لا تتغيّر، الحرب هي الحرب والاستعمار هو الاستعمار.

 »الحصاد«: عرّجت على ذكر أحداث وحروب كان لها أثر كبير في تشكيل الوجه السياسي للمنطقة. ولكن لاحظت أنك تعجلت المرور فيها، كي لا تعلقي في تفاصيلها اللاحياديّة ربما؟ هل أنت مع أن يدلي الروائي بتصريحاته وأرائه السياسية؟

جهينة العوّام: تعجلت المرور كي لا أثقل على الرواية ماليس من مسارها، تلك المرحلة انطبعت بمكوناتها السياسيَة والثورة رد فعل أو بالأصح حق طبيعيّ من حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، أضأت على هذا الحق الاجتماعيّ وعلى حق الجيل الجديد باسترجاع ذلك الماضي ليكون بمثابة قراءة لمستقبل أفضل. لقد قال المؤرخ أرنولد توينبي  »من يستطيع أن يعرف من أين يستطيع أن يعرف الى أين«.

سبق أن اخبرتك ان الحياد مزحة واهية ..ثمة تسمية اكثر دقة وهي الحياد القهري، أنا مع الانسان. السياسة تتبدّل وتتغيّر ولها حساباتها ومصالحها، المنابر والتحليلات السياسية لها زبائنها ومفكريها، وناشطيها الكُثر، أمّا المثقّف فليس له إلّا مشروع أصيل هو الإنسان، يعني أضعف الإيمان أن يضبط بوصلته  على صياح السنابل بعيدا عن مهرجانات الصوَر وألقاب العصر .

يوم احترقت روما كان أحد وزراء نيرون يبكي فقال له نيرون :

هل تبكي لأنني أحرقت روما؟

فقال له: لا

فربما يأتي أحد بعدك، ويبنيها أفضل مما كانت.

فقال نيرون متعجبّا:علّام تبكي إذا؟

فأجابه الوزير:

نفوس الناس. إنّني أبكي لأنك قرضتَ الناس شعرا سيّئا، وفرضته على الناس فقتلت فيهم المعاني، وهيهات أن يأتي أحد بعدك، ويعيد بناء المعانيّ في نفوس الناس.