أسرار النهضة الصينية

الدكتور إبراهيم الحريري

»ليس هناك مناطق غير منتجة بل عقلية غير منتجة وليس هناك وطن فقير بل عقل فقير« ماو تسي تونغ

»القيادات الشابة يجب الا تصعد بطائرة هيلوكوبتر بل يجب أن تصعد خطوة بخطوة« دينغ شياو بينغ

بكل بقاع الدنيا بكل نقاط الأرض، صنع في الصين موجودة في كل مكان: في ثيابنا واحذيتنا والعابنا وسياراتنا وهواتفنا وادواتنا الالكترونية والقرطاسية وحتى فواكهنا وخضرواتنا ومشروباتنا لدرجة ان التصنيع اصبح صيني حتى يثبت العكس فالصين هي مصنع العالم كل العالم،

ماذا نعرف عن الصين؟

بمساحة 9. 6 مليون كيلومتر مربع وعدد سكان يفوق 1. 4 مليار ينتمون إلى ست وخمسين قومية عرقية مختلفة، وناتج قومي اكثر من 14 ترليون دولار عام 2018 لتحتل المرتبة الثانية عالميا ملاحقة الولايات المتحدة الامريكية وشكلت 16. 1  من الاقتصاد العالمي

ويعد اليوان الصيني هو العملة الرسمية للبلاد، ويرجع إعلان قيام الجمهورية الصينية الشعبية إلى عام 1949 وعاصمتها بكين، بينما تُعتبر مدينة شانغهاي هي الأكبر بين المدن الصينية، والمندرين هي اللغة الرسمية للبلاد.

و من خلال دراستنا للنهضة الصينية سنقسم هذه النهضة إلى أربع مراحل:

الاشتراكية التقليدية والمركزية (1949-1977)

التحرر الاقتصادي واللامركزية (1978- 1988)

السبات وثورة الجياع (1989- 1991)

العالمية وتطبيق الطريق الثالث (1992- 2019)

بهزيمة بريطانية العظمى الصين ما بين عامي 1839-1842 أصبحت دولة فقيرة شبه مستعمرة مما ساعد على انتشار الفوضى وتمرد كافة أطياف الشعب فتولدت ثورة عام 1911 والتي انتهت بإسقاط النظام الملكي الديكتاتوري وأعلنت الجمهورية في عام 1912.

 وبدلًا من أن يستقر الوضع السياسي في الصين ازدادت الأمور سوءا ونشبت نيران الحرب الأهلية، وما إن بدأت الأوضاع في الاستقرار حتى وقع الغزو الياباني لمنشوريا في عام 1931 وتلاه اندلاع الحرب الصينية اليابانية الثانية في الفترة بين عامى1937 و1945 وبهزيمة الصين لليابان بدأ صراع من نوع آخر بين الحكومة الصينية وميليشيات الحزب الشيوعي وانتهى عام 1949 بسيطرة الجيش الأحمر التابع للحزب الشيوعي على الحكم وإعلان ماو تسي تونج قيام جمهورية الصين الشعبية.

المرحلة الاولى: الاشتراكية التقليدية والمركزية (1949-1977):

كانت بداية الفترة عام 1949 باعلان ماو تأسيس جمهورية الصين الشعبية وانتهاجه النهج الاشتراكي السوفياتي من حيث الفكر والتكنولوجياو التمويل فتم بناء البيرقراطية الاشتراكية التي أوقفت كل الملكيات الفردية والصناعات الخاصة وملكية الاراضي لتصبح مركزة بدولة مركزية يغلب عليها طابع المركزية والبيروقراطية حيث تم تجميع الأراضي الزراعية في شكل جمعيات تعاونية كبيرة تتكون كل جمعية من 1200 أسرة ريفية تنعدم لديها الملكية الخاصة تمهيدا لتأسيس اشتراكية زراعية كاملة.

و تمتازهذه الفترة بالصناعات الاساسية والثقيلة والتجهيزات وخصوصا الصناعات المتعلقة بالدفاع وقد تم رسم الخطط بالتخطيط متوسط الامد من خلال الخطط الخمسية،

الخطة الخمسية الأولى (1953-1957)و فشلت فشلا ذريعا حيث بلغ معدل النمو في عام 1953حوالي 15. 6 بينما انخفض إلى 5. 1 في عام 1957 ويرجع هذا الانخفاض في معدل النمو إلى عدم ملائمة الاستراتيجية السوفيتية المطبقة للوضع في الصين.

الخطة الخمسية الثانية »استراتيجية القفزة الكبرى للأمام« في الفترة (1958-1962) وكان الدافع ورائها هو إلغاء اتفاقيات التعاون بين كلا من الصين والاتحاد السوفيتي وتوقف المعونات السوفيتية للصين، فشجعت بعض اللامركزية وحاربت البيروقراطية وكانت الكميونات الشعبي »The people’s Commune« أهم ميزاتها والتي تعتمد على التطوير الشامل بكافة المجالات الصناعي والزراعي والتعليم والثقافة ونتج عن هذه التجربة فشل كبير وكساد ومجاعة وسوء تغذية نجم عنها وفيات قدرت ب 30مليون مواطن وذلك لان هذه الوحدات الاقتصادية كانت مطالبة بتأدية ثلث انتاجها للدولة كضريبة وبسبب الفساد والتضخيم والمبالغة بأرقام الانتاج التي تصل للرئيس ماو من الفاسدين جعل هذه الوحدات تدفع كل مالديها وقد تكون مدانه مما جعل الكساد سيد الموقف والمجاعة والبؤس لهذه الوحدات رغم امتلاء خزائن الدولة بالمحاصيل وفائضها.

و كان من نتائج فسل استراتيجية القفزة الكبرى استقالة ماو من رئاسة الجمهورية وتفرغه لرئاسة الحزب الحاكم مما سمح له بالتخلص من اعداءه داخل الحزب.

الخطتين الخمسيتين الثالثة (1966- 1970) والرابعة (1971- 1976) فترة الثورة الثقافية هي الاعتماد على الذات فقد اهتمت الدولة في البداية بالحدِّ من الاستهلاك الفردي في سبيل تعزيز الاستثمار

انتهت الثورة الثقافية بزلزال موت ماو 1976 وتلا ذلك عامان من الصراع على السلطة إلى أن تولى دينجشياوبنج الرئاسة.

المرحلة الثانية: التحرر الاقتصادي واللامركزية (1978- 1988):

بدأت الصين في هذه الفترة بتطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح على العالم الخارجي وانتقلت إلى مرحلة متقدمة اقتصاديا مختلفة عما حدث قبل 1978 فخلال انعقاد المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الصيني في نفس العام وتم الاتفاق على القيام بإصلاحات اقتصادية منها:

تحويل الاقتصاد الصيني وتطويره ليكون أكثر تناغما مع الاقتصاد العالمي وتحولاته مما يشجع التصدير.

ترتيب الالولويات للقطاعات فالزراعي اولا ثم الصناعي والبحث العلمي والدفاع.

اشراك القطاع العام والخاص بالتنمية من خلال السماح بالشركات الخاصة وتشجيعها لما لها من أثار ايجابية على التطور والنمو مع احتفاظ الدولة بالسيطرة على الصناعات الثقيلة والطاقة والتعدين.

تسهيل الاجراءات الادارية والاستثمارية بعيدا عن بيرقراطية الحزب الحاكم.

جذب رؤوس الأموال الأجنبية والتكنولوجيا المتقدمة.

تشجيع مؤسسات الدولة للمشاركة في المنافسة بالأسواق العالمية

التركيز على البعثات العلمية الصينية بالخارج.

اعطاء حق للمقاطعات المحلية أن يكون لها ممثلين تجاريين في الخارج وفٌتح المجال أمام إقامة المشروعات الخاصة والمشتركة مع الاستثمارات الأجنبية.

تشجيع القطاع السياحي.

السعي للانضمام للهيئات المالية والتجارية الدولية.

 كما قدم دينج خلال مؤتمر الحزب الحاكم في 1982 فكرته عن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية وضرورة التحول نحو »اشتراكية السوق« أو الطريق الثالث كما يحب أن تسمى تجربتهم بمعنى نظام اقتصادي تكون فيه وسائل الإنتاج ذات ملكية عامة تعمل من أجل الربح في إطار اقتصاد السوق وتستخدم الأرباح في تحديد أجور العاملين وكمصدر تمويل عام.

وقد شهدت هذه الفترة بداية النهضة الاقتصادية لجمهورية الصين الشعبية وتم تحقيق العديد من الانجازات فقد وُضعت استراتيجية تنموية ملائمة لواقع الصين من ثلاث خطوات وحدد مدة زمنية قدرها 70 سنة لتحقيق أهدافها وركز خلال الخطوة الأولى أن يتم توفير الغذاء والكساء لكافة المواطنين خلال فترة 10 سنوات ونجحوا في تحقيق هذا الهدف قبل نهاية الثمانينات وتمثلت الخطوة الثانية في مضاعفة الناتج المحلي بـــــــ4 أضعاف في نهاية القرن العشرين وقد وصل للمعدل المطلوب منتصف التسعينات، أما الخطوة الثالثة فكانت زيادة معدل دخل الفرد ليصل لنظيره في الدول متوسطة النمو عام 2050

بدأت التحركات الفعلية لتحقيق رؤية دينج بالانفتاح على العالم واستقدام التكنولوجيا من الدول المتقدمة خاصة الغربية منها، فتم توقيع الصين لمعاهدة السلام والصداقة مع اليابان في عام 1978، وخلال زيارة للولايات المتحدة عام 1979 تمكن من إعادة العلاقات مع الولايات المتحدة ثم تحسنت علاقة الصين تدريجيا مع الاتحاد السوفيتي بعد انقطاع طويل.

المرحلة الثالثة: السبات وثورة الجياع (1989- 1991):

ارتفاع معدلات التضخم وانتشار الفساد وارتفاع التوقعات بحدوث تغيير سياسي واقتصادي ادى عام 1989 م لقيام مظاهرات حاشدة واعتصامات مستمرة وبما يقارب 400 مدينة على امتداد الصين لمدة 7 اسابيع وكان اشهرها اعتصام الطلاب والعمال بميدان تيانانمين »Tiananmen« بوسط العاصمة بكين والذي انهته الحكومة الصينية بقوة السلاح.

ادركت الحكومة الصينية أن العودة مره أخرى إلى الإصلاحات الاقتصادية والسياسية شيء لا مفر منه وخاصة بعد الهزة القوية التي شهدها الاقتصاد العالمي في عام 1991 عندما انهار الاتحاد السوفيتي.

المرحلة الرابعة: العالمية وتطبيق الطريق الثالث (1992- الان):

في بداية عام 1992 قام دينج بزيارة بعض المناطق الاقتصادية في جنوب الصين كما أعاد التأكيد على استئناف الإصلاح الاقتصادي وأوضح أنه »لا يهم إذا كانت السياسات المتبعة اشتراكية أو رأسمالية طالما أنها ستعزز التنمية« فالتنمية هي الثابت الوحيد الذي يجب السعي لتحقيقه أيًّا كانت نوعية السياسات المتبعة

في عام 1995 نجحت الصين في تحقيق الهدف الاستراتيجي التي خططت له قبل ميعاده بخمسة سنوات، حيث استطاعت أن تزيد قيمة الناتج المحلي الإجمالي أربعة أضعاف ما كان عليه في عام 1980، حيث بلغ الناتج المحلي في عام 1995 حوالي 5760 مليار يوان مما شكَّل قفزة كبيرة في تاريخ التنمية الاقتصادية في الصين، كما نجحت في زيادة دخل الفرد من390 دولار إلى 7820 دولار خلال الفترة (1992-2015)

عام 2005 وبنهاية الخطة الخمسية لتلك المرحلة تحسن الهيكل الاقتصادي الصيني بشكل كبير، حيث بلغت القيمة المضافة للصناعات غير الزراعية 85. 1 وحوالي 14. 9 للمنتجات الزراعية، كما حدثت طفرة كبيرة في البنية التحتية من حيث تطوير شبكة الطرق ومد خطوط الغاز الطبيعي للمناطق الريفية، ذلك بالإضافة لزيادة الصادرات التكنولوجية الصينية بشكل كبير والاهتمام بجودتها وليس فقط كميتها.

قامت الصين في عام 2008 باستضافة دورة الألعاب الأوليمبية بما ساعد على تنشيط الاقتصاد على الرغم من الآثار السلبية للأزمة المالية العالمية آنذاك، كما قامت الصين في عام 2010 باستضافة معرض إكسبو العالمي في شنغهاى مما أدى إلى زيادة نفوذ وقوة تأثير الاقتصاد الصيني في العالم.

ماهي اسرار النهضة الصينية؟

نلخص أهم الاسباب للنهضة الصينية بما يلي:

رخص اليد العاملة الصينية وتحقيق مبدأ« إرادة الشعبminyi))مقابل مشاعر الشعب(minxin)«.

تأمين الأمن الغذائي وهو التحدي الاكبر لقرابة 1. 5 مليار من البشر.

سياسة الولد الواحد وأن كان لها أثار سلبية بشيخوخة الدولة.

الاهتمام والاعتماد على الجيل الجديد الشاب وتشجيعهم مما أنتج المليارديرية الشباب.

الاهتمام بالتعليم وخصوصا المواد العلمية الرياضيات والفيزياء والكيمياء

ادارة التنمية »اقتصاد السوق الاشتراكي« والقيادات التي كان هدفها التنمية وليس غيرها رأسماليا ام اشتراكيا.

اقتصاد الاولويات الزراعي ثم الصناعي فالبحث العلمي والدفاع.

الاستثمار بالبنية التحتية لكي لا يترك المواطنين مناطقهم بحثا عن العمل.

تطبيق نظام الاسر المنتجة،

مظلّة التأمين الاجتماعي: تعليمٌ مجاني وتأمينٌ صحي ودعمٌ لذوي الاحتياجات الخاصة بحيث لا يكون هناك فقرٌ مدقع.

مكافحة الفساد بكل مكان وايصال عقوبته للاعدام.

إعداد قوانين تسهل أعمال التصدير، وتُشجّع الاستثمارات الأجنبية.

اشراك الجامعات والافراد ومراكز البحث والتكنولوجيا في اتخاذ القرارات والتخطيط مثل مدونات موقع ويبو

وتحقيق إنجازات عظيمة بموارد محدودة،

الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص واحيانا التنافس لتحقيق التنمية والافضل.

هذه هي الصين التي تنافس الدول لتتربع على عرش اقوى الاقتصادات العالمية ولم تصل لهذه المرتبة الحالية الا بعد صراع وتنافس وتحسين مستمر وتنمية وبنهضة سلمية يتحدى عدد السكان ونمو مستمر من خلال الطريق الثالث الذي لم يكن رأسماليا ولا اشتراكيا بل طريقا وأسلوبا جديدا ودمغ ببصمة«صنع في الصين« وهي تسعى لتصدير هذا الفكر للدول الاخرى ككل المنتجات.

العدد 91 – نيسان 2019