محمد حسنين هيكل في الذكرى الثالثة لرحيله

مازلنا نفتقد اطلالته، ونتطلع – في أسى – إلى مكانه الشاغر

أهم مايتميز به تراثه العريض هو ثراء العطاء وعمق الرؤى

أمين الغفاري

هل كانت صدفة رتبتها الأيام، وحاكت تفاصيلها الأقدار، أن توجد تلك الموهبة الفذة في التقاط الأحداث، وصناعة الأخبار، وصياغة الحكي، في زمن يترافق مع الحدث الكبيرعلى الأرض المصرية بقيام ثورة 23 يوليو عام 1952، وصداها وتأثيرها العميق في المجتمع المصري ثم بعديها الأقليمي والدولي، أم أنه بالأحرى نضج الظروف، وتداعي الوقائع الذي يؤدي في النهاية إلى التفاعل بين الدوائر، والتواصل بين كل الحلقات، بحكم عوامل التأثير والتأثر. لم يكن محمد حسنين هيكل مجرد(جورنالجي) كما كان يطلق على نفسه، وانما كان مفكرا وباحثا وقارئا نهما للمعرفة بأشكالها ودروبها المختلفة، وميادينها المتعددة، وبقدر عشقه للجري وراء الخبر، بما يؤكد السبق والأستفراد، بحكم اتساع المصادر وتميز العلاقات، بقدر ماكان أيضا ولعه بالصياغة وبفن وأسلوب الكتابة، ومن هنا اتسمت كتاباته برقي الكلمة، وسحر التعبير، مقترنة

محمد حسنين هيكل
عاش احداثا عاصفة، وعاصر قامات كبار

بجدية القضايا وعمق البحث بما يمكن وصفه، بالسهل الممتنع، ان لم يكن بالأدب الرفيع ولذلك لم يكن غريبا أن يكون له غراما خاصا بالشعر، بل ويتمتع بقدرات فذة في حفظ الوان مختلفة من نصوصه وقصائده، وكثيرا ما استشهد في احاديثه بالكثير منها سواء في السرديات الشعرية القديمة أو المعاصرة. ان عمق التجربة وثرائها مع سعة الاطلاع والولع بالمعرفة، والمبادرات الخلاقة أعطت لأسمه مكانة رفيعة في عالم وهبه عمره، وشغل كل حياته وهو عالم الصحافة، واستحق بجدارة أن يلقب ب(لأسطورة) في تلك الحرفة.

هيكل.. وجريدة الاهرام

أسس جريدة (الأهرام) أخوان لبنانيان هما بشارة وسليم تقلا، وصدر العدد الأول منها يوم 5 أغسطس عام 1875 في مدينة الأسكندرية كجريدة أسبوعية، ولكنها تحولت إلى يومية بعد شهرين من الصدور

ثم انتقلت الى(القاهرة)، وأصبحت توزع في مصر وبلاد الشام عام 1899. تعاقب عليها العديد من رؤساء التحرير كان آخرهم الكاتب (أنطون الجميل) من (1933 إلى عام 1948) ثم الكاتب (أحمد الصاوي محمد، وهو أول رئيس تحرير مصري لجريدة »الأهرام«، وكان يحرر عمودا يوميا تحت عنوان (ماقل ودل) في الفترة من (1948 إلى 1957). توالت خسائر الجريدة، حتى بلغت مليون ونصف المليون جنيه في العشر سنوات الأخيرة، ، نتيجة إلى هذا التردي في حجم التوزيع فكر الورثة من اصحابها في بيعها، وهو الأمر الذي دعى صديقا لهم هو(علي الشمسي باشا) إلى التدخل، واقتراح اسناد رئاسة تحريرها إلى صحفي شاب يمكنه ان يعيد اليها حيويتها وبريقها بادارة عصرية تستجيب إلى التطورات التي لحقت بصناعة الصحافة وكذلك في أساليب الأدارة، وكان الأختيار هو الصحفي الشاب محمد حسنين هيكل الذي كان يشغل في تلك الفترة رئاسة تحرير مجلة (آخر ساعة) كما أنه أحد رؤساء تحرير جريدة (ألاخبار) وكانت دار النشر لهما هي (دار أخبار اليوم). يقول الاستاذ هيكل كان الطلب الأول للسيدة (رينيه تقلا) أرملة جبرائيل تقلا باشا، هو وقف نزيف الخسائر الذي تتعرض له الجريدة، وكان طلب الأستاذ هيكل استقلالية التحرير. تم الأتفاق وكذلك تم تحرير العقود.

يقول الأستاذ هيكل: كانت ليلة بيضاء ناصعة البياض كثلوج الجبال، ليلة بلا نوم، فقد اتخذت قرارا مصيريا في حياتي، ووجدت أن أمامي مهمتان تسبقان غيرهما من المهام:

الأول: أن أخبر جمال عبدالناصر بما فعلت. الثاني: أن اقول الشيء نفسه لأصحاب أخبار اليوم وهم من كنت أعمل معهم. في الحادية عشر من صباح اليوم التالي كنت أمام جمال عبدالناصر في غرفة مكتبه بمنزله بمنشية البكري. لم أدخل في مقدمات وانما قلت له على الفور (أنني وقعت عقدا مع جريدة الأهرام)وكان الأمر مفاجئا له، وكان تعليقه الأول (أليس غريبا أن تقبل العمل في الأهرام، وأصحابه أسرة تقلا، بينما اعتذرت عن العمل في جريدة (الجمهورية) وأنا صاحبها)؟!« كان امتياز جريدة الجمهورية حين صدرت عام 1953 باسم الرئيس جمال عبدالناصر«. قلت له (ان الأهرام جريدة لها صاحب أستطيع أن أتعامل معه مهنيا، وأما الجمهورية فلا يمكن أن يكون لديك الوقت لممارسة مسؤوليات صاحبها، وبالتالي فهي بلا صاحب، وهذا يجعلها مهنيا معضلة شبه مستحيلة). قال (الأمر لك وكما تراه، فهو عملك ومستقبلك، وان كنت لاأخفي انني مشفق عليك من عناء تجربة جديدة مع اعتقادي أنك قادر على النجاح). دخل محمد حسنين هيكل جريدة (الأهرام) وهي تترنح من حجم الخسائر، ويفكر أصحابها جديا في بيعها، ولكن هيكل لايحولها فقط إلى جريدة يتوقف نزيفها في الخسائر، ولكنها أيضا تمضي في طريق النجاح إلى حد تحقيق الأرباح، بل وبناء صرح كبير يضم مكاتبها ومطابعها، ويصدر مطبوعات جديدة صادرة عنها منها مجلة (الطليعة) مجلة شهرية رأس تحريرها الكاتب (لطفي الخولي) وقد حققت نجاحا وتوزيعا كاسحا، ومراكز للدراسات السياسية والاستراتيجية، ويقتحم بذلك العمل عوالم الفكر والثقافة، واعداد الكوادر البحثية التي يمكنها ان تساهم في قيادة الحركة الفكرية والثقافية، بل ويضم إلى كتاب (ألأهرام) كبار الكتاب وأساطين الفكر، ومنهم احمد بهاء الدين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، والدكتور لويس عوض ورسام الكاريكاتير صلاح جاهين، وغيرهم، وقد نتجت عن كل تلك الجهود، أن أصبحت جريدة (الأهرام) هي الجريدة التاسعة على مستوى العالم بحكم المواصفات العامة للصحف العالمية من حيث حرفية الخبر ومصداقيته. ثم في التأكيد على مكانته الشخصية كصاحب قلم يكتب مقاله الأسبوعي (بصراحة)، ويصبح ذلك المقال هو الأشهر في العالم العربي، ويتم التركيز عليه عالميا باعتباره مؤشرا أو مفسرا للسياسة المصرية واتجاهاتها.

محمد حسنين هيكل وجمال عبدالناصر

كان اول لقاء بين عبدالناصر ومحمد حسنين هيكل أبان حرب فلسطين، وعلى ارض المعارك وحصار الفالوجة، ثم تعددت اللقاءات في القاهرة، وقد قام المخرج السوري العالمي (مصطفي العقاد) بانتاج فيلم عن عبدالناصر تم عرضه على شاشة التلفزيون البريطاني عام 1987 عبارة عن حوار بين الكاتب البريطاني (باتريك سيل) والمصري (محمد حسنين هيكل) وقد تخلل الحوار مشاهد كثيرة مصورة عن عبدالناصر، وبعضها عائلي وشرح الكثير من القرارات والمواقف التي اتخذها عبدالناصر وهو مايعكس عمق العلاقة بينهما التي كان يمكن وصفها

محمد التابعي
أستاذ الصحافة الذي أسس آخر ساعة

بالصداقة أكثر منها موقع المستشار. يروي الاستاذ هيكل لقاءا قد تم بينه وبين الملك عبدالله ملك السعودية، وقد كان اميرا في ذلك الوقت، وقال له (الأمير) عبدالله: لقد هاجمتنا كثيرا يااستاذ هيكل ولكن كل ذلك مغفور لك، نظرا لأخلاصك لصاحبك)

ورد الأستاذ هيكل (صدقني ياسمو الأمير أن ذلك التعبير لايسعدني، لأن الأخلاص في ذلك الأطار وهو الصداقة يشبه اخلاص الكلاب، ولكن اخلاصي ليس للرجل فقط وهو بالتأكيد يستحق الأخلاص له، ولكن اخلاصي الأكبر هو لما طرحه عبدالناصر من مبادئ، وانتهجه من سياسات لخطوات أنا أوافقه عليها.

لمحات من رؤى محمد حسنين هيكل

حرب عام 1967، والنتيجة التي ترتبت عليها، كانت من وجهة نظر عبدالناصر (هزيمة) وكانت رؤية هيكل أنها(نكسة وليست هزيمة) ودار حوار بين الأثنين اقتنع عبدالناصر بتعبير(نكسة) ولذلك ضمنه خطاب التنحي، ولكن يحلو للبعض ان يقول، ان هيكل أراد تخفيف الوقع على الأسماع بهذا التعبير عوضا عن كلمة الهزيمة، ولكن الحقيقة كما يشرحها هيكل تعني أن الوصف الحقيقي لما حدث هو (نكسة) وليس هزيمة.. كيف ؟ يقول هيكل أن الهزيمة تعني أن المعركة قد تم حسمها ولم يعد أمامنا سوى أن نقول نحن مستعدون لقبول شروط الهزيمة والأستسلام للأمر الواقع، وقد سألت عبدالناصر لو انك لم تقرر التنحي، فهل كنت ستسلم بالأمر الواقع، ورد عبدالناصر بالطبع لا، سوف نستعد ونستأنف القتال (ذلك ماحدث وتم استئناف حرب الأستنزاف)، وعاد هيكل ليعقب بالقول على هذا النحو فالمعركة مستمرة، ولم نصل لمرحلة الهزيمة التي تستوجب الاستسلام، ثم من جانب آخر، انك ستعلن تنحيك، وسوف يأتي رئيس آخر قمت بترشيحه وهو زكريا محيي الدين، فما هو موقفه، حين يجدك تعلن أننا انهزمنا، أليس عليه أن يمارس اجراءات مترتبة على ذلك الاعتراف بالهزيمة، ويعلن أنه مستعد لشروط الصلح أي الأستسلام. يقتنع عبدالناصر ويوافق على تعبير (النكسة) ليس تخفيفا من وقعها على الآذان، اي نوع من التهوين أو الخداع، وانما باعتبارها وصفا علميا ودقيقا لماجرى.

يؤكد ذلك المعنى الرئيس الفرنسي الراحل (شارل ديجول) في برقيته للرئيس عبدالناصر بعد اعلان التنحي التي يقول له فيها (أنني أدرك أن تنحيك عن الرئاسة يقع تحت عوامل الكبرياء، بينما النصر والهزيمة في تاريخ الشعوب عوارض يمكن تدارك السلبي منها، ولعلك تذكر انه في الحرب العالمية الثانية كان نصف فرنسا محتلا، بواسطة الألمان، وكان على قمة الحكم عميل أعلن الأستسلام، ولكن ذلك لم يستمر، اذ تبقى الشجاعة الحقيقية هي استمرار الصمود ومواجهة التحدي).

ماذا يقول هيكل عن الصحافة في زمن التلفزيون والانترنت وذيوع الأخبار فور وقوعها.. ؟

يقول (الأستاذ) ان الصحافة الآن تعتمد على كم الأخبار، بمعنى ملو عدد الصفحات أو بمعنى آخر ملو (الشوال أو المقطف) والمطلوب التخلص من قيود تلك الصحافة المعروفة باسم صحافة (الخبر) وهي مدرسة راجت في زمن مضى، فقد جاء التلفزيون والفضائيات والصحافة الالكترونية وسلبت الصحافة ذلك التميز، ولكن المشكلة الأخرى أن هناك صحفيون احترفوا الصحافة وهم لايقرأون، وبالتالي لايستطيعون تجاوز سطح الخبر، ولن يوقف صحافة الاشاعة والفيسبوك الا ثورة تتناول تطوير الأليات ومسارات العمل والصرف على اعداد الصحفي الشامل المثقف القادر على ان يصل بتحليله ورؤيته وفهمه لأبعاد الأحداث والأخبار إلى مالا تصل اليه عين الكاميرا. ان تلك فرصة النجاة للصحف من سطحية وتسرع الصحافة الالكترونية التي تتقوقع خلف الأثارة لتحقيق أعلى معدل من القراءة، وينتهي الأستاذ إلى القول (ان صحافة ملو المقطف أو الشوال لاتبني الأمة ولا تشكل وجدان القارئ كما انها لاتعيش طويلا.

كيف يرى هيكل (الربيع العربي)

يقول أن هناك محاولات حولنا لسرقة الثورة العربية التي تطوع البعض وأسماها (الربيع العربي) وهي تسمية لا اجد عندي حماسة لها، بل لعلي لاأنكر أنني أستريب في هذا التعبير (الربيع)مقرونا بالثورة العربية، فالثورات ليست فصولا تتكرر كل موسم، والربيع في هذه المنطقة – في الطبيعة على الأقل – فصل قصير العمر محصور بين الشتاء والصيف !! ومسميات »الربيع« كلها فاشلة، من ربيع أوروبا عام 1848 إلى ربيع براج عام 1968 كلها خيبات أمل !!أضف إلى ذلك ان هناك قوى تحاول الأستيلاء على »ألربيع العربي«كما يسمونه، وتحاول استغلال موسمه، وتحاول تزويقه وكأنه زهور الطبيعة قد تفتحت وحان قطافها. لاأحد يستطيع ان يقنعني أن باراك أوباما أو ساركوزي أو ديفيد كاميرون هو البستاني الموهوب. لا البتاجون بستاني الربيع العربي، ولا (مجلس التعاون الخليجي) مع احترامي لكثيرين فيه هو مجلس

مصطفى امين
أستاذ صحافة الأثارة بلا منازع

قيادة الثورة الديموقراطية في العالم العربي. يستطرد الاستاذ هيكل في القول ان مناي على أصدقاء أحبهم وأعترف بدورهم – أن يقرءوا كتابا عن الثورة الليبية نشره في باريس أخيرا (برنارد هنري ليفي) وهو الصديق وثيق الصلة بالرئيس الفرنسي »نيكولاي ساركوزي« وهو المتعاطف أكيدا مع اسرائيل، ليس لأنه يهودي، ولكن لأنه عاشق للدولة الصهيونية حسب قوله هو، وكتاب »ليفي« الجديد عنوانه (الحرب بدون أن نحبها) LaGuerre sans I aimer

(يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي) وقد شرح فيه برنارد ليفي دوره العملي فيما جرى في ليبيا، وهو بالضبط كتاب (أعمدة الحكمة السبعة) لـ»لورانس« مع اختلافات واسعة في الجنسيات وفي الكفاءات وبعض مايرويه »ليفي« في كتابه »مرعب« فهو يقول في صراحة انه صانع ماجرى في ليبيا ومدبره وانه هو الذي كتب بيانات المجلس الانتقالي في ليبيا وانه هو الذي حرك دفعات المال وشحنات السلاح من كل مكان إلى ليبيا وهو الذي دعا إلى حشد القوات ولقد بلغت صراحته حدا غير معقول عندما وجّه اللوم إلى رئيس الوزراء البريطاني »دافيد كاميرون« لأنه لم يقبل بالمشاركة في العمليات الا بعد ان أخذت الشركات البريطانية نصيبا من بترول ليبيا مقدما !!. ذلك نموذجا لما جرى على أرضنا العربية من أحداث (الربيع العربي)

تراث… محمد حسنين هيكل

ترك الاستاذ هيكل ثروة ضخمة من المعلومات وشرحا وتفسيرا لما وقع من الأحداث التاريخية في المنطقة أو حول العالم، ووفتح العديد من الملفات حول قضايا الصراع، والمواجهات، بل والمعارك التي خاضتها ثورة يوليو، ودور عبدالناصر الحاكم والزعيم، وقال له ذات يوم مؤرخ بريطاني شهير، وهو يحاضر في جامعة أكسفورد البريطانية، لقد تعودنا أن نؤرخ من سطور أبحاث وقراءاءت واستماع إلى شهادات، ولكنك تؤرخ لأحداث من واقع ماشاهدت أنت وعاصرت وتعايشت، فقد كنت ترى من داخل التجربة. قال له عبدالناصر ذات يوم انني لم اكتب مذكرات، ولكني وضعت تحت يدك صورا لوثائق وبرقيات ومراسلات عن كل شيء، حتى تكتب وتروي ماجرى، وقال هيكل سنكتبها ذات يوم معا، ورد عبدالناصر (ان الذي يعيش حياتي لايمكنه أن يحلم بالشيخوخة.. ولذلك أقول لك أنك ستكتب عن التجربة وحدك.