شكرا لحياتي الطيبة ديوان للشاعر المصري عصام أبو زيد صدر حديثا عن دار روافد

سناء بزيع

للشاعر تسعة دواوين نذكر منها: النبوءة – ضلوع ناقصة – كيف تصنع كتابا يحقق اعلى مبيعات- اكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم – الحياة السرية للمجنون الأخضر- اخترعت برتقالة – الحركات الرئيسية لرقصة الميرينجو – أحلام مورغان فريمان. بالإضافة إلى رواية بعنوان »يوميات ناقل اسرار«.

لا نعرف عند الشاعر عصام أبو زيد مَنْ يصطاد مَنْ.. اللغة أم حبرها، الحياة أم الموت، النساء أم المدن. يبعثر أحلامه في مسافات مدن ونساء لا تنتهي.

»فحياتنا المنثورة من حياتنا المبتورة، أعتقد أن الحياة تعلمت معنا واعتذرت عن أخطاء لم نسمع بها، لكنها حدثت«.

ضجيج هائل بصورٍ تنساب كانسياب المطر في ملامح نسائه، بلغة عفويةٍ ملموسة وتوليفة شعرية تسكنها عوالم متخيلة ومفككة، خيالٌ كأشباحٍ تتلاطم للسيطرة على حدسنا، نلهث وراءها لندخل في لعبته فتتقمصنا القصيدة. مقاطعٌ قصيرة من صخب حياة أو صخب جنون، فان القصيدة مصنوعة من مناخاتٍ نفسية مزاجية للشعر والشاعر. يؤلف الحبيبة كما يؤلف القصيدة بصياغة من عوالم متقلبة وفصولٍ متناقضة بين الولادة والموت، والكآبة والألوان، بين الوجع والموسيقى.

الشاعر المصري عصام أبو زيد

تتواطأ اللغة عند أبو زيد على حبيبات هلاميات، جثثٌ، أو مبتورات الأطراف، وهنَ أيضاٌ مكتملات الأنوثة برائحة اللافندر والنعناع.

»وجدنا جثتك تعوم فوق سطح بحيرة اللافندر كانت جثة تتحرك…

هل تعرفين ماذا وجدنا في قلب جثتك؟ وجدنا أغنية الأنفاس الأخيرة لطائر الوروار….«

الموسيقى في شعره كالنساء والمدن حضوراُ بأسمائها وأسماء مغنيها أو مؤلفيها، تظهر جلية في شعره كما حياته على حد قوله، »الموسيقى هي شغفي، أسمعها كوجبة أساسية للعيش أما الشعر فأكتبه لا لشيءوأستطيع التخلي عنه«.

يعرف أبو زيد كيف يصغي إلى الجسد بأبعاد الفرح والحزن والخوف والوجع والخلود والموت والولادة. »الروح نباتية تحناج أن نطعمها كل يوم«. والأنقى في ديوانه رسالة الشعر والحب والحياة والموت والأمل فيقول:

»الأجمل أن أموت في الخامسة والسبعين، هذا قراري ولن أتراجع عنه… ربما أبقى عامين آخرين لأتعلم كيف أبتسم… قضيت حياتي بابتسامة شاحبة، ولا أريد أن يراني الموت فيظن أنه هزمني«.

كتابات عصام أبو زيد تنويعٌ هندسيّ في فضاء شعري. المعرفة بُعده الأوّل، إذ إن شعر أبو زيد بلا ريب تكثيفٌ مركّزٌ هائل للمعرفة. يكفي التوغّل قليلا في قصائده لملاحظة الاستحضار شبه الدائم للأسماء والتاريخ والمعرفة من كارل ماركس و»رأس المال« إلى إنريكو داندولو.

»اذهبي إلى الحياة… اذهبي ودعيني

معي امرأةٌ من المنطقةِ اليابسة

معي صورةٌ لصديقِنا الإيطالي العجوز

إنريكو داندولو…

الأعمى الذي تجاوزَ التسعين

وما يزا ل حاكمًا للمدينة…

حاكمًا في خيالِه«.

يمكن القول أن أبو زيد يرفع السقف عاليا منتصرا لشعره. يرفض أن يكون شعره نصّا يُقرأ بهمود ذهنيّ لدى القارئ لمجرّد استخراج متعة قشريّة منه. على العكس تماما، يطلب أبو زيد من قرّائه أن يكونوا مُلمّين ومعرفيّين لدخول نصّه أو يمكن القول أنه يقدّم نصّه كفعل معرفة أيضا.

هذا العمقُ المعرفيّ، واستحضار المعلومة لصقل الصورة الشعرية التي يريدها، يقابله عمق الألم. يطمح أبو زيد إلى أن »يُكمّم« الوجع. يريد أن يقيس وزنه يعرف لونه وأين يجده. ربما يكون ذلك لثأر شخصي معه. فالألم يكاد يكون عند أبو زيد أحيانا منتهى علاقات انتهت ولم ينتهِ طيفُها من مطاردته. كأنّه يوافق ابن حزم على ما قاله في »طوق الحمامة« بأن »الحبّ أوّله هزلٌ وآخره جِدّ«. هو الوجع العميقُ أيضا حتى يُخيّلُ لأبو زيد أنه »يخترق جسد الكوكب، يخترق المجرّة والفضاء«.

بيد أنّه من الصعب جدّا الحكم على أبو زيد بأنّ شعره حداءٌ للألم. شعره يبدو احتفائيّة مستمرة بالحياة فيما يبدو الشاعر نفسه استعادة لزوربا اليونانيّ. فالشاعر الذي نرى المدن مترامية في أرجاء قصائده، يتخذ المكان بُعدا آخرا لشعره. يجرّ أيدي قرّائه إلى تجربة هي أشبه بـ»وحدة شهود« للجمال والشعر في عالم يذوب فيه المعيار المكانيّ وحدوده. خفيفا يتنقّل أبو زيد بين المدن؛ غير أنّه يرفض أن يكون رحّالة كلاسيكيا ينتقي الأجمل من المدينة ويوظّفه. المكان أو المدينة في قصائده تكتسب معناها ومرادفاتها من تجربة الشاعر فيها. هي عملية من الاستيعاب أوالتحاكي الأنطولوجي للعالم لا ينفكّ أبو زيد يجريها خلال فهمه للعالم من حوله. هو تراقصٌ جدليّ بين العالم كما يبدو وبين فهم الشاعر لهذا العالم والمعنى الذي يعطيه له. فعصام أبو زيد يرفض أن يكون شاعرا لوصف العالم الذي يمرّ به، بل يصرّ على كونه شريكا بتكوين معنى هذا العالم حتى لا يبدو غريبا وقتئذ أنه يعلن »اختراعه لبرتقالة«.

أما المرأة فقد تكون مركز ثِقَل قصيدة عصام أبو زيد. المرأة تارة هي تلك المُستعادة بمشهدية أندلسية مصحوبة بألم مسلوبيّتها واستدراك متأخّر للفراغ الذي خلّفته؛ فراغ بحجم كوكب تجوّف. وطورا هي الحاضرة بقوّة في الطرف الآخر من حوار دائم يجريه أبو زيد معها، يغازلها، يسألها، تسأله، يتحابّان ويشتبكان. أحيانا هو الزاهد بالعالم والمُكتفي بامرأة؛ »يحبّها مثلما يحبّها«.

لا يستحيي الشاعر أن يكتب مثلا ما رقما فما فوقه. فعصام أبو زيد يسحب تعريف بالمعنى والصورة إلى لانهائيته. لا يكترث بكلاسيكيات الزخرف الشعري للقصيدة. فهو يترك قصائده بلا عناوين، لا يتردد في ذكر التواريخ والأرقام، ويغنيها كثيرا بالأسماء والمدن. فالمعنى والصورة الشعرية الحقّة هما مبتغى أبو زيد لا رتابة اللحن أو بلادة التمسّك بالهالة التقليدية التي تحيط بالنص ومفرداتها.

العدد 91 – نيسان 2019