الجزائر.. بلد الثوار تجدد الثورة

جذور القضايا.. وتطلعات الشباب.. ومكانة بوتفليقة

أمين الغفاري

عبدالعزيز بوتفليقة ليس مجرد رئيس اعتلى السلطة في بلد المليون شهيد، فهو قبل ان يكون رئيسا للجمهورية، هو واحد من الرموز التاريخية، لمرحلة النضال الوطني الجزائري ضد استعمار استيطاني غاشم كان يعتبر الجزائر جزءا من التراب الوطني الفرنسي.

عبدالعزيز بوتفليقة تاريخ وطني حافل، تقلد مواقع سياسية وتنظيمية مختلفة ومتعددة، وأوفد في مهام على مستوى رفيع من التكليف، وكان أصغر وزير خارجية في العالم (27 عاما) وعلى ذلك فهو جدير بأن تكون نهايات مرحلته على قدر كبير من ألأحترام والتكريم الذي يليق بتاريخه العريض. لقد بدأ نضاله الوطني وعمره لايتجاوز التاسعة عشر من عمره حين التحق بصفوف جيش التحرير الوطني الجزائري، كان المناضل الشاب الذي اختارته قيادة جيش التحرير الوطني ليكون رسولها للأتصال بالقادة الجزائريين (أحمد بن بيللا ورفاقه) الذين تم

الرئيس عبدالعزيز بوتفليقه
يبقى منه الرمز لمرحلة ناصعة من الكفاح الوطني

اعتقالهم في فرنسا، بعد ان قامت طائرة عسكرية فرنسية، باعتراض الطائرة التي كانت تقلهم من الرباط إلى تونس، وأجبرتها على الهبوط عام 1956، وتم القبض عليهم وترحيلهم إلى سجون فرنسا. أوفدت قيادة جبهة التحرير الجزائرية بوتفليقة لعرض اوجه الخلاف بين قادة جيش التحرير، والحكومة المؤقتة الجزائرية في ذلك الوقت بقيادة يوسف بن خده، بعد استقالة فرحات عباس وكان أول رئيس للحكومة المؤقتة، وأدى بوتفليقة رسالته ونال دعم احمد بن بيللا لمطالب جيش التحرير في مواجهة الحكومة المؤقتة.

لكن تكريم الرجل لايعني اطلاق يده في الحكم إلى آجال غير محدودة، وعبر كل سنوات العمر (أطال الله عمره وعافاه وشفاه). فالشعوب تجدد شبابها بتجدد حكامها، وبتجدد رؤاهم وثقافاتهم. انتهى عصر الزعامات التاريخية، والقادة الكبار الذين أحدثوا تحولات في حركة التاريخ، وتركوا بصمات في حركة التغيير السياسي والاجتماعي، وأثروا في واقعهم الوطني والأقليمي، وفي حركة التحرر العالمية وأصبح الشعب هو القائد، وليس فقط الملهم، وترتيبا على ذلك فليس هناك توقيع على بياض، وليس هناك انتخاب بلا شروط، كما ليس هناك حكم بلا قواعد. الشعوب تتطلع إلى فجر جديد من الحريات، ومن العدل الأجتماعي، وحق تقرير المصير.

الجزائر والنخبة السياسية

رغم ان القوى الاستعمارية قد غرزت انيابها في المنطقة العربية مبكرا، وتحت مسميات مختلفة، ما بين الانتداب والوصاية والحماية، بل واستتباب الامن، وخلاص الشعوب من الاستبداد، الا ان بلدين عربيين عرفا نوعا آخرمن الاستعمار اختلف عن ماتعرضت له البلدان الاخرى، وهما الجزائر، وفلسطين، وهما وحدهما في المنطقة العربية اللتان عرفتا معنى الاستعمار الأستيطاني، ففرنسا اعتبرت ان الجزائر ليست بلدا عربيا واسلاميا، وانما هي امتداد للارض الفرنسية، فقامت على تغيير اللغة بالعنف وقوة السلاح، وحققت الكثير من النتائج، وحاولت الأقتراب من الدين، ولكنه كان الميدان الأصعب، أما فلسطين فقد عملت الصهيونية على استبدال شعب بشعب، وتغيير الهوية، وآذرتها، القوى الأستعمارية لألتقاء المصالح، واستنزاف ثروات الأمة ومن ثم وقفت بجوارها منظمات الدولية، وصدرت قرارات تبارك عمليات الأغتصاب، وتم ابتلاع قرارات حاولت ان تنصف الشعوب، والتحمت جيوش، وسالت دماء، وسقطت ضحايا، ودمرت عواصم ومدن، وشردت مجتمعات كانت آمنة، وجرى التآمر على نطاق أوسع وأشد، وأعلنت الدولة الصهيونية كثمرة للتأييد والحماية الأستعمارية، وان كان الأمر لم يزل حتى الآن موضع مقاومة تتسم بالشراسة والرفض الفلسطيني أولا والتأييد الشعبي العربي ثانيا ورغم تفسخ الموقف الرسمي بشكل عام، ولاشك ان حجم التآمرالدولي له الكثير من البصمات على التاريخ والحاضر الفلسطيني ووقائعه. لكن في الجانب الجزائري، كانت ثمة اختلافات. لم تدخل القضيةالجزائرية أروقة الجامعة العربية، ودهاليزها، وتخضع لمزاياداتها، وانما اتسمت حركة النضال الجزائري بالمقاومة الشعبية كفاعل رئيسي وأساسي بعيدا عن المحافل الدولية والأقليمية، ومن هنا تعددت القوى السياسية وتنظيماتها المختلفة على الساحة الجزائرية، عبر عقود طويلة من الزمن. احتلت فرنسا الجزائر في 5 يوليو عام 1830، واندلعت المقاومة الجزائرية بقيادة (عبدالقادر الجزائري)، ولم تنته المقاومة برحيله عام 1883، ولكن تسلمتها اجيال أخرى، منها حركة (مصالي الحاج) الذي لقب ب(أبو الأمو) وتنظيمه (نجم شمال افريقيا) عام 1926 الذي تحول إلى (حزب الشعب الجزائري) عام 1937 ثم أعلن حله عام 1939، وانضمامه إلى حركة انتصار الحريات الديموقراطية، وأخيرا إلى حزب الحركة الوطنية الجزائرية، وقد رحل عن عالمنا عام 1974 في فرنسا. تعددت القيادات والتنظيمات والأدوار على الساحة الوطنية الجزائرية، وبرزت منها شخصيات لافتة منها (محمد بوضياف) وقد تولى رئاسة الجمهورية 16 يناير عام 1992، وتم اغتياله في 29 يونيو 1992 أي في نفس العام، وقد قام في مطلع نضاله بتأسيس حزب الثورة الأشتراكية عام 1962 و(حسين آية أحمد) وهو احد قادة جبهة التحرير وقد أسس بعد الثورة حزب القوى الأشتراكية، وقد رحل عام 2015 ونعاه الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بقوله (أنه قامة تاريخية بأبعاد انسانية وسياسية)، وشخصيات مماثلة تاريخية أخرى عديدة كانت لها أدوارا، وبذلت الكثير من التضحيات في السجون الفرنسية والمطارادات التي لم تنقطع والمنازل التي كانت تهاجم وتقتحم بحثا عن المناضلين، وارهابا لعائلاتهم، ولكن ذلك لم يفت في عضد

انتفاضات شعبية تبحث عن الآفاق الجديدة لمستقبل البلاد

المقاومة أو في جسارتها، فتواصلت حتى الدور الأخير الذي قامت به جبهة التحرير وتسلمت الراية في قيادة الحركة الوطنية.

جبهة التحرير الجزائريه

هي الجبهة التي رست على شواطئها حركة الأستقلال بعد كل تلك المراحل التاريخية لقادة كبار والتضحيات الجسام التي بذلتها كافة القوى الوطنية عبر عدة مراحل وعقود من السنين، وكان الأبرز فيها قائدان هما (مسعود مزياني) الذي عرفه العالم بعد ذلك باسمه الحقيقي (أحمد بن بيللا) والآخر هو (محمد بو خروبه) الذي تقلد وزارة الدفاع وقيادة جيش التحرير ثم، بعد الأنقلاب الذي قاده تسلم رئاسة الجمهورية، وقد عرفه العالم ايضا باسم (هواري بومدين). كان الأول قد جاء إلى القاهرة لطلب الدعم العسكري والسياسي والاعلامي من قادة الثورة المصرية واستنادا إلى تشكيل من شباب الجزائر يطمحون إلى اعلان الثورة المسلحة لتحرير بلادهم من الاستعمار الفرنسي، والثاني كان طالبا يدرس في جامعة الأزهر وكان ايضا عضوا في المكتب المغربي العربي الكبير منذ عام 1950، وكان من مؤسسيه علال الفاسي من المغرب وصالح بن يوسف من تونس واحمد بن بللا ومحمد بوخروبه من الجزائر، وكان الشاب يلتهب حماسا وتطلعا إلى حركة الكفاح ضد الغاصب الفرنسي لوطنه الجزائر. اتفقا، وسارت اجتماعاتهم بالقيادات الجديدة للدولة المصرية لتحقق نجاحا وراء نجاح، وتم اعلان الثورة الجزائرية في أول نوفمبر عام 1954. اعتقل بن بيللا ومعه رفاق أربع عام 1956 وهم محمد بوضياف ومحمد خيضر ورابح بيطاط وحسين آية أحمد، وبعد مفاوضات (ايفيان) في فرنسا الاولى والثانية بقيادة كريم بلقاسم عام 1962 خرج الثوار من السجن. دخل بن بيللا إلى الجزائر ومعه بعض رفاقه من الثوار، وكان في استقبالهم قادة جيش جبهة التحرير، وفي المقدمة منهم هواري بومدين، وطاف بالعديد من العواصم المحلية، ابتداءا من وهران، لكي تستقبله حشود الشعب الجزائري بما يليق بمكانته التاريخية، وقيادته لحركة التحرير الجزائرية، وغادر رئيس الحكومة المؤقتة (يوسف بن خده) الجزائر إلى تونس بعد ان تجذر الخلاف مع القيادات العسكرية لجبهة التحرير تاركا الساحة السياسية لقيادات المرحلة الجديدة وفي مقدمتهم احمد بن بيللا.

 الأنقلاب على بن بيللا

في يونيه عام 1965 قام هواري بومدين بالأنقلاب على الرئيس احمد بن بيللا، مما استدعى قلقا على الجزائر لدي الرئيس عبدالناصر فأوفد كلا من عبدالحكيم عامر والكاتب محمد حسنين هيكل للأطمئنان

على المسار السياسي للجزائر، والرئيس احمد بن بيللا، والتقيا بهواري بومدين، الذي ذكر لهما أن الخط السياسي لن يتغير فالجزائر عربية وستظل تحمل رسالتها العربية، وان الرئيس احمد بن بيللا بخير وفي مأمن من اي متاعب، وان الخلاف خاص بالنهج السياسي الداخلي.

التعددية السياسية وظهور الأسلام السياسي

بعد رحيل هواري بومدين في يوم 27 ديسمبر عام 1978 تقلد الحكم لفترة انتقالية رابح بيطاط ثم انتخب وزير الدفاع الشاذلي بن جديد رئيسا للجمهورية عام 1979، وقد اتسم عهده بالأنفتاح السياسي أو وفقا لما يتردد من تعبير عودة الديموقراطية، والتعددية الحزبية، إلى حد ان بلغ

محمد بو خروبه الشهير بهواري بومدين
مكانة تاريخية عظيمة القدر والقيمة

عدد الأحزاب الجديدة أكثر من سبعين حزبا من مختلف التيارات الوطنية سواء اليمينية او اليسارية، وكانت التربة خصبة لبروز تيار الأسلام السياسي، نظرا للدعاوى التي قامت وترددت بأن فترة الأستعمار الفرنسي صبغت الثقافة الجزائرية بالعلمانية الأوروبية، وحركت في البلاد حركة التغريب من خلال هيمنة الفكر الغربي، وبذلك ظهرت على السطح عدة جمعيات وروابط وتنظيمات ذات الاتجاه الديني، وبرزت من بينها الجبهة الأسلامية للأنقاذ تحت رئاسة الشيخ عباس مدني، وخاضت الانتخابات، وسجلت نجاحا ملحوظان عام 1991 وخسر حزب الثورة أول انتخابات نيابية عامة، وكان ذلك تطورا غير محسوب، ، مما استفز الكثير من القوى، بعد ان اتخذت قاعدة المغالبة والأحادية، التي تعني السيطرة والتفرد، واستبعاد الآخر، لاسيما وقد صدر تصريح صادم من السيد (علي بلحاج) وهو من القيادات الكبيرة في الجبهة توعد فيه بانقلاب حاسم على مقومات الدولة المدنية، . انها نفس الآفة التي ارتكبتها مثل تلك التنظيمات في بعض بلدان العالم العربي، ومحاولة الأستحواذ على السلطة. وقد صرح سيد أحمد الغزالي، وكان يشغل موقع رئاسة الوزراء حينها أثر اذاعة نتائج الأنتخابات (ان الشعب قد صوت ضد الديموقراطيو) ! ترتب على ردود الفعل تلك أزاء تلك الأنتخابات وما رافقها من صراعات أن تدخلت السلطة لمحاصرة الأحداث التي وقعت من حوادث العنف والشغب مما هدد استقرار الدولة، أصدرت المحكمة الأدارية قرارا بحل الجبهة، وقدم الرئيس الشاذلي بن جديد استقالته، وحضر أو بمعنى آخر استدعي إلى الجزائر (محمد بوضياف) كما سبقت الاشارة، وانتخب بدعم من اللواء خالد نزار الذي امسك بمقاليد السلطة من خلف ستار، ولم يسع إلى ان يكون الرجل الاول، واكتفى بكونه صانع للرؤساء.، ، فهو أي بوضياف من القيادات التاريخية أيضا لحركة النضال الوطني، ولكن تم اغتياله من أحد أفراد الحرس. دخلت الجزائر في مرحلة من عدم الاستقرار. تقلد الحكم علي كافي، واليامين زروال، ولكنها فترات اتسمت بكونها تصريف اعمال دون اتخاذ سياسات نافذة، كما كانت في فترة هواري بومدين، وتم التراجع كثيرا عن خطوطها، إلى ان بدأت مظاهر الركود والفساد تستشري في جسد الدولة، وعوامل الترهل تكسو مؤسساتها، وأصبح رغم وفرة الموارد النفطية التعثر الاقتصادي يبدو ملمحا لاتخطئه العين.

وصول بوتفليقة

استقبل عبدالعزيز بوتفليقة عام 1999 استقبالا حافلا، حيث انعقدت عليه الكثير من الآمال، فهو في النهاية رمز لحركة نضال طويلة، وقد استبعد من الأختيار لخلافة هواري بومدين بعد رحيله تعبيرا عن حركة موازين القوى داخل المؤسسة العسكرية، بصرف النظر عن ارادة الحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطني) حيث كان (الشاذلي بن جديد) يمثل الجيش في المكتب السياسي للحزب الحاكم، بل انه قد تعرض للتهميش والاتهام بالفساد، وهو الذي كان من أقرب المقربين والمرشح الأول لخلافته. فقرر الابتعاد عن الحياة السياسية في عام 1981 وفضل الاقامة في دبي وسويسرا. وللمفارقة أنه بعد عودته في ذلك العام 1999، كان الجيش يعده مرشحه لأنتخابات الرئاسة، وقد أدار للأنصاف مؤتمرات، وندوات والقى محاضرات، وشارك في حوارات ونقاشات غطت مساحات كبيرة من المحافظات والمدن الكبيرة في انحاء الجزائر، واتسمت كلها بالحيوية والموضوعية في آن واحد.

كان الهدف ليس مجرد الدعاية الانتخابية، ولكن في الأساس وضع سياسة جديدة من (الوئام الوطني) واستعادة السلام في بلد أصيب بالكثير من الكوارث والتشوهات أزاء عمليات العنف التي جرت على الساحة الوطنية زهاء عشر سنوات فقد فيها الجزائر نحو 200 الف قتيل، والآلاف من الجرحى، ولذلك فان هذا الدور الذي قام به بوتفليقة يعد امتدادا لنضاله الوطني ضد الأستعمار، وقد نجح في ترطيب الأجواء مع التيارات الدينية، والتخلي عن العنف، بل انهم شاركوا في تأييده، ولقد تمكن أيضا من ان يحافظ على الجزائر أبان هبات ما أطلق عليه الربيع

الرئيس الشاذلي بن جديد
قام بالأفراج عن بن بيللا وأتاح التعددية الحزبية

العربي في عام 2011، واحتفظت الجزائر بقدر كبير من السلام الأجتماعي.

والآن يتطلع العالم إلى الجزائر

لقد تقدم عبدالعزيز بوتفليقة لأنتخابات الرئاسة عبر العديد من الجولات (الولاية الأولى والثانية والثالثة والرابعو) ورغم كل التحفظات على تعدد الولايات، إلى ان عطاء الفرد مهما كان يبقى قابلا للأستنفاد، ناهيك عن تقدم السن، ومايطرأ على الجسد والفكر من عوامل بحكم الطبيعة من وهن وتراخ. ان اجيالا جديدة تشب وعليها ان تتعلم أن التغيير سنة الحياة، وان مستجدات الحياة ومطالب الشعوب دائما تتقدم وتبحث عن حلول جديدة تتناسب وروح العصر، وليس هناك من هم أقدر على القيام بذلك سوى أبناء العصر الجديد، وفكر ذلك الزمان.

مازال الكثيرون يأملون في عبدالعزيز بوتفليقة أن يضرب المثل، وأن يقوم بنفسه للأعداد لأنتخابات جديدة، يشرف على نزاهتها، وأن يقدم في سجل اعماله النموذج الأمثل في تسليم السلطة لمن يختاره شعبه بصدق واخلاص، وأن تظل صورته في كل الأذهان انه كان أمينا في الحفاظ على مجموعة من القيم أرساها ذلك الجيل الذي جاهد وناضل من أجل ان ترتفع راية الجزائر وترفرف حرة في عنان السماء.

آمالنا مع الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، وامتدادا لتاريخ وطني جليل أن تظل صورته حتى في مشاهدها الأخيرة هي صورة المناضل الذي أعطى بسخاء من سنوات عمره، ومن حنايا وجدانه وجل عواطفه للجزائر شعبا وأرضا

وقلوبنا مع الجزائر الشعب والأرض، الأمل والرجاء أن يكونا في مأمن من ويلات »الربيع العربي«.